من درجة إلى أخرى بدأت أعصابه تهدأ،وحين بلغ أول درج الطابق الثاني أرجعته موجة حر ، بدأ يشعر بها،إلى وعيه، فتذكلا أنه ما يزال يرتدي معطفه وشاله وحذاءه المبطن بفرو الخروف.وأنه ربما يخرج أحد سكان العمارة من باب المطبخ إلى درج الخدمة الخلفي:خادمة في أحد البيوت تخرج للتسوق،أو السيد ريغو يُخرج زجاجات النبيذ الفارغة،أو ربما خرجت السيدة لاسّال لسبب ما.فهي تستيقظ مبكراً ولابد أنها مستيقظة الآن،فالمرء يستطيع شم رائحة قهوتها النفاذة تملأ بيت الدرج.
ربما تفتح السيدة لاسّال الآن باب المطبخ وتخرج فتراه هو،جوناثان واقفاً أمامها تحت شمس أغسطس الساطعة في تنكره الشتوي المثير للسخرية!

ولن يكون بإمكانه تجاهل إحراج كهذا دون أن يبرر لها،فماذا عساه يقول؟ سوف يتوجب عليه اختراع كذبة ما،ولكن أي كذبة؟فمظهره لايمكن أن يجد أي تبرير قابل للتصديق!وكل من يراه على هذه الحال لا يمكن أن يظن إلا أنه مجنون.ربما كان هو مجنوناً فعلا.

وضع جوناثان حقيبته أرضاً وفتحها ليتناول منها حذاءً خفيفاً،ثم قام بنزع حذائه الشتوي والقفازات بسرعة وخلع عنه المعطف والشال، وضع الشال والحذاء الشتوي والقفازات والمظلة في الحقيبة وألقى بالمعطف على ذراعه.الآن بدا مظهره مألوفاً لمن يصادفه،وأصبح بإمكانه الإدعاء أنه يأخد غسيله المتسخ إلى الغسيل ومعطفه إلى التنظيف،فتنفس الصعداء وبدأ يتابع هبوطه.


حين وصل إلى الفناء الخلفي فوجئ بمدبرة العمارة وهي عائدة بصفائح الزبالة الفارغة المحملة على عربة صغيرة،فأحس وكأنه قد تم القبض عليه بالجرم المشهود.تجمد في مكانه ولم يعد بإمكانه التراجع إلى ظلام بيت الدرج لإخفاء نفسه،فقد رأته فعلا،مما يعني أن عليه متابعة التقدم-أسعدت صباحاً يا سيد نويل...بادرته قائلة وهو يتجاوزها مسرعاً.-صباح الخير سيدة روكار...أجابها مغمغماً...أكثر من هذا،لم يسبق لهما أبداً أن تحدثا مع بعضهما.منذ عشر سنوات،وهي مدة وجودها في العمارة،لم يكن يقول لها أكثر من:- صباح الخير سيدة روكار،ومساء الخير سيدة روكار...أحيانا يقول لها:-شكراً سيدة روكار...وذلك عندما كانت تسلمه البريد خاصته.لم يكن يتكلم معها أكثر من ذلك،ليس لأنه لا يستلطفها،فهي ليست سيئة،إنها في الواقع لا تختلف عن سابقتها أو عن سابقة سابقتها.
فهي ككل مدبرات العمارات،لا يمكن للمرء التنبؤ بعمرها:بين الخمسين والستين،وككل مدبرات العمارات فهي تتمايل بمشيتها كالإوزة،ذات جسد مملوء،بيضاء ناصعة ولها رائحة نفاذة.حين لاتكون مشغولة بتفريغ أو إرجاع صفائح الزبالة،أو تنظيف الدرج أو شراء حاجياتها،كانت تجلس تحت ضوء النيون في غرفتها الصغيرة الواقعة في المدخل،بين الفناء والشارع،تخيط أو تكوي بينما التلفاز يعمل طوال الوقت،وتُسْكر نفسها بنبيذ رخيص كما تفعل كل مدبرات العمارات.لا،لم يكن جوناثان يكنّ أية ضغينة تجاه السيدة روكار،لكنه لا يحب مدبرات العمارات بشكل عام،وذلك لأنهن يراقبن الناس بحك المهنة،و السيدة روكار بشكل خاص كانت تراقبه هو،جوناثان،بشكل مستمر.إنه من شبه المستحيل أن يستطيع المرء تخطيها دون أن يلفت انتباهها ولو بطريقة سريعة أو طرفة جفن، حتى ولو كانت تنام في غرفتها وهي جالسة-إنها تفعل هذا عادة في ساعات ما بعد الظهر وبعد العشاء-كان الصرير الخافت لباب المدخل يكفي لإيقاظها للحظة تكفي لترى من الذي يدخل أو يخرج.لم يسبق لإنسان أن راقب وتأمل جوناثان بهذه الكثافة وهذا التفحص كما تفعل السيدة روكار، فهو لم يكن له أصدقاء،وفي البنك كان يعتْبر من الموجودات،لأن الزبائن ينظرون إليه كشيء متمم لشكل البنك وليس كإنسان.أما في السوبر ماركت أو في الطريق أو في الحافلة-متى كانت آخر مرة ركب فيها الحافلة!-في هذه الأماكن تصبح خصوصيته محمية من خلال وجود عدد كبير من الناس حوله فقط السيدة روكار وحدها كانت تراه وتتعرف عليه يومياً،وتتفحصه دونما كلفة أو خجل مرتين في اليوم على الأقل،مما يمكنها من اكتساب معرفة بتفاصيل متغيرات حياته الشخصية:ما هي الملابس التي يلبسها،كم مرة يبدل قميصه في الأسبوع،إذا كان قد غسل شعره أم لا،ماذا يجلب معه مساءً على العشاء،إن كان يتسلم بريداً وممن تأتيه الرسائل...وبالرغم من أن جوناثان لم يكن يضمر أي شيء ضد السيدة روكار شخصياً،فقد كان يعلم أن نظراتها المفضوحة إليه إنما تنبع من إخلاصها لواجبها الوظيفي،إلا أن هذا لم يخفف من إحساسه أن هذه النظرات هي بمثابة اتهامات صامتة موجهة نحوه،وهو يشعر بثورة في داخله كلما رأى السيدة روكار،ثورة غضب عارمة قصيرة، حتى بعد مرور كل هذه السنوات،يسأل نفسه دائماً:لماذا بحق الشيطان تتأملني مرة أخرى؟ لماذا تفترع خصوصيتي ولا تدعني بحالي وتتجاهلني؟لماذا يجب على الناس أن يكونوا طفيليين إلى هذا الحد المقرف؟

واليوم بالذات،بسبب ما جرى معه،كان أشد حساسية من العادة،إذ اعتقد أنه يجر بؤس حياته وراءه بطريقة فاضحة على شكل حقيبة ومعطف.لذا فقد تلقى نظرات السيدة روكار إليه بشكل أكثر إيلاماً،وبدت له تحيتها:صباح الخير سيد نويل...كأنها سخرية مقصودة ضخّمت ثورته التي كان يكبتها دائما خلف سد من اللياقة،وتحولت إلى غضب جامح جعله يُقْدم على فعل لم يسبق له أن قام به:فبعد أن تجاوز السيدة روكار توقف فجأة،وضع حقيبته على الأرض ثم وضع المعطف فوق الحقيبة وقفل راجعاً،يملؤه التصميم على وضع حد لتطفل نظراتها وحديثها معه.لم يكن يدري بعد ما الذي سيفعله أو يقوله بالتحديد وهو متجه صوبها،لكنه كان يعرف أن عليه أن يقول أو يفعل شيئاً ما.بدا غضبه الجامح يدفع به في اتجاهها،كما بدت شجاعته في هذه اللحظة بدون حدود.كانت قد انتهت من إرجاع صفائح الزبالة إلى مكانها وتهم بالدخول إلى غرفتها حين اعترضها تماماً في منتصف الفناء.كان يفصل بينهما نصف متر من المسافة تقريباً.لم يسبق له أن رأى وجهها من مسافة قريبة كهذه، فاستطاع أن يميز نعومة بشرة وجهها المكتنز الذي يبدو كحرير قديم واهٍ،وفي عينيها البنيتين،لم ير ذلك الفضول النفاذ،بل كان في نظراتها شيء من الرقة التي تشبه إلى حد ما نظرات صبية يافعة خجولة.وبالرغم من أن التفاصيل التي رآها لا تتفق مع الصورة التي كانت في ذهنه عن السيدة روكار،فإن جوناثان لم يسمح لهذه التفاصيل بإرباكه،فرفع يده ليلمس قبعته الرسمية،مضيفاً بهذه الحركة فة جدية على حضوره،وبدأ الكلام بلهجة قاطعة:-سيدتي،لدي كلمة أريد أن أقولها لك ( في هذه اللحظة لم يكن يعرف بعد ما الذي يريد قوله).-نعم سيد نويل؟أجابت السيدة روكار ثم قامت بإراحة رأسها بين كتفيها بحركة متشنجة...إنها تبدو كالطير!مثل طير صغير يتملكه الخوف،لاحظ جوناثان،ثم أعاد ما قاله باللهجة القاطعة نفسها:-سيدتي،إنني أريد أن أقول لك ما يلي...ثم وهو في ثورة غضبه،ودون أن يكون له يد في ذلك،فوجئ بسماع صوته وهو يقول:-أمام غرفتي يوجد طائر يا سيدتي.ثم أردف موضحا:إنها حمامة، وهي تجلس أمام غرفتي على بلاط الممر...وهنا فقط، تمكن جوناثان من السيطرة على حديثه المتدفق من لا وعيه،وإدارته إلى الوجهة التي كان يريدها حين أردف:-هذه الحمامة سيدتي وسخت ممر الطابق كله ببرازها...نقلت السيدة روكار نقطة ارتكازها بين جذعها الأيمن والأيسر عدة مرات،وأراحت رأسها بين كتفيها بشكل أعمق مرة أخرى ثم قالت:-ومن أين أتت هذه الحمامة سيدي؟-لا أعلم،أجاب جوناثان،يبدو لي أنها اقتحمت نافذة الممر،فالنافذة كانت مفتوحة، وحسب تعليمات العمارة فإن النافذة يجب أن تبقى دائماً مغلقة:-ربما قام أحد الطلاب بفتحها بسبب الحر،ردت السيدة روكار.-ربما،قال جوناثان،إلا أنها يجب أن تظل مغلقة،وخصوصاً في الصيف،لأن العاصفة إذا هبت سوف تصفع النافذة بعنف وتكسرها. في صيف عام 1962 حصل ما أقول بالفعل،وتكلف إصلاح النافذة آنذاك مئة وخمسين فرنكاً،ومنذ ذللك اليوم تم التعميم في تعليمات العمارة أن النافذة يجب أن تبقى مغلقة دائماً.