لونك المفضل

المنتديات الثقافية - Powered by vBulletin
 

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 29

الموضوع: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند

  1. #1
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي




    الحمامة : باتريك زوسكيند
    ترجمة: عدنان عبد السلام أبو الشامات
    • النوع: غلاف عادي، 21×14، 80 صفحة الطبعة: 1
    • الناشر: دار ورد للطباعة تاريخ النشر: 01/01/1999





    الناشر:

    عبر صفحات هذه "الرواية -الحكاية" يلج بنا زوسكيند صاحب رواية "العطر" الشهيرة في العوالم النفسية المتناقضة لإحدى أشهر شخصياته، وبأكثر تفاصيلها دقة، جواثان نويل. وللوهلة الأولى قد يعتقد القارئ أن هذه الشخصية متفردة وغير موجودة إلا عبر صفحات الورق. لن ما أن يتأمل واحدنا قليلاً وينقب في أعماقه حتى يجد أن "جوناثان نويل" موجود في دواخلنا المقموعة بشكل ما، والحمامة ليست إلا تجل من تجليات القمع والاضطهاد اليومي الذي نتعرض له من الرتابة التي تفرضها حيانا المعاصرة وتناقضاتها المرعبة .



    .
    .

  2. #2
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند

    مقدمة




    وُلِد باتريك زوسكيند عام 1949 في(أمباخ) على بحيرة شتارنبيرغر.

    والده ويلهلم إيمانويل زوسكيند الذي توفي عام 1970 ، كانت تربطه صداقة طويلة الأمد بكل من كلاوس وإيريكا مان، وعمل كمحرر سياسي في جريدة (سود دويتشه تزايتونغ) .ألف عدة روايات وكتب دراسات لقيت صدىً واسعاً عن اللغة الألمانية من بينها "مقتظفات من قاموس رجلٍ قاسٍ".
    أما باتريك فقد أنهى دراسته الابتدائية والثانوية ، ثم درس التاريخ في ( ميونيخ) و(إكس آن بروفانس) في فرنسا حيث قدم رسالة تخرجه التي كان موضوعها نشاط برنارد شو السياسي والاجتماعي . بدأ بكتابة القصة القصيرة منذ أن كان على مقاعد الدراسة الثانوية ، كما كتب للصحافة في أوقات نتقطعة. أما قوته اليومي فكان يكسبه ، حسب إفادته الشخصية ، من عمله في قسم العقود والعلامات التجارية في شركة "سيمنس" وعمله في بار "الهولندي الطائر" في (بيرغ أم سيه) وكمدرب مساعد للعبة كرة الطاولة وأعمال أخرى ، أما القسم الأكبر من دخله فكانت تدره عليه مسلسلاته التلفزونية التي كتبها ، والتي حسب قوله كانت حاذقة عالية المستوى ، بحيث كان من الصعب على قرّاء التلفزيون أن يرفضوها .ألّف زوسكيند بالشراكة مع الكاتب التلفزيوني الألماني "هيلموت ديتل" مسلسلين بعنوان "موناكو فرانتزه" و"كير رويال".
    عام 1984 صدرت له "الكونتر باص" وهي عبارة عن مسرحية طريفة وهزلية ذات فصل واحد وشخصية واحدة (مونولوج) تُعتبر اليوم من أكثر الأعمال عرضاً على خشبات المسرح الألماني كما تم عرضها في كلَّ من باريس ولندن.
    "العطر – قصة قاتل" كانت في الأصل مصممة كقصة قصيرة ، إلا أنتها تضخمت وكبرت بشكل عفوي اضطر معها المؤلف للسفر إلى (إكس)و(غراس) باحثاً عن "الأنف الكبيرة".
    النجاح المنقطع النظير لـ "العطر" جعل اسم كاتبها معروفاً في كل أنحاء العالم،أما هو فلا يعير أي اهتمام لشعبيته ، فباتريك زوسكيند نادراً ما يظهر علناً أو على شاشات التلفاز، وهو لا يعطي أية مقابلات صحفية، ويعيش حالياً بين ميونيخ وباريس.

    .
    .

  3. #3
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند

    كان جونثان نويل قد تعدى الخمسين من عمره،عاش منها عشرين عاماً خلت من أية أحداث ، حتى فاجأته مشكلة الحمامة التي ذهبت بين ليلة وضحاها بالأمان الذي كان يحياه . لم يكن يتخيل أن يحدث له في حياته أي شيء ذي أهمية ما عدا موته ، وهذا يناسبه تماماً فهو لا يحب الأحداث ويكره بشكل خاص تلك التي تهز توازنه النفسي وتحُدث فوضى في رتابة حياته اليومية.

    إن أكثر هذه الأحداث ، ولله الحمد ، تمكث بعيداً جداً في الفترة الكئيبة الممتدة ما بين طفولته وصباه .تلك الأحداث التي لا يود أبداً استرجاعها بذاكرته ، وإذا فعل فإن ذلك كان يسبب له ضيقاً عظيماً : منها أنه في عصر يوم صيفي من شهر تموز من العام 1942 في شارنتون كان عائداً إلى المنزل من صيد السمك – في ذلك اليوم الذي هبت فيه عاصفة أمطرت بعد طول جفاف ، فخلع حذاءه ومشى بقدمين عاريتين على الإسفلت الدافئ ، حيث كان التوثب في تجمعات الماء الصغيرة التي يشكلها المطر على الإسفلت إحدى أكبر المتع عنده – كان إذن عائداً من الصيد إلى البيت ، مسرعاً إلى المطبخ آملاً أن يجد أمه وقد حضرت الطعام ، إلا أنه لم يجدها ، فقط وجد مريلتها معلقة على مسند الكرسي: أمك ليست هنا ، قال له أبوه ، لقد اضطرت للسفر وسوف تبقى بعيداً لفترة طويلة . أما الجيران فقد قالوا له شيئاً آخر ، قالوا إنه قد تم ترحيلها ! وضعوها أولاً في الصالة الرياضية المغلقة ، ثم نقلوها إلى معسكر (درانسي)ومن هناك باتجاه الشرق حيث لا أحد يعود .يومها لم يفهم جونثان ما حدث لأن ما حدث شوّشه تماماً .بعد أيام قليلة اختفى أبوه أيضاً ، ووجد جونثان نفسه وأخته الصغيرة فجأة في قطار يتجه جنوباً يرافقهم رجال غرباء قادوهم بعد مغادرته عبر مرج أخضر ثم غابة صغيرة ، وركبا بعدها قطاراً آخر متجهاً مرة أخرى إلى الجنوب في رحلة طويلة ، طويلة جداً ، استقبلهما في نهايتها في (كافايون) عمٌ لمهما لم يسبق لهما رؤيته فيما مضى ، اصطحبهما إلى مزرعته قرب (بوجيه) حيث خبأهما حتى نهاية الحرب ، وسمح لهما بعد نهايتها بالعمل في حقول الخُضار.

    في أوائل الخمسينات – كان جونثان قد بدأ يستهوي حياة الفلاحة – طلب منه عمّه أن يذهب ويتطوع في الجيش ، فما كان منه إلا أن أطاع وتطوع لمدة ثلاث سنوات ، قضى منها السنة الأولى وهو يجهد نفسه للتكيف مع القسوة الكريهة للحياة مع الجماعة والإقامة في الثكنات ، وفي السنة الثانية تم شحنه بحرا إلى الهند الصينية ، أما السنة الثالثة فقد قضاها في المشافي الميدانية إثر إصابته برصاصة في قدمه ، ثم بأخرى في فخده ، ثم بسبب عدواه ومرضه بالديزنطاريا . وحين عاد إلى بوجيه في أوائل العام 1954 وجد أن أخته هي الأخرى قد اختفت – قيل له إنها ربما هاجرت إلى كندا – فأمره عمه هذه المرة أن يسرع بالزواج وتحديداً من فتاة تدعى ماري بكّوش من بلدة (لوري) المجاورة .جونثان ، الذي لم يسبق له أن رأى هذه الآنسة من قبل ، استجاب لهذا الأمر بطيبة خاطر ، لا بل بكل الترحيب ، فرغم أنه لا يملك تصوراً واضحاً لما يمكن أن تكون عليه الحياة الزوجية بشكل عام ، إلا أنه كان يتمنى أن يجد فيها أخيرا أسمى ما ترنو إليه ذاته : حياة رتيبة هادئة لا يعكر صفوها أي حدث. إلا أنه وقبل مضي أربعة أشهر على زفافه أنجبت ماري ولداً،وفي الخريف من العام نفسه هربت مع بائع خضار تونسي كان يعمل في مرسيليا.

  4. #4
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند

    بناء على ماسبق،توصل جونثان إلى حقيقة مفادها أن الناس لا يمكن الوثوق بهم أو الاعتماد عليهم،وأن المرء لن يجد الطمأنينة والسلام في حياته إلا إذا نجح في الابتعاد عنهم. ولأنه أصبح مثار سخرية الناس وتفكههم – هذا بحد ذاته لم يزعجه قدر انزعاجه من كونه قد أصبح،وبسبب ما حدث محط اهتمام الرأي العام-فقد أقدم ولأول مرة في حياته على اتخاذ قرار يخصه،فذهب إلى بنك التسليف الزراعي وقام باسترداد كل مدخراته، ثم حزم حقيبته وتوجه إلى باريس.
    في باريس صادفه حظ كبير مرتين: المرة الأولى حين عملا بوظيفة حارس،في بنك يقع على شارع(دوسيفر)،والمرة الثانية حين وجد مأوى في إحدى ما يسمّى بغرف الخدم في الطابق السادس من مبنى يقع على شارع (دولابلانش).يمكن الوصول إلى الغرفة عن طريق الفناء الخلفي للمبنى صعوداً على درج الخدمة الضيق،ومروراً بممر ضيق ذي نافذة صغيرة يدخل منها ضوء شحيح من النهار،يوجد فيه دزّينتان من الأبواب المدهونة باللون الرمادي،والمرقمة بالترتيب حتى الرقم 24 ،حيث غرفة جونثان التي تبلغ حوالي ثلاثة أمتار وأربعين سنتيمتراً طولاً ومترين ونصف المتر عرضاً،وتضم من وسائل الراحة سريراً وطاولة وكرسياً ومصباحاً وعلاقة ملابس ولا شيء آخر.فقط في الستينات تم تقوية خطوط الكهرباء بشكل أتاح للمرء أن يقتني سخاناً كهربائياً للطبخ وآخر ذي وشائع للتدفئة،ثم وُصّلت مواسير الماء إلى الغرفة مما مكن من تركيب مغسلة وسخان ماء.حتى ذلك الزمان كان ساكنو هذه الغرف في ملحق العمارة،في حال عدم توافر موقد كحول لديهم-كان يمنع عليهم استعماله رسمياً-ينامون في غرفهم الشديدة البرودة،ويغسلون جواربهم وأوعية أكلهم القليلة،ويستحمون أيضاً بالماء البارد في حوض وحيد في الممر المؤدي إلى الغرف بمحاذاة المرحاض المشترك.كل هذا لم يكن يسبب لجوناثان أي ضيق،فهو لا يبحث عن الرفاهية بل عن مأوى مستقرٍ يكون له،له وحده،يحميه من المفاجآت المزعجة في هذه الحياة،مأوى لا يمكن لأيٍ كان أن يطرده منه.
    حين حطت قدمه في الغرفة رقم24 لأول مرة أتاه اليقين على الفور:هذه هي! في الواقع لقد كنتَ دائماً تبحث عنها،وهنا سوف تبقى.تماماً كما يحصل على ما يبدو لبعض الرجال حين يقعون في الحب من أول نظرة،
    عندما يقع نظرهم على امرأة لم يسبق لهم رؤيتها في حياتهم من قبل،يبدون كما لو أن مساً أصابهم فتتملكهم القناعة أن هذه هي المرأة الحلم،المرأة التي يريدون ويرغبون البقاء معها حتى نهاية العمر.
    استأجر جوناثان الغرفة مقابل أجر شهري مقداره خمسة آلاف فرنك قديم،وكان يذهب من هنا كل صباح إلى مقر عمله في شارع دوسيفر القريب،ثم يعود مساءً ومعه خبز وسجق وتفاح وجبن،يأكل وينام ويشعر بالسعادة والرضى.خلال أيام الآحاد ما كان يغادر الغرفة مطلقاً بل ينظفها ويغير ملاءة سريره.هكذا عاش بهدوء ورضى عام بعد عام وعقداً بعد عقد.خلال هذه الفترة تغيرت بعض الأمور السطحية مثل قيمة الإيجار ونوعية المستأجرين. ففي الخمسينيات كان أكثر قاطني العرف من الخادمات والأزواج الجدد وبعض المتقاعدين،ثم أصبح المرء يرى الإسبانيين والبرتغاليين والأفارقة الشماليين يأتون ويرحلون،وفي أواخر الستينات كانت الأكثرية من الطلبة، ثم أخيراً، بدأت الغرف تخلو من ساكنيها من المستأجرين،وأصبح بعضها يستعمل من قبل مالكيها القاطنين في الطوابق السفلية كمخازنٍ للعفش والأدوات القديمة، أو كغرف لإقامة ضيوفهم من وقت لآخر.أما غرفة جوناثان رقم 24 فقد تحولت إلى واحة راحة، حيث اقتنى سريراً جديداً،وفصّل خزانة ملابس وفَرَشَ أرضها ذات سبع الأمتار والنصف المربعة بالسجاد،ثم كسا ركن الغسيل والطبخ فيها بورق جدران ذي لون أحمر لمّاع،كما أصبح يمتلك مذياعاً وتلفازاً ومكواة ملابس.أما طعامه فلم يعد يعلقه بأكياس خارج النافذة كما كان يفعل حتى وقت قريب، بل أصبح يضعه في البراد الصغير الموجود تحت حوض الغسيل، يحمي فيه الزبدة من الذوبان،والسجق من الجفاف حتى في أشد أيام الصيف قيظا.فوق رأس السرير،قام بتركيب رفٍ صفّ عليه ما لا يقل عن سبعة عشر كتاباً:موسوعة جيب طبية من ثلاثة أجزاء بعض الكتب المصورة الجميلة عن إنسان الكرومانيون،وآخر عن تقنية صب وتشكيل البرونز في العصر البرونزي،وثالث عن مصر القديمة،ورابع عن الأتروسكيين والثورة الفرنسية،وخامس عن السفن الشراعية، وسادس عن أعلام الدول،وسابع عن عالم الحيوانات المدارية.ثم روايتين لألكساندر دوما الأب،ومذكرات القديس سيمون،وكتاب لتعليم الطبخ وقاموس لاروس الصغير،وأخيرا(الكتاب المقدس) الخاص برجال الحراسة والحماية مع التركيز على الحالات التي يُسمح فيها باستعمال السلاح الناري.
    تحت السرير كانت ترقد دزّينة من زجاجات النبيذ الأحمر، من بينها زجاجة شاتو شوفال بلان غراند كرو كلاسّ
    (Chateau Cheval Blans qrand cru class) كان يحتفظ بها لنفسه ليحتفل بيوم إحالته إلى التقاعد عام 1988 .أما نظام الإضاءة للغرفة فقد تم تصميمه واختراعه بعد جهد مضن بحيث يتمكن جوناثان من التحكم بها من ثلاث نقاط،من جهتي رأس وأسفل السرير،ومن على الطاولة الصغيرة بحيث لا يغشى عينيه من قوته ولا يلقي ظلالاً على الجريدة.

  5. #5
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند


    بعد هذه الإضافات كلها لابد أن تبدو الغرفة أصغر مما كانت عليه.في الواقع لقد كبرت كما تكبر الصَدّفة حين تنمو قشرتها إلى داخلها،فأصبحت تشبه بتجهيزاتها الماهرة كابينة سفينة أو مقصورة نومٍ فاخرة في قطار، ولم تعد غرفة الخدم البسيطة التي كانت عليها.مع كل هذه التغيرات،احتفظت غرفة جوناثان حتى بعد مضي ثلاثين عاماً على إقامته فيها بخصائصها ومميزاتها في نفسه كونها،في الماضي،وبقاؤها في المستقبل،جزيرته الآمنة في هذا العالم المضطرب،حصنه المنيع وملجؤه وعشيقته،نعم عشيقته! فقد كانت تعانقه دائماً بحنان في كل مرة يعود إليها ليلاً، تدفئه وتحميه وتغذي روحه وجسده،كانت دائما هنا حين يحتاجها ولم تهجره أبداً! لقد كانت الشيء الوحيد في حياته الذي أثبت أنه يمكن الوثوق به،لذا فإن جوناثان لم يفكر مطلقاً بهجرها أو الانفصال عنها.حتى الآن، وبالرغم من بلوغه الخمسين من العمر ومعاناته في بعض الأحيان وهو يصعد هذه الأدراج الكثيرة الواقفة،ورغم تحسن أجره الذي أصبح يمكّنه من استئجار شقة حقيقية بمطبخ وحمام ومرحاض مستقلين،مع هذا وذاك فإنه بقى مخلصاً لعشيقته،بل إنه بدأ يعد العدة ليرتبط بها وترتبط به بأواصر أكثر عمقاً،يريد أن يوثق علاقتهما بحيث لا يتمكن أحد من إنهائها،وذلك بأن يدفع ثمنها، يشتريها،وقد وقّع فعلاً عقداً بهذا المضمون مع مالكتها السيدة لاسّال بقيمة خمسة وخمسين ألف فرنك جديد،دفع سبعة وأربعين ألفا منها،أما الاَلاف الثمانية المتبقية فإنها تُستحق آخر العام، بعد تسديدها تصبح الغرفة ملكه المطلق ولن يتمكن أحد أو شيء في العالم أن يفرّق أحدهما عن الآخر حتى يفرّق الموت بينهما...هكذا راحت الأمور كلها تسير على ما يرام حتى يوم جمعة من شهر أغسطس-آب من عام 1984 حين واجهته مشكلة الحمامة.
    كان جوناثان قد أستيقظ منذ وقت قصير ،لبس شبشبه وثوب الحمام ليذهب ككل صباح إلى المرحاض المشترك. وكعادته قبل أن يفتح باب غرفته كان يلصق أذنه بالباب ويصيخ السمع ليتحقق من خلو الممر من الناس ،فهو لا يستسيغ مقابلة أحد من الجيران في الممر،وخصوصاً في الصباح وهو يلبس البيجاما وثوب الحمام،وبالتحدي وهو ذاهب إلى المرحاض.كان وجود المرحاض مشغولاً حين ينوي الدخول إليه أمراً في غاية الإحراج بالنسبة له،أما الأمر المرعب فهو توقعه مقابلة أحد الجيران أمام باب المرحاض، لقد حصل له هذا لمرة واحدة في صيف العام 1959 أي قبل خمس وعشرين سنة وحتى اليوم تجري القشعريرة في جسده عندما يتذكر التفاصيل:هذا الهلع المتبادل من نظرة الآخر،هذا الضياع المتبادل للخصوصية قبل الشروع بأمر معين يقتضي بطبيعته تلك الخصوصية،هذا التقدم والتراجع المتبادل:-أرجوك،من بعدك.-أوه،لا من بعدك سيدي،فأنا لست مستعجلاً على الإطلاق.-لا، لا تفضل أنت أولاً،إنني مصر على ذلك...وكل هذا الحديث بالبيجاما!لا،لم يكن يملك الرغبة إطلاقاً بالتعرض لمثل هذه المواقف مرة أخرى،وهو فعلاً لم يتعرض لمثلها منذ ذلك التاريخ بفضل احتياطاته الاستطلاعية .فبوساطته أذنه كان يستطيع أن يرى كل شيء خارج باب الغرفة! كان يميز ويعرف هوية كل ضجيج في الطابق كله، يعرف كل طقطقه وكل قرقعة وكل خرير وكل خشخشة ،بل أصبح يستطيع تأويل الهدوء! ولهذا،فإنه يعلم الآن علم اليقين،بعد هذه الثواني القصيرة من التنصّت خلف الباب،أن الممر خال من أي شخص،وأن المرحاض غير مشغول وأن الجميع مازالوا نياماً،فأزاح بيده اليسرى قفل الباب وأدار المقبض باليمنى،فتراجع المزلاج إلى الخلف وانفتح الباب.
    بالكاد كان يهم بوضع قدمه المرفوعة على عتبة الباب الخارجية،وبدا فخده منثنياً متأهباً للخطو حين رأتها عيناه فجأة تجلس أمام بابه، حوالي عشرين سنتيمتراً بعيداً عن العتبة في ضوء الصباح الباهت الداخل عبر نافدة الممر الضيقة.كانت تقب بأرجلها الحمراء ذات المخالب،وريشها الرمادي الأملس على بلاط المدخل ذي اللون الأحمر القاني:حمامة!

    كانت تميل برأسها إلى الجانب وتحدق بجوناثان بعينيها اليسرى،هذه العين الصغيرة كقرص مستدير ذي لون بني يتوسطه سواد،ملأته رعباً وهو يتأملها تقبع على جانب الرأس بدون رموش ولا حاجب،عارية تماما، موجهة بلا أي خجل نحوه ومفتوحة على نحو هائل.إلا أنه في الوقت نفسه ظهر في هذه العين شيء من العزلة والانكسار وقد بدت كأنها لا مفتوحة ولا مغلقة،كانت بكل بساطة تبدو خالية من الحياة كعدسة آلة التصوير التي تبتلع الضوء الخارجي كله ولا تدع شيئا ينعكس من داخلها إلى الخارج،لم يكن في هذه العين أي توهج أو شعاع خافت ولا حتى إشارة إلى أي شيء حي،كانت عيناً بدون نظرة وراحت تحدق بجوناثان.




    .
    .

  6. #6
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند

    لقد ذعر ذعراً شديدً ، هكذا وصف جوناثان الشعور الذي انتابه لحظتها،إلا أن وصفه هذا ليس دقيقاً تماماً،فالذعر تمكن منه لاحقاً،لقد ذهل ذهول شديداً بتعبير أدق،إذ أنه بقي مسمراً لمدة خمس وربما عشر ثوان،يده على مقبض الباب وقدمه مرفوعة بتأهب الماشي عبر عتبة الباب،ولم يعد يستطيع التقدم أو التراجع.فجأة صدرت حركة ما عن الحمامة،ربما أراحت ثقلها من رجل إلى أخرى أو ربما تمطت قليلا،في الأحوال فإن جسدها اهتز بشكل ما،وفي اللحظة نفسها انطبق جفنان على عينها،واحد من الأعلى وآخر من الأسفل،أو بالأحرى شيئان يشبهان الأجفان،درفتان من المطاط انغلقتا على عينها كشفتين ظهرتا من العدم وابتلعتاها!اختفت العين.للحظة وجيزة بدأ الذعر يتملك جوناثان خلالها، فوقف شعره من الفزع.وبقفزة واحدة إلى الخلف هرع إلى داخل الغرفة صافقاً الباب خلفه قبل أن تتمكن الحمامة من فتح عينها مرة أخرى.أدار قفل الباب بسرعة ثم ترنح بثلث خطوات حتى وصل إلى السرير حيث جلس وهو يرتجف ودقات قلبه على أشدها، وجبينه بارد كالثلج،وراح يشعر بالعرق يتدفق من أعلى نقرته حتى أسفل ظهره.

    كان أول ما فكر به أنه سوف يصاب بجلطة قلبية أو بفالج أو على الأقل بانهيار عصبي. أنت مهيأ لكل هذه الأمراض بحكم السن فبعد الخمسين يمكن للمرء أن يتعرض لمثل هذه الأمور ولأتفه الأسباب هكذا فكر بينه وبين نفسه وهو يترك نفسه يسقط مستلقياً على جنبه فوق السرير،ساحباً الغطاء حتى أعلى كتفيه المرتعدتين برداً،ومكث يترقب ذلك الألم الداهم والوخز في منطقتي الصدر والكتف-لقد قرأ ذات مرة في موسوعة الجيب الطبية أن هذه الأعراض تسبق حتماً الجلطة القلبية –أو الغياب البطيء عن الوعي.إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث،فنبضات القلب أبطأت من سرعتها والدم عاد ليجري بانتظام عبر الرأس والأطراف،وأعراض الشلل الجزئي كما هي الحال عند الإصابة بالفالج لم تأتِ،فقد كان جوناثان قادراً على تحريك أصابع قدميه ورجليه والتحكم أيضاً بكل عضلات وجهه،مما يدل على سلامته النسبية من النواحي العضوية والعصبية.

    بدل كل هذا،راحت كتلة من الأفكار المذعورة تحوم في دماغ تحويم رف من الغربان السود،تخبط بأجنحتها وتنعق في رأسه:لقد انتهى أمرك،كانت تنعق، ما أنت إلا كهل ميئوس منه،إنك تسمح لحمامة أن ترعبك حتى الموت!حمامة تقذف بك إلى غرفتك،تطرحك أرضاً وتجعل منك سجيناً! سوف تموت ياجوناثان،سوف تموت،إن لم يكن الآن فقريباً.كانت حياتك كلها خطأ،لقد أفسدت حياتك كلها،حياتك هذه التي تزلزلها حمامة!...يجب أن تقتلها.ولكنك لا تستطيع قتل ذبابة!ربما تستطيع قتل ذبابة أو ناموسة أو خنفسة صغيرة،ولكنك لا تستطيع أبداً أن تقتل كائناً من ذوي الدم الحار،كائناً يزن رطلاً كهذه الحمامة! ربما تستطيع قتل إنسان رمياً بالرصاص،فشيء كهذا يحدث سريعاً ويخلف ثقباً صغيراً فقط لا يزيد قطره عن ثمانية ميليمترات،إن هذا نظيف ومسموح به في حال الدفاع عن النفس ووارد في الفقرة الأولى من قانون الخدمة لرجال الحراسة المسلحين،بل إن هذا مطلوب،فلا يمكن لأحد أن يلومك إذا أطلقت النار على إنسان،بالعكس،ولكن أن تطلق النار على حمامة! كيف يمكن لكائن من كان أن يطلق النار على حمامة؟فالحمامة تطير ويمكن للمرء أن يخطئها بسهولة،إنه لعبث ماجن أن يطلق شخص النار على حمامة،ثم إنه ممنوع ويؤدي إلى سحب رخصة السلاح،ممايؤدي إلى فقدان الوظيفة أيضاً،وأخيرا فإنك سوف تذهب إلى السجن حتماً حين تطلق النار على الحمامة! لا، إنك لن تستطيع قتلها،ولكن إذا تركتها حية فإنك لن تتمكن من العيش معها،لم يحدث أبداً أن تمكن أي إنسان من العيش في البيت نفسه الذي تعيش فيه حمامة،فالحمامة هي رمز الفوضى العارمة.إنها ترفرف وتطير في كل الاتجاهات،تخرج مخالبها وتنشبها في العينين،إنها تتبرّز بدون انقطاع وتنشر الجراثيم المهلكة وفيروسات مرض الالتهاب السحائي.الحمامة لا تبقى أبداً وحيدة،إنها تجتذب حمامات أخرى،فتتجامع وتتكاثر بسرعة مذهلة وتجد نفسك عندئذ محاصراً بجيش من الحمام، بحيث لن تتمكن من مغادرة غرفتك أبداً،فتموت إما جوعاً أو غرقاً ببولك وبرازك أو ترمي نفسك من النافذة فتسقط على الرصيف وتصبح هشيماً.لكن حتى هذا يتطلب منك شجاعة لا تملكها،لذلك سوف تمكث سجيناً في غرفتك وتصيح في طلب النجدة، وقد تطلبها من رجال الإطفاء ليأتوا إليك ويرتقوا نحوك بالسلالم لينقدوك من الحمامة،من حمامة!ومن ثم تصبح مسخرة العمارة،بل هدفاً لسخرية الحي كلّه:هل سمعتم؟ إن السيد نويل طلب إنقاذه من حمامة! هذا ما سيقوله الناس مشيرين إليك بأصابعهم،وسوف يتم تحويلك إلى مصح للأمراض العقلية.آه يا جوناثان،إن حالتك ميئوس منها،أنت ضائع لا محالة يا جوناثان!

    راح كل هذا الصراخ والنعيق يدوّي في رأسه،وجوناثان ضائع وحائر حتى فعل شيئاً لم يقم به منذ وقت طويل، مذ كان طفلاً صغيراً في روضة الأطفال،فقد فتح في محنته هذه كفيه للصلاة:-ياربي! لماذا هجرتني هكذا؟لماذا تعاقبني على هذه الصورة؟أبانا الذي في السماوات أنقدني من هذه الحمامة...آمين. لم تكن صلاته هذه كما نرى صحيحة تماماً،فقد كان ما تفوه به لجلجة مركبة من ذاكرة متناثرة لتربية دينية كانت في بداياتها،إلا أن الصلاة ساعدته بالرغم من ذلك،فنأديتها تطلبت منه حداً أدنى من التركيز والذي حدّ بدوره من الفوضى التي كانت تعج في رأسه. شيء آخر ساعده بشكل أفضل،فحالما أنهى صلاته شعر بحاجة شديدة للتبول،وأدرك بأنه إن لم يتمكن من الوصول إلى المرحاض خلال ثوان قليلة فإنه ربما يضطر للتبول لا إرادياً في السرير،فتبتل مرتبته الغالية ذات النوابض المعدنية، وربما يلحق البلل بالسجادة الجميلة التي تحتها أيضاً...أعادته هذه الأفكار إلى رشده فهب واقفاً متذمراً ولاعناً،وألقى نظرة حائرة نحو الباب.لا،إنه
    لا يستطيع مغادرة الغرفة.حتى ولو كان هذا الطائر الملعون قد غادر مكانه،فإنه لن يتمكن من تمالك نفسه حتى يصل إلى المرحاض، فهرع نحو المغسلة،أنزل سرواله وفتح صنبور الماء وبدأ يتبول في الحوض!

  7. #7
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند

    لم يسبق له مطلقاً أن فعل شيئاً كهذا،إنه يتبول في هذا الشيء الجميل الأبيض النظيف الذي عادة ما يستخدم للاغتسال والجلي!إن مجرد التفكير بفعلته هذه يصيبه بالهلع! لم يكن يتصور أبداً أنه في يوم من الأيام سوف ينزل إلى هذا الدرك،أنه سوف يرتكب فعلاً مشيناً كهذا!والآن وهو يتأمل بوله يندفع دونما حياء ولا رادع ،يختلط مع الماء ثم ينزلق مقرقراً في البالوعة،وبعد أن أحس بانحسار الضغط عن أسفل بطنه،بدأت الدموع تنهمر من عينيه.لقد تملكه خزي كبير من نفسه.حين انتهى ترك الماء يجري لبعض الوقت ثم نظف الحوض بسائل مطهر عدة مرات حتى تأكد أن كل آثار هذا الفعل الشائن قد امَّحت.مرة واحدة لا تحسب-قال هذا بصوت خفيض كما لو أنه يريد الاعتذار لغرفته،لنفسه أو لحوض المغسلة-مرة واحدة لا تحسب،لقد حصل هذا تحت ظروف اضطرارية،وهوبكل تأكيد لن يتكرر مرة أخرى...

    لقد هدأت روحه الآن.إن فِعْل التنظيف وإعادة قارورة سائل التعقيم إلى مكانها وملمس ممسحة التنظيف-هذه الأفعال التي طالما مارسها في أوقاتِ ضِيقه في الماضي-أعادت إليه روحه العملية.فنظر إلى الساعة التي كانت قد تعدت السابعة والربع،في هذا الوقت يكون عادة قد انتهى من حلاقة ذقنه وبدأ بترتيب سريره،إلا أن تأخره مازال محدوداً،وسوف يتمكن من التغلب عليه فيما لو استغنى عن فطوره اليوم،بهذا فإنه سوف يسبق برنامجه اليومي بسبع دقائق.المهم أن يتمكن من مغادرة الغرفة في الساعة الثامنة وخمس دقائق على أيعد تقدير،لأن عليه أن يكون في البنك في تمام الساعة الثامنة والربع.إنه لايعرف بعد كيف سيتمكن من تحقيق هذا الأمر،إلا أنه مازال يملك فرصة أخيرة تنتهي بعد ثلاثة أرباع الساعة،وهي مدة كافية.
    إن ثلاثة أرباع الساعة تشكل فترة طويلة حين يكون المرء قد رأى الموت بعينيه للتو،ونجا من أزمة قلبية في آخر لحظة،بل إن هذه الفترة تبدو أطول بكثير حين يتخلص من الضغط ايضاً،الضغط المستبد للمثانة الممتلئة.لقد قرر أن يتصرف كما لو أن شيئاً لم يكن وأن يستمر بروتينه اليومي،ففتح صنبور الماء وبدأ يحلق ذقنه.
    أثناء الحلاقة بدأ يفكر بشكل عنيق:جوناثان نويل،قال لنفسه،لقد خدمت في الهند الصينية مدة سنتين كاملتين وتغلبت أثناء ذلك على أهوال كثيرة!فإذا استجمعت الآن كل شجاعتك وتفاؤلك،حين تتجلد ويواتيك الحظ فربما تنجح في الهروب من غرفتك.ولكن...ماذا لو نَجَحْتَ فعلاً في الهرب؟ماذا لو تمكنت فعلاً أن تتعدى هذا الحيوان الشنيع وبلغت بيت الدرج دونما إصابات ونجحت في الوصول إلى برّ الأمان؟ سوف يكون بوسعك الذهاب إلى العمل وسوف تقضي اليوم سليماً معافى، ولكن ما الذي تفكر بفعله بعد ذلك؟ إلى أين ستذهب اليوم مساءً؟ أين ستقضي ليلتك؟فكونه لايريد رؤية الحمامة مرة أخرى بعد أن ينجو منها هذه المرة،وكونه لن يستطيع التعايش معها تحت سقف واحد لا يوما ولا ليلة ولا حتى ساعة واحدة،كانت بالنسبة له مواقف مبدئية راسخة لا لبس فيها ولا رجعة عنها.لهذا يتوجب عليه أن يهيئ نفسه لقضاء الليلة وربما الليالي التالية،في نزل ما،هذا يعني أن عليه أخد آلة الحلاقة وفرشاة أسنانه وغيارات داخلية وخارجية معه،بالإضافة إلى دفتر شيكاته وربما دفتر التوفير أيضاً.إنه يملك ألفاً ومئتي فرنك في حسابه الجاري،هذا يكفيه لمدة أسبوعين شرط أن يجد نزلاً رخيصاً،وإذا كانت الحمامة ما تزال تفرض حصارها على غرفته فلا بد له حينئذ أن يستعمل المال الموجود في حساب التوفير.في حساب التوفير يوجد ستة آلاف فرنك،إنه مبلغ كبير يمكّنه من الإقامة في الفندق شهوراً طويلة،ثم هناك مرتّبه الشهري من البنك البالغ ثلاثة آلاف وسبعمئة فرنك صافية بعد الضرائب.ولكن يتوجب عليه من طرف آخر دفع مبلغ الثمانية آلاف فرنك إلى السيدة لاسّال في آخر العام كدفعة نهائية لثمن الغرفة،غرفته...هذه الغرفة التي لن يكون بإمكانه بعد الآن السكن فيها!كيف سيستطيع أن يطلب من السيدة لاسّال إمهاله في تسديد الدفعة الأخيرة؟فهو لن يستطيع طبعاً أن يقول لها:سيدتي،إنني لا أستطيع تسديد الدفعة الأخيرة البالغة ثمانية آلاف فرنك،فأنا أقيم منذ شهور في الفندق لأن الغرفة التي اشتريتها منك تحاصرها حمامة!لا، إنه لن يستطيع قول شيء كهذا...وهنا تنبه جوناثان فجأة إلى أنه يمتلك خمس ليرات ذهبية تساوي كل منها مالا يقل عن ستمئة فرنك-كان قد اشتراها عام 1956 خلال الحرب الجزائرية خوفاً من التضخم الاقتصادي-يجب عليه في كل الأحوال ألا ينسى أن يأخذها معه، كما أنه يملك أيضاً سواراً ذهبياً كان يخص أمه،وجهاز راديو وقلماً فضياً ثميناً كان قد تلقاه هدية هو وكل موظفي البنك بمناسبة أعياد الميلاد.فإذا تمكن من بيع كل هذه الكنوز فسوف يكون بإمكانه ،بتقشف شديد،الإقامة في فندق وتسديد دفعة الثمانية آلاف فرنك للسيدة لاسّال،واعتباراً من أول شهر كانون الثاني-يناير سوف يكون الوضع أفضل،ففي ذلك الوقت سوف تصبح الغرفة ملكاً خالصاً له ولن يكون عليه بعد ذلك تسديد إيجارها الشهري،
    وربما تموت الحمامة قبل انقضاء فصل الشتاء.كم تستطيع الحمامة أن تعمر؟سنتين،ثلاث سنوات ،عشر سنوات؟وماذا لو كانت هذه الحمامة أصلاً كبيرة في السن؟
    ربما تموت خلال أسبوع؟ربما تموت اليوم...
    بل ربما ما جاءت هنا إلا لتموت...
    انتهى جوناثان من حلاقة ذقنه وفتح البالوعة ثم غسل الحوض ،سدّ البالوعة وملأ الحوض بالماء مرة اخرى وغسل جدعه الأعلى وقدميه‘ ثم نظف أسنانه بالفرشاة،حرر البالوعة من جديد وغسل الحوض وعصر الممسحة،قام بترتيب سريره‘وتناول حقيبة قديمة من الكرتون المقوى من تحت الخزانة كان يستعملها لحفظ الغسيل الوسخ الذي يأخده مرة في الشهر إلى صالون الغسيل بالخدمة الذاتية.أفرغها من محتوياتها ووضعها على السرير،إنها الحقيبة ذاتها التي كان يحملها عام 1942 مسافراً من شارنتون إلى كافايون، والتي حملها عام 1954 عندما أتى إلى باريس.حين رأى جوناثان هذه الحقيبة ترقد على سريره،وهو يملؤها بملابس نظيفة بدل المتسخة،وبعض الأحذية الخفيفة ومواد التنظيف والمكواة ودفتر الشيكات والأشياء الثمينة كما لو أنه يهيئ نفسه للسفر،بدأت الدموع تترقرق في عينيه،ليس من الخزي هذه المرة،بل من القنوط واليأس.لقد تملكه شعور كانما يد أمسكت به وألقته ثلاثين سنة إلى الوراء،كما لة أنه فقد ثلاثين عاماً من عمره.

  8. #8
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند

    حين انتهى من حزم أمتعته كانت الساعة تشير غلى الثامنة إلا ربعاً، فبدأ بارتداء بزة العمل.لبس أولاً السروال الرمادي ثم القميص الأزرق والسترة الجلدية،الحزام الجلدي المجهز بحامل المسدس وأخيراً قبّعته الرمادية، وشرع يحضّر نفسه لمواجهة الحمامة ويتحص لذلك.كان يشعر بقرف شديد من مجرد التفكير أن الحمامة ربما تلامس جسده،أو تتمكن من نقره في كاحل قدمه أو تلامس بجناحيها، خلال طيرانها، يديه أو رقبته،أو تقوم بالوقوف عليه بأطرافها ذات المخالب،لهذا فقد قام بارتداء حذاء ذي عنق طويل وبطانة من فرو الخروف،لايرتديه عادةً إلا في أشد ايام الشتاء برداً،بدلاً عن حذائه الصيفي الخفيف،ثمارتدى معطفاً شتوياً وزرره من الأعلى إلى الأسفل وقام بلف شال صوفي حول كامل رقبته حتى اسفل ذقنه،وحمى يديه بقفازات جلدية مبطنة،وأخيراً تناول مظلة المطر وحملها بيده اليمنى.بعد كل هذه التحصينات كان جوناثان يقف في الثامنة غلا سبع دقائق جاهزاً لتنفيد خطة الهروب من الغرفة،فخلع قبعته عن رأسه وألصق اذنه بالباب.لم يكن هنالك شيء يُسمع!فاعتمر قبعته مرة أخرى وثبتها جيداً على جبهته،ثم شد الحقيبة ووضعها بجاهزية عند الباب.
    لكي يحرر يده اليمنى علق المظلة على رسغها ثم أمسك بمقبض الباب ووضع يده اليسرى على القفل ففتحه،ثم ادار المقبض وشق الباب قليلاً ليستطلع.الحمامة لم تعد موجودة قرب الباب.على البلاطة حيث كانت ترقد توجد بقع ذات لون اخضر زمردي وبحجم يقارب حجم قطعة نقدية من فئة الخمس فرنكات تقريباً،كما أن هناك ريشة بيضاء صغيرة كانت تهتز بفعل مجرى الهواء الناتج عن شق باب الغرفة.بدأ حوناثان يرتعد من شدة القرف وهمَّ بصفق الباب والعودة إلى الداخل. كانت طبيعته الغريزية تريد التقهقر رجوعاً إلى الغرفة الآمنة بعيداً عن هذا الرعب في الخارج، لكنه تنبه إلى أن تلك البقعة ذات اللون الاخضر الزمردي لم تكن وحيدة،فهنالك بقع كثيرة مثلها في كل مساحة المدخل التي كان يستطيع أن يراها من شق الباب.كانت كلها مبرقعة بتلك البقع الزمردية الرطبة اللامعة.وهنا حدثت مفاجأة:فالعدد الكبير للبقع المثيرة للتقزز لم يُحبط من عزيمة جوناثان،كما هو متوقع،بل حفزها! ربما لو أن الأمر اقتصر على تلك البقعة الوحيدة والريشة،لانسحب وأقفل باب غرفته عليه إلى الأبد!أما كون الحمامة قد تبرزت في كل أنحاء المدخل،فإن انتشار هذه الظاهرة المقيتة حفز كل ما يملكه من الشجاعة فقام بفتح الباب على مصراعيه.
    إنه يستطيع الآن أن يرى الحمامة تجلس على بعد متر ونصف في الزاوية الضيقة المظلمة من نهاية الممر.ألقى جوناثان نظرة سريعة باتجاهها بحيث لم يتمكن من معرفة ما إذا كانت نائمة أم لا،أو إذا كانت عيناها مقفلتين أم مفتوحتين؟إنه في كل الأحوال لم يكن يريد أن يعرف ،لم يكن يريد حتى مجرد رؤيتها-في كتاب عالم الحيوانات المدارية كان قد قرأ مرة أن حيوانات معينة،خصوصاً قرود الأورانج أوتان، تقوم بمهاجمة الإنسان في حالة واحدة فقط:حين ينظر في عينيها.فغذا قام المرء بتجاهلها فإنها تتركه بسلام-ربما ينطبق هذا على الحمام أيضاً.على كل حال فقد قرر جوناثان التصرف كما لو أن الحمامة لم تعد موجودة،على الأقل ألا ينظر إليها،وبدأ يدفع بحقيبته إلى الممر بتأن وانتباه بين البقع الخضراء.ثم فتح مظلته ممسكاً بها بيده اليسرى ووضعها أمام وجهه وصدره كالدرع وخرج بدوره إلى الممر منتبهاً دائماص للبقع الخضراء على الأرض،مغلقاً الباب خلفه.إلا أن تظاهره بتجاهل وجود الحمامة اختفى في هذه اللحظة،وبدأ التوتر ينتشر في أوصاله وهو يحاول إخراج مفتاح الغرفة من جيبه بأصابعه التي تلبس قفازاً،وحين لم يتمكن من إخراجه بسرعة بدا يرتجف من التوتر بحيث كاد يفقد المظلة.سارعبالتقاطها وتثبيتها بين خده وكتفه،فسقط المفتاح على الأرض بعيداً شعرة واحدة عن إحدى البقع،انحنى والتقطه بعد لأيٍ ثم تمكن من إدخاله في ثقب قفل الباب بعد أن أخطأه ثلاث مرات،أداره مرتين،
    وفجأة،خيل إليه أنه سمع رفرفة أجنحة خلفه...
    أم كان هذا صوت احتكاك المظلة بالحائط؟...لكنه سمع الصوت ذاته مرة أخرى،لقد كان فعلاً صوت ضربات اجنحة! دبّ الذعر فيه وسحب المفتاح بسؤعة من ثقب قفل الباب وخطف حقيبته وفر هاربا،المظلة المفتوحة تحتك بالجدار،والحقيبة تصطدم بأبواب الغرف،أما في منتصف الممر فقد راحت درفتا النافذة المفتوحتان تسدان الطريق ،فقلص نفسه ليمر بينهما وبين الحائط،ثم حشر مظلته بشدة وعجالة مزقتها إرباً،إلا أنه لم يعر الأمر أي اهتمام،فهمّه الاوحد في هذه اللحظات كان الفرار بعيداً...بعيداً...بعيداً...
    فقط حين بلغ عتبة الدرج،توقف للحظة طوى خلالها المظلة التي أصبحت تعيقه،وألقى نظرة سريعة إلى الخلف.كانت أشعة الشمس الساطعة تجتاح اىن الافذة الصغيرة لتحفر مربعاً شديد الضياء وسط الظل القاتم في الممر،يصعب على العين اختراقه.فقط حين ضيق عينيه وحدق بتركيز تمكن جوناثان من تمييز الحمامة وهي تقترب مبتعدة عن الزاوية المعتمة بخطى سريعة متنططة ثم وقفت واستقرت تماما أمام باب غرفته،فاستدار بتشاؤم وبدأ بالنزول وهو متأكد بأنه لن يتمكن أبداً من العودة.

  9. #9
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند

    من درجة إلى أخرى بدأت أعصابه تهدأ،وحين بلغ أول درج الطابق الثاني أرجعته موجة حر ، بدأ يشعر بها،إلى وعيه، فتذكلا أنه ما يزال يرتدي معطفه وشاله وحذاءه المبطن بفرو الخروف.وأنه ربما يخرج أحد سكان العمارة من باب المطبخ إلى درج الخدمة الخلفي:خادمة في أحد البيوت تخرج للتسوق،أو السيد ريغو يُخرج زجاجات النبيذ الفارغة،أو ربما خرجت السيدة لاسّال لسبب ما.فهي تستيقظ مبكراً ولابد أنها مستيقظة الآن،فالمرء يستطيع شم رائحة قهوتها النفاذة تملأ بيت الدرج.
    ربما تفتح السيدة لاسّال الآن باب المطبخ وتخرج فتراه هو،جوناثان واقفاً أمامها تحت شمس أغسطس الساطعة في تنكره الشتوي المثير للسخرية!

    ولن يكون بإمكانه تجاهل إحراج كهذا دون أن يبرر لها،فماذا عساه يقول؟ سوف يتوجب عليه اختراع كذبة ما،ولكن أي كذبة؟فمظهره لايمكن أن يجد أي تبرير قابل للتصديق!وكل من يراه على هذه الحال لا يمكن أن يظن إلا أنه مجنون.ربما كان هو مجنوناً فعلا.

    وضع جوناثان حقيبته أرضاً وفتحها ليتناول منها حذاءً خفيفاً،ثم قام بنزع حذائه الشتوي والقفازات بسرعة وخلع عنه المعطف والشال، وضع الشال والحذاء الشتوي والقفازات والمظلة في الحقيبة وألقى بالمعطف على ذراعه.الآن بدا مظهره مألوفاً لمن يصادفه،وأصبح بإمكانه الإدعاء أنه يأخد غسيله المتسخ إلى الغسيل ومعطفه إلى التنظيف،فتنفس الصعداء وبدأ يتابع هبوطه.


    حين وصل إلى الفناء الخلفي فوجئ بمدبرة العمارة وهي عائدة بصفائح الزبالة الفارغة المحملة على عربة صغيرة،فأحس وكأنه قد تم القبض عليه بالجرم المشهود.تجمد في مكانه ولم يعد بإمكانه التراجع إلى ظلام بيت الدرج لإخفاء نفسه،فقد رأته فعلا،مما يعني أن عليه متابعة التقدم-أسعدت صباحاً يا سيد نويل...بادرته قائلة وهو يتجاوزها مسرعاً.-صباح الخير سيدة روكار...أجابها مغمغماً...أكثر من هذا،لم يسبق لهما أبداً أن تحدثا مع بعضهما.منذ عشر سنوات،وهي مدة وجودها في العمارة،لم يكن يقول لها أكثر من:- صباح الخير سيدة روكار،ومساء الخير سيدة روكار...أحيانا يقول لها:-شكراً سيدة روكار...وذلك عندما كانت تسلمه البريد خاصته.لم يكن يتكلم معها أكثر من ذلك،ليس لأنه لا يستلطفها،فهي ليست سيئة،إنها في الواقع لا تختلف عن سابقتها أو عن سابقة سابقتها.
    فهي ككل مدبرات العمارات،لا يمكن للمرء التنبؤ بعمرها:بين الخمسين والستين،وككل مدبرات العمارات فهي تتمايل بمشيتها كالإوزة،ذات جسد مملوء،بيضاء ناصعة ولها رائحة نفاذة.حين لاتكون مشغولة بتفريغ أو إرجاع صفائح الزبالة،أو تنظيف الدرج أو شراء حاجياتها،كانت تجلس تحت ضوء النيون في غرفتها الصغيرة الواقعة في المدخل،بين الفناء والشارع،تخيط أو تكوي بينما التلفاز يعمل طوال الوقت،وتُسْكر نفسها بنبيذ رخيص كما تفعل كل مدبرات العمارات.لا،لم يكن جوناثان يكنّ أية ضغينة تجاه السيدة روكار،لكنه لا يحب مدبرات العمارات بشكل عام،وذلك لأنهن يراقبن الناس بحك المهنة،و السيدة روكار بشكل خاص كانت تراقبه هو،جوناثان،بشكل مستمر.إنه من شبه المستحيل أن يستطيع المرء تخطيها دون أن يلفت انتباهها ولو بطريقة سريعة أو طرفة جفن، حتى ولو كانت تنام في غرفتها وهي جالسة-إنها تفعل هذا عادة في ساعات ما بعد الظهر وبعد العشاء-كان الصرير الخافت لباب المدخل يكفي لإيقاظها للحظة تكفي لترى من الذي يدخل أو يخرج.لم يسبق لإنسان أن راقب وتأمل جوناثان بهذه الكثافة وهذا التفحص كما تفعل السيدة روكار، فهو لم يكن له أصدقاء،وفي البنك كان يعتْبر من الموجودات،لأن الزبائن ينظرون إليه كشيء متمم لشكل البنك وليس كإنسان.أما في السوبر ماركت أو في الطريق أو في الحافلة-متى كانت آخر مرة ركب فيها الحافلة!-في هذه الأماكن تصبح خصوصيته محمية من خلال وجود عدد كبير من الناس حوله فقط السيدة روكار وحدها كانت تراه وتتعرف عليه يومياً،وتتفحصه دونما كلفة أو خجل مرتين في اليوم على الأقل،مما يمكنها من اكتساب معرفة بتفاصيل متغيرات حياته الشخصية:ما هي الملابس التي يلبسها،كم مرة يبدل قميصه في الأسبوع،إذا كان قد غسل شعره أم لا،ماذا يجلب معه مساءً على العشاء،إن كان يتسلم بريداً وممن تأتيه الرسائل...وبالرغم من أن جوناثان لم يكن يضمر أي شيء ضد السيدة روكار شخصياً،فقد كان يعلم أن نظراتها المفضوحة إليه إنما تنبع من إخلاصها لواجبها الوظيفي،إلا أن هذا لم يخفف من إحساسه أن هذه النظرات هي بمثابة اتهامات صامتة موجهة نحوه،وهو يشعر بثورة في داخله كلما رأى السيدة روكار،ثورة غضب عارمة قصيرة، حتى بعد مرور كل هذه السنوات،يسأل نفسه دائماً:لماذا بحق الشيطان تتأملني مرة أخرى؟ لماذا تفترع خصوصيتي ولا تدعني بحالي وتتجاهلني؟لماذا يجب على الناس أن يكونوا طفيليين إلى هذا الحد المقرف؟

    واليوم بالذات،بسبب ما جرى معه،كان أشد حساسية من العادة،إذ اعتقد أنه يجر بؤس حياته وراءه بطريقة فاضحة على شكل حقيبة ومعطف.لذا فقد تلقى نظرات السيدة روكار إليه بشكل أكثر إيلاماً،وبدت له تحيتها:صباح الخير سيد نويل...كأنها سخرية مقصودة ضخّمت ثورته التي كان يكبتها دائما خلف سد من اللياقة،وتحولت إلى غضب جامح جعله يُقْدم على فعل لم يسبق له أن قام به:فبعد أن تجاوز السيدة روكار توقف فجأة،وضع حقيبته على الأرض ثم وضع المعطف فوق الحقيبة وقفل راجعاً،يملؤه التصميم على وضع حد لتطفل نظراتها وحديثها معه.لم يكن يدري بعد ما الذي سيفعله أو يقوله بالتحديد وهو متجه صوبها،لكنه كان يعرف أن عليه أن يقول أو يفعل شيئاً ما.بدا غضبه الجامح يدفع به في اتجاهها،كما بدت شجاعته في هذه اللحظة بدون حدود.كانت قد انتهت من إرجاع صفائح الزبالة إلى مكانها وتهم بالدخول إلى غرفتها حين اعترضها تماماً في منتصف الفناء.كان يفصل بينهما نصف متر من المسافة تقريباً.لم يسبق له أن رأى وجهها من مسافة قريبة كهذه، فاستطاع أن يميز نعومة بشرة وجهها المكتنز الذي يبدو كحرير قديم واهٍ،وفي عينيها البنيتين،لم ير ذلك الفضول النفاذ،بل كان في نظراتها شيء من الرقة التي تشبه إلى حد ما نظرات صبية يافعة خجولة.وبالرغم من أن التفاصيل التي رآها لا تتفق مع الصورة التي كانت في ذهنه عن السيدة روكار،فإن جوناثان لم يسمح لهذه التفاصيل بإرباكه،فرفع يده ليلمس قبعته الرسمية،مضيفاً بهذه الحركة فة جدية على حضوره،وبدأ الكلام بلهجة قاطعة:-سيدتي،لدي كلمة أريد أن أقولها لك ( في هذه اللحظة لم يكن يعرف بعد ما الذي يريد قوله).-نعم سيد نويل؟أجابت السيدة روكار ثم قامت بإراحة رأسها بين كتفيها بحركة متشنجة...إنها تبدو كالطير!مثل طير صغير يتملكه الخوف،لاحظ جوناثان،ثم أعاد ما قاله باللهجة القاطعة نفسها:-سيدتي،إنني أريد أن أقول لك ما يلي...ثم وهو في ثورة غضبه،ودون أن يكون له يد في ذلك،فوجئ بسماع صوته وهو يقول:-أمام غرفتي يوجد طائر يا سيدتي.ثم أردف موضحا:إنها حمامة، وهي تجلس أمام غرفتي على بلاط الممر...وهنا فقط، تمكن جوناثان من السيطرة على حديثه المتدفق من لا وعيه،وإدارته إلى الوجهة التي كان يريدها حين أردف:-هذه الحمامة سيدتي وسخت ممر الطابق كله ببرازها...نقلت السيدة روكار نقطة ارتكازها بين جذعها الأيمن والأيسر عدة مرات،وأراحت رأسها بين كتفيها بشكل أعمق مرة أخرى ثم قالت:-ومن أين أتت هذه الحمامة سيدي؟-لا أعلم،أجاب جوناثان،يبدو لي أنها اقتحمت نافذة الممر،فالنافذة كانت مفتوحة، وحسب تعليمات العمارة فإن النافذة يجب أن تبقى دائماً مغلقة:-ربما قام أحد الطلاب بفتحها بسبب الحر،ردت السيدة روكار.-ربما،قال جوناثان،إلا أنها يجب أن تظل مغلقة،وخصوصاً في الصيف،لأن العاصفة إذا هبت سوف تصفع النافذة بعنف وتكسرها. في صيف عام 1962 حصل ما أقول بالفعل،وتكلف إصلاح النافذة آنذاك مئة وخمسين فرنكاً،ومنذ ذللك اليوم تم التعميم في تعليمات العمارة أن النافذة يجب أن تبقى مغلقة دائماً.

  10. #10
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند

    لاحظ جوناثان أن تلميحه الدائم لتعليمات العمارة فيه شيء مثير للسخرية. وهو في الواقع لم يكن يهتم حقيقة بكيفية تمكن الحمامة من تادخول،ولم يكن يريد أن يتكلم دائماً عن الحمامة فهذه مشكلة تخصه وحده،كان يريد أن يفرغ غضبه من نظرات السيدة روكار الفضولية إليه، وقد تم له هذا في بداية حديثه معها،أما الآن وقد هدأ غضبه،فإنه لم يعد يدري ماذا سيقول بعد.
    --يجب أن تُطرد الحمامة وتُغلق النافذة". قالت السيدة روكار.قالت وكأنه أسهل الأشياء إنجازاً في العالم،أو كأنما سيعود كل شيء إلى طبيعته بعد ذلك!أما جوناثان الذي مازال صامتاً،فقد تعلق نظره في عمق عينيها،وبدا كالمأسور المعرّض لخطر الغرق في مستنقع بني اللون،حميم!كان عليه أن يغلق عينيه لبضع لحظات ليتمكن من النجاة،ثم تنحنح ليستعيد صوته:-إن الأمر...بدأ يقول متنحنحاً مرة أخرى...إن الأمر السيئ هو وجود بقع كثيرة،بقع خضراء كثيرة وريش أيضاً،لقد قامت بتوسيخ الممر كله،هذه هي المشكلة الرئيسية.

    -بالطبع سيدي،أجابت السيدة روكار،يجب تنظيف الممر، ولكن ينبغي أولاً طرد الحمامة.
    -نعم،قال جوناثان، نعم...نعم،ثم سأل نفسه:ما الذي تعنيه هذه المرأة؟ ما الذي ترمي إليه؟ربما تعني أنه يجب علي أنا القيام بطرد الحمامة؟ وود لو أنه لم يتجرأ أبداً على الحديث مع السيدة روكار.-نعم...نعم،قال ثانية وهو يتلعثم،يجب...يجب طرد الحمامة...أنا...أنا كنت سأطردها بنفسي،لكنني لم أتمكن من ذلك،إنني مشغول كما ترين،إنني أحمل معطفي وغسيلي...يجب أن آخد المعطف إلى التنظيف،ثم علي أن أغسل غسيلي وأذهب إلى عملي ...إنني في غاية العجلة سيدتي، لهذا لا يمكنني طرد الحمامة...فقط أردت إبلاغك بالأمر، وخصوصاً ما يتعلق بالبقع.إن اتساخ الممر ببراز الحمامة هو المشكلة الأساسية،ويتنافى مع تعليمات العمارة،إذ أن نظام العمارة ينص على وجوب المحافظة على المدخل والدرج والمرحاض دائما في حالة نظيفة.لم يسبق له في حياته،كما يذكر،أن أقى خطبة ملتوية بهذا الشكل كما فعل تواً! فأكاذيبه بدت له مفضوحة بشكل صارخ،والحقيقة الوحيدة التي كان على هذه الأكاذيب حجبها وهي: أنه لم ولن يستطيع إجبار الحمامة على الخروج،بل الحمامة هي التي أجبرته على الفرار، هذه الحقيقة بدت مكشوفة ايضاً وبشكل مؤلم.حتى ولو لم تكن السيدة روكار قد سمعتها في كلامه،لكنها تمكنت من قراءتها من وجهه حتماً،فقد كان يحس بالحر الشديد والدم يتجمع في رأسه وباتقاد وجنتيه من الحرج.

    إلا أن السيدة روكار تصرفت كأنها لم تلاحظ أي شيء،أو ربما لم تلاحظ أي شيء فعلاً،فقد قالت فقط:-إنني أشكرك على هذه المعلومة يا سيدي، وسوف أقوم بالاهتمام بالأمر في أول فرصة سانحة.ثم طأطأت رأسها واستدارت ذاهبة من خلف جوناثان نحو المرحاض بجانب غرفتها، واختفت هناك.

    راح جوناثان يتابعها بعينيه...إذا كان هناك أي أمل بأن أحداً ما سوف يقوم بإنقاذه من الحمامة فقد تلاشى هذا الأمل مع النظرة الأخيرة الموحشة التي ألقتها السيدة روكار باتجاهه وهي تختفي خلف باب مرحاضها الصغير.إنها لن تهتم بأي شيء،فكر بينه وبين نفسه،لن تهتم بأي شيء البته...ولماذا تهتم؟ فهي مدبرة العمارة ليس إلا،وبصفتها هذه فهي ملزمة بتنظيف الدرج والممرات،ومرة في الأسبوع بتنظيف المرحاض المشترك، ولكنها ليست ملزمة بطرد حمامة...بعد الظهر،على أبعد تقدير،سوف تنسى الأمر كله بعد أن تُثمل نفسها بنبيذها الرخيص،هذا إذا لم تكن نسيته الآن وفي هذه اللحظة بالذات.
    كان جوناثان يقف أمام البنك في تمام الثامنة والربع،قبل خمس دقائق من وصول السيد فيلمان نائب المدير، والسيدة روك كبيرة المحاسبين، حيث يقوم ثلاثتهم عادة بفتح البنك.فتح جوناثان الغلق المعدني الخارجي،
    ثم فتحت السيدة روك الباب الزجاجي المسلح الداخلي.أدخل جوناثان والسيد فيلمان مفتاحيهما في جهاز الإنذار وأوقفاه عن العمل،بعدها جاء دور السيدة روك مع السيد فيلمان ليفتحا الباب المزدوج الأقفال المضاد للحرائق الذي يؤدي إلى القبو، ثم فتحا غرفة الخزينة بينما كان جوناثان يضع حقيبته ومعطفه في الخزانة الخاصة به في غرفة الملابس التي تقع بجانب المراحيض.بعد أن أقفل الخزانة توجه إلى موقعه عند الباب الزجاجي المسلح الداخلي ليقوم بإدخال الموظفين الذين يصلون تباعاً، وذلك بالضغط على زرّين يحرران ويقفلان البابين الداخلي والخارجي بالتتابع بحيث يفتح الثاني حين يغلق الأول وبالعكس...
    عند الساعة الثامنة وخمس وأربعين دقيقة كان الجميع قد وصلوا واتخذوا مواقعهم، كل منهم في مكان عمله:خلف منصات الخدمة في منطقة الصرافة وفي المكاتب ،بينما ترك جوناثان مبنى البنك ليتخذ موقعه أمام البوابة الرئيسية على العتبة الرخامية مكان عمله اليومي.

    عمله هذا الذي يمارسه منذ ثلاثين عاماً لا يتطلب منه أكثر من أن ينتصب واقفاً أمام المدخل،أو يذرع الدرجة الرخامية الثالثة من درجات المدخل جيئةً وذهاباً بخطوات صغيرة من التاسعة صباحاً وحتى الواحدة بعد الظهر،ثم من الثانية وحتى الخامسة والنصف مساء.حوالي الساعة التاسعة والنصف وبين الساعة الرابعة والنصف والخامسة، كان هناك انقطاعات يحتمها مجيء ومغادرة سيارة السيد رودلز، مدير البنك ،لذا كان يتوجب عليه ترك مكانه على الدرج الرخامي والإسراع في بوابة الفناء الخلفي،الذي يبعد حوالي اثني عشر متراً،ليزيح السور الحديدي الثقيل ويفتحه،ثم يضع راحة يده على مقدمة قبعته بحركة تحية واحترام وهو يفسح الطريق للسيارة كي تعبر.

    الشيء ذاته كان يحدث أحياناً في الصباح الباكر،أو في بداية المساء حين تصل الشاحنة المصفحة الزرقاء التابعة لشركة (برينك للمنقولات الثمينة)هنا أيضاً كان عليه أن يفتح البوابة الحديدية موجهاً التحية أيضاً لركاب الشاحنة ،طبعاً ليست تحية الاحترام نفسها ذات راحة اليد المبسوطة على مقدمة القبعة،ولكن تلك السريعة،بسبابته المنطلقة من طرف قبعته باتجاههم،تحية زمالة.

  11. #11
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند

    ما عدا ذلك لم يكن هناك شيء للقيام به.كان جوناثان يقف أكثر الوقت ساهماً منتظراً.وفي بعض الأحيان يتأمل قدميه،أو يتأمل الرصيف،وأحياناً أخرى ينظر إلى الطرف الآخر من الشارع حيث المقهى،أو يطوف على الدرجة الأخيرة من درج البنك جيئة وذهابا،سبع خطوات إلى اليمين ومثلها إلى اليسار، أو يتركها ويقف على الدرجة الثانية.وفي أحيان أخرى،حين تكون الشمس قوية حارقة،ويندفع العرق من رأسه إلى حافة شريط التعرق في قبعته،كان يصعد إلى الدرجة الثالثة ليحتمي تحت مظلة مدخل البنك،يرفع قبعته عن رأسه ويمسح جبينه بطرف كمّه،ثم يبقى هناك يتأمل وينتظر.

    لقد أجرى ذات مرة عملية حسابية خلص فيها إلى أنه حتى يوم تقاعده، سيكون قد أمضى خمساً وسبعين ألف ساعة واقفاً على هذه الدرجات الرخامية الثلاث،وبهذا سيكون حتماً الإنسان الوحيد في باريس،وربما في فرنسا كلها الذي قضى كل هذا الوقت واقفاً في المكان نفسه،بل ربما شكل هذا الآن رقماً قياسياً بعد انقضاء الساعة الخامسة والخمسين ألف من وقوفه على هذه الدرجات الرخامية،إذ كان يوجد عدد قليل من الحراس الموظفين بشكل ثابت في مكان ما من المدينة،لأن أكثر البنوك أصبحت تستأجر خدمات الحراسة التي تقدمها بعض الشركات التي تسمي نفسها
    (شركات حراسة الأملاك).وهي تستخدم بدورها شباناً صغاراً يقفون أمام البوابات بساقين منفرجتين ونظرات ضجرة،ليحل محلهم بعد شهور قليلة،بل أسابيع قليلة،شبان آخرون بسيقانهم المنفرجة ونظراتهم الضجرة ذاتها.هؤلاء يتم إحلالهم كما يُدّعى لأسباب "عمل نفسية" بحتة،لأن انتباه الحارس،هكذا يقال،يخف مع الوقت،حين يقضي فترة طويلة واقفاً في المكان نفسه.وتقل قدرته على ملاحظة ما يدور حوله،فيصبح كسولاً ثقيل الحركة ومهملاً لا يصلح للمهمة الملقاة على عاتقه.

    كل هذا مجرد هراء أخرق! إن جونثان يعرف بشكل أفضل أن انتباه الحارس يتلاشى خلال ساعات وليس خلا أشهر! وقدرته على ملاحظة محيطه ومئات الزبائن الذين يدخلون ويخرجون من وإلى البنك بدأت بالانحسار منذ اليوم الأول لعمله ،فأصبح لا يستطيع التركيز أو التمييز...وهذا ليس بذي أهمية من وجهة نظره، فالمرء وبالرغم من كل شيء،لا يملك القدرة على التمييز بين زبون أو لص بنك!وحتى لو تمكن الحارس من التمييز بينهما واستطاع اعتراض اللص،فإنه وبلمح البصر يصبح في عداد الأموات...برصاصة!يموت حتى قبل أن يتمكن من فك عروة الأمان من جيب المسدس الجلدي...فالمجرم يمتلك ميزة لا يمكن تجاهلها في أية مواجهة معه،وهي:عنصر المفاجأة.

    مثل أبي الهول،نعم...الحارس يجب أن يتشبه بأبي الهول،هذا ما يراه جوناثان (فقد قرأ عن أبي الهول ذات مرة في أحد كتبه). إن فعاليته لا تأتي من حركته، وإنما من مجرد وجوده في المكان.إنه يستطيع بمجرد وجوده فقط مواجهة اللص.-عليك أن تتعداني،قال أبا الهول للص الآثار،لا استطيع منعك، لكنك يجب أن تتعداني، وحين تتجرأ على هذا، فإن لعنة الآلهة وآل فرعون سوف تحل عليك! أما الحارس فيمكنه القول:-إن غليك أن تتعداني،إنني لا أستطيع منعك،وحين تتجرأ على هذا،فإن انتقام العدالة سوف يحل بك على شكل إدانة بجرم قتل!

    إن جوناثان يعلم بكل تأكيد أن أبا الهول يملك أسلحة أكثر تأثيراً مما يملكه الحارس،فالحارس لا يمكنه التهديد بلعنة الآلهة،وحتى إذا كان اللص لا يآبه للعواقب فإن أبا الهول لن يتأذى جسدياً في هذه الحالة،فهو منحوت من صخر البازلت الخالص ويقبع كحصن منيع،فقد تمكن من المحافظة على يقائه مقاوماً لصوص الآثار عبر خمسة آلاف عام...بينما تجد حارس البنك،عند حدوث سطو مسلح،يضطر لأن يدع حياته خلفه مغادراً إلى الدار الآخرة خلال أقل من خمس ثوان! على الرغم من هذا فإن جونثان يعتقد أن الحارس وأبا الهول متشابهان،فسلطة كل منهما ليست أداتية،بل رمزية.فقط بإدراكه امتلاك هذه السلطة الرمزية التي كانت تشكل عزة نفسه واحترامه لذاته،وتمده بالقوة والقدرة على التحمل،وتحميه وتحصنه أفضل من أي انتباه أو مسدس أو زجاج مسلح،فقط بإدراكه هذا،كان جوناثان يقف على الدرجات الرخامية أمام البنك يحرسه دون أدنى خوف،دون أدنى شك بقدراته، دون أدنى شعور بالتذمر أو تعابير وجه ضجرة حتى اليوم.

  12. #12
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند


    اليوم يبدو كل شيء مختلفاً اليوم،لن يتمكن جوناثان مهما حاول أن يجد هدوء أبي الهول الذي كان يتمتع به في العادة.فبعد دقائق قليلة بدأ يشعر بتثاقل في جسده نتج عنه ألم في كعب قدميه،فأخذ ينقل ارتكازه من ساق إلى أخرى بضع مرات،مما أدى إلى شعوره بدوار خفيف،فأخذ يخطو خطوات صغيرة إلى الجانب،تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار في محاولة منه لاستعادة توازنه،توازنه النموذجي الذي كان يمكّنه دائماً من الوقوف مستقيماً كالألف.فجأة بدأ يشعر بحكة في أسفل ظهره وجوانب صدره ورقبته.وبعد برهة بدأ جبينه يحكه وشعر به كما لو أنه ناشف وجاف كحاله في بعض أوقات الشتاء- رغم أن الحرارة شديدة لا تطاق والساعة لم تتجاوز التاسعة والربع بعد،ورغم تعرق جبينه بغزارة لا يحدث عادة إلا قرابة الحادية عشر والنصف...بعدها انتقلت الحكة إلى ذراعيه وصدره وظهره ومن أعلى ساقيه إلى أسفلهما،ثم انتشرت في كل مكان يغطيه جلد!وكان يود أن يحك جسده بشبق وبدون حياء، لكن هذا غير لائق بأي حال من الأحوال أن يقوم حارس بالحك علناً ! فأخذ شهيقاً عميقاً ونفخ نفسه،حّدب ظهره ثم فرده،رفع كتفيه وأنزلهما،شاحذا نفسه بثيابه علّه يخفف من شدة الحكة...لكن هذه التشجنات والتقلصات والتمددات ساهمت في تزايد الدوار الذي كان يعاني منه،ولم تعد تلك الخطوات الصغيرة إلى اليمين واليسار تساعده كثيراً في الحفاظ على توازنه.فوجد جوناثان نفسه مضطراً إلى ترك وقفته المنتصبة التي عادة ما تسبق وصول سيارة السيد رودلز.حوالي التاسعة والنصف،للعودة إلى الطواف مرة أخرى،سبع خطوات إلى اليمين مع سبع إلى اليسار،محاولاً خلال ذلك تُثبّيت نظره على الحافة الخارجية للدرجة الثانية، من جديد ،من خلال تأثير رتابة تكرار الصورة التي تتمثل بحافة الدرجة الرخامية في داخله،استعادة طمأنينة أبي الهول التي يتوق إليها،والتي يأمل أن تساعده على نسيان تثاقل جسده وحكة جلده،وقبل كل شيء،هذه الفوضى الغريبة التي دبت في جسده وروحه.لكن هذه المحاولة لم تُجد أي نفع،فقد كانت العربة تخرج عن سكتها دائما،ومع كل طرفة عين راح نظره ينحرف عن حافة الدرجة اللعينة هذه ويقفز إلى شيء آخر:قطعة من جريدة على الرصيف،قدم بجراب أزرق ،ظهر امرأة،سلة مشتريات تحوي خبزاً،مقبض الباب الزجاجي الخارجي المسلح،اللوحة المضيئة لمحل بيع التبغ مقابل المقهى،دراجة هوائية،قبعة من القش،وجه...ولم يتمكن من تثبيت نظره في أي مكان أو من تحديد نقطة جديدة يبدأ منها،تكون سنداً له وعوناً للمحاولة من جديد.وما كاد يركز نظره على قبعة القش حتى قطعته حافلة متجه يساراً فتحول نظره معها ليتركها بعد أمتار قليلة نحو سيارة رياضية بيضاء مكشوفة،متجهة هذه المرة إلى الجهة اليمنى من الطريق، حيث كانت قبعة القش قد اختفت...بحثت عينه عنها في زحمة الناس،في زحمة القبعات،وتوقفت عند زهرة تهتز على قبعة أخرى،تركتها لترجع مرة أخرى إلى حافة الدرجة حيث لم تتمكن من البقاء فشردت دون هدف من نقطة إلى أخرى،من قبعة إلى أخرى ومن خط إلى آخر...

    كان الهواء مشبعاً بحرارة شديدة ليست معتادة إلا خلال أشد أيام شهر تموز-يوليو-حرارة،وبدت الأشياء مغلفة بوشاح شفاف مهتز.كانت معالم الأبنية وخطوط أسطحتها وقممها شديدة التوهج،فبدت كما لو أنها مهترئة ومتصدعة. وحواف أحجار الرصيف فواصل بلاطه،التي كانت في الأحوال العادية شديد الاستقامة،بدت اليوم متلألئة،متعرجة،ومنحنية.أما النساء في الطريق،فقد ارتدين كلهن الثياب اللماعة ذاتها كما لو أنهن متفقات على هذا سلفاً،وظهرن كقطع من نار متوهجة متحركة تجبر النظر على التوجه نحوها لكنها لا تحتفظ به.لم يعد هنالك أي شيء له خطوط واضحة،ولامكان يمكن تثبيت النظر عليه،صار كل شيء يتموج ويتراقص.
    إنهما عيناي، فكّر جوناثان، لا بد أنني أصبحت بين ليلة وضحاها بقصر البصر.أحتاج لنظارة.حين كان طفلا،كان عليه ارتداء نظارة طبية لقصر البصر درجتها 0.75 على كلا العينين.لكنه استغرب أن يعاوده قصر البصر في هذه السن المتقدمة.فمع التقدم بالسن يعاني المرء من مدّ البصر،كما قرأ،وتختفي أعراض قصر البصر تدريجياً. ربما كان ما يعاني منه لا يندرج تحت التعريف التقليدي لقصر البصر ولا تستطيع النظارة الطبية المساعدة على التخلص منه:ماء أبيض انفصال في الشبكية، سرطان العين،أو ربما سرطان في الدماغ يضغط على عصب الرؤية...


  13. #13
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند


    كان مستغرقاً بأفكاره السوداء هذه إلى الحد الذي منع الزمور القصير المتكرر من النفاذ إلى وعيه،فقط بعد المرة الرابعة أو الخامسة،التي امتدت بالطول أكثر،سمع جوناثان ورفع رأسه ورأى فعلاً سيارة السيد رولدز السوداء عن البوابة! ورأي السيد رولدز يضغط على الزمور بيد ويلوح بالأخرى كما لو أنه ينتظر منذ دقائق...عند البوابة! سيارة السيد رولدز ! لم يسبق اه أبداً أن غفل عنها وهي تقترب،لم يكن في العادة بحاجة لن يراها تقترب،كان يشعر بقدومها،يدرك أنها تقترب من فحيح المحرك.كان يمكنه النوم والاستيقاظ كما يفعل الكلب حين تقترب سيارة السيد رولدز.
    انتفض جوناثان واقفاً وهرع باتجاه البوابة بسرعة كاد يفقد معها توازنه ويقع أرضاً،أزاح البوابة وفتحها،أدى التحية،وتنحى ليدعها تمر.كان يشعر بقلبه يخفق بشدة وبيده ترتجف بعنف على مقدمة قبعته .

    حين اقفل البوابة ورجع إلى بوابة البنك الرئيسية كان غارقاً بعرقه :- لقد غفلت عن وصول سيارة السيد رولدز!- تمتم بصوت مرتجف مؤنباً نفسه، ثم قالها ثانية وكانه لا يصدق ما يقول_ لقد غفلت عن وصول سيارة السيد رولدز...لم ترها! أخفقت وأهملت واجباتك الوظيفية باستهتار، إنك لست أعمىّ فقط، بل أطرش أيضاً..وإنك أخرق وعجوز ولا تصلح بعد الآن لأن تكون حارساً.

    كان خلال هذا الوقت قد عاد إلى مدخل البنك ووقف على الدرجة الرخامية الأولى محاولً اتخاد وضعية الحراسة المعتادة،لكنه شعر بالإحباط فوراً، فهو لم يعد قادراً على الانتصاب في وقفته بشكل معتاد،وراحت ذراعاه تتدليان بشكل متعب على جانبيه،كان يدرك أن مظهره في هذه اللحظة يبدو مثيراً للسخرية ،ولم يكن يدري كيف سيتمكن من تحسينه.بقنوط صامت أخد جوناثان يجول بنظره بين الرصيف والشارع المقهى على الطرف الآخر.لقد زالت الغشاوة عن عينيه وأخذت الأشكال تسترجع ملامحها المعتادة، والخطوط استقامتها،واسترجع الكون وضوحه.بات يستطيع سماع ضجيج الشارع،وفحيح أبواب الحافلات وهي تفتح وتغلق، وأصوات النُدُل في المقهى،ووقع كعوب أحذية النسوة على الرصيف.ما عاد يعاني من أي ضعف في قدراته على الرؤية أو السمع،لكن العرق
    ما يزال يتصبب بغزارة من جبهته وما يزال يشعر بضعف عام في جسده،فاستدار إلى الخلف وصعد إلى الدرجة الثانية،ثم الثالثة.استقر في الظل قريباً من الدعامة بجانب البوابة الزجاجية المسلحة الخارجية،شبك يديه خلف ظهره بحيث تلامسان الدعامة واستند عليها برفق-إنه يفعل هذا لأول مرة منذ ثلاثين عاماً وهي مدة خدمته في البنك – ثم أغلق عينيه ثوان وهو يستشعر عاراً كبيراً داخله.
    أثناء استراحة الغداء،قام بجلب حقيبته ومعطفه من غرفة الملابس وتوجه إلى شارع سانت بلاسيد القريب،حيث يوجد فندق صغير كانت أكثرية نزلائه من الطلاب والعمال الأجانب،وطلب استئجار أرخص غرفة فيه.عُرضت عليه واحدة بأجر يومي قدره خمسة وخمسون فرنكاً،قَبِل بها دون أن يراها ودفع أجرها مقدماً،ثم ترك أغراضه لدى موظف الاستقبال وخرج.اشترى فطيرتي زبيب وعلبة حليب من كشك على الشارع،وذهب باتجاه ساحة بوسيكو،وهي حديقة صغيرة بالقرب من متجر (بون مارشيه) ،حيث جلس على مقعد في الظل، وبدأ يتناول غداءه.

    على بعد مقعدين منه كان هناك متشرد يجلس القرفصاء فوق المقعد واضعاً زجاجة نبيذ بين فخديه،ممسكاً بقطعة خبز أبيض بيده،وبجانبه على المقعد وضع علبة سردين مدخن.راح يتناول السردينة بعد الأخرى ممسكاً بها من ذيلها،ثم يرفعها إلى فمه ليقضم رأسها ويتفه على الأرض ثم يلتهم ما بقى منها دفعة واحدة.يقضم قطعة خبز ويتجرع جرعة كبيرة من الخمر بعدها،ثم يطلق تنهيدة راضية ... إن جوناثان يعرف هذا الرجل .كان يراه في الشتاء يجلس دائما عند مدخل مستودع المتجر على الشبك الحديدي الذي يوجد فوق قبو ماكينات التدفئة،أما في الصيف فيتواجد أمام المحلات التجارية في شارع دوسيفر،أو قبالة بوابة منظمة العناية بالأجانب،أو عند مكتب البريد.إنه يعيش منذ عقود في هذه المنطقة،تماماً مثل جوناثان،ولقد تذكر جوناثان أنه قبل وقت طويل، قبل حوالي الثلاثين عاماً،حين رأى هذا الرجل لأول مرة، تملكه شعور غاضب من الغيرة، الغيرة من الحياة الخالية من الهموم التي يحياها هذا الرجل.فبينما على جوناثان الحضور إلى موقع عمله في تمام الساعة الثامنة والنصف، كان المتشرد يظهر في الساعة العاشرة والنصف أو الحادية عشرة، وبينما على جوناثان الوقوف منتصب القامة مشدود الذراعين إلى أسفل، يسترخي هذا على قطعة كرتون ويدخن، وبينما جوناثان يقضي الساعة بعد الساعة، واليوم بعد اليوم، مخاطراً بحياته وهو يحرس البنك ويكسب قوته بمرارة من هذا العمل، كان هذا الشخص لا يفعل أي شيء على الإطلاق سوى الاعتماد على شفقة وعطف الآخرين الذين يلقون بالنقود في قلنسوته ! لم يكن يبدو يوما معكر المزاج. حتى في الأيام التي كانت فيها قلنسوته تخلو من أي مال،لم يكن يبدو عليه أنه يعاني أو يخاف أو حتى يمل.دائما تنضح منه ثقة بالنفس ورضى مثيران للغيظ.لقد كان يمثل تجسيداً استفزازياً لجاذبية الحرية وسحرها.


  14. #14
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند


    بقليل من المال يمكن لجونثان تدبر أمره،وكان يتصور أن بإمكانه قبول ارتداء سترة متسخة وسروال ممزق.وعند الحاجة، حين يستغرق بتخيلاته الرومانسية، يصبح النوم على قطعة من الكرتون،والاستغناء عن حميمية العيش في الغرفة والاستعاضة عنها بزاوية ما،بشبك التدفئة المعدني أو بعتبة أحد أدراج محطات المترو ممكناً.ولكن عندما لا يجد المرء في مدينة كبيرة باباً يستطيع أن يغلقه خلفه حين يريد أن يتبرز- حتى ولو كان باب المرحاض المشترك- حين يتم تجريد المرء من هذه الحرية الأساسية، حرية الانسحاب والاحتجاب عن الناس عند الضرورة،فإن كل الحريات الأخرى تصبح عديمة القيمة.آنئذ تفقد الحياة معناها، ويكون الموت هو الحل الأفضل.


    حين أدرك جوناثان أن جوهر الحرية الإنسانية مرهون بامتلاك مرحاض مشترك،وأنه بالتالي يتمتع بهذه الحرية الأساسية، تملكه شعور عميق بالرضى. نعم لقد كان مصيباً في الكيفية التي أمّن بها وجوده ! فقد كان يعيش حياة رغيدة وليس هناك شيء، أي شيء يدعو للندم أو ليحسد الآخرين عليه.

    منذ تلك الساعة أصبح جوناثان يقف على أرض صلبة أمام أبواب البنك ،منتصباً وشامخاً تماماً كتمثال منحوت من الصخر أو مصبوب من المعدن.وتلك الخصال من الثقة الصلبة بالذات والقناعة، التي كان يعتقد أن المتشرد يتمتع بها، تدفقت في داخله هو كالمعدن المنصهر،وتصلبت لتصبح درعاً له،ودعّمت من رسوخه وثباته.منذ ذلك الوقت لم يعد هناك شيء يمكن أن يهزه،أو شك يمكن أن يزعزعه، لقد لبس هدوء وطمأنية أبي الهول.وحين صار يصادف المتشرد أو يراه جالساً في مكان ما، راح يداهمه شعور يمكن تسميته بشكل سطحي التسامح أو قبول الآخر كما هو،كان شعوره هذا مزيجاً شديد التنافر من القرف والاحتقار والشفقة. ولم يعد هذا المخلوق يثيره. ما عاد هذا المخلوق يهم في أي شيء.


    ما عاد يهمه حتى قابله اليوم في ساحة بوسيكو، عندما كان يتناول فطائر الزبيب ويشرب الحليب. عادة كان جوناثان يذهب إلى غرفته في فترة الغداء، فهو يسكن على مسافة خمس دقائق من هنا، ليعد وجبة ساخنة مثل البيض المقلي المخفوق، أو غير المخفوق، مع اللحم المقدد،أو المكرونة مع الجبن المبشور، أو ليأكل حساءً بائتاً من اليوم السابق مع سَلَطة وفنجان قهوة. كان قد مضى وقت طويل جداً على آخر مرة جلس فيها في الحديقة ليأكل فطائر الزبيب ويشرب الحليب، فهو لا يحب المأكولات الحلوة ولا الحليب أيضاً.إلا أنه كان قد دفع اليوم خمسة وخمسين فرنكاً إيجاراً للغرفة، وكان يعتبر الذهاب إلى المقهى وشراء طبق من البيض المخفوق مع السلطة والبيرة تبذيراً في غير أوانه.



    كان المتشرد المتربع على المقعد قد انتهى من تناول وجبته وختمها،بعد أن أجهز على السردين والخبز ،بالجبن والإجاص وبعض البسكويت، ثم تجرع كمية كبيرة من النبيذ وأطلق تنهيدة طويلة مليئة بالرضى.خلع سترته وكورها ليصنع منها وسادة أراح رأسه عليها،ومدد جسده الكسول الشبعان على المقعد وهو يتمطى، ثم دخل في قيلولة ما بعد الغداء. حالما استغرق في النوم حطت بالقرب من مقعده مجموعة من العصافير بدأت تتلقف بقايا الخبز،لحقت بها حمامات رفرفت وحطت على المقعد، أخدت تعزق بمناقيرها السوداء رؤوس السردين.أما المتشرد فلم يزعج نفسه بالالتفات إليها، وغط في نوم عميق هانئ.

    راح جوناثان يتأمله، وبينما هو يفعل هذا اعتراه شعور غريب بالانزعاج.لم يكن مصدر انزعاجه الحسد أو الغيرة كما في السابق، بل الدهشة:إذ كيف يمكن لهذا المرء الذي تجاوز الخمسين من عمره أن يبقى على قيد الحياة حتى الآن، بطريقة حياته المستهترة هذه، يجب أن يكون نفق من الجوع أو البرد أو تشمع الكبد منذ زمن طويل! بدل كل هذا تراه يأكل ويشرب بشهية مطلقة وينام نوماً هادئاً مطمئناً،ويبدو بسرواله المليء بالبقع – طبعاً ليس السروال نفسه الذي أنزله ذلك اليوم في شارع (دوبان) وإنما سروال آخر، مرقع هنا وهناك ولكنه على الموضة وأنيق بطريقة ما- كان يبدو بسرواله هذا وسترته الصوفية مثل شخص متزن، يستمتع بحياته ويعيش بانسجام كامل مع العالم من حوله.بينما هو، جوناثان- بدأت دهشته التي تزداد لحظة بعد أخرى تتحول إلى نوع من التوتر الفكري المضطرب- الذي قضى حياته نزيهاً، منتظماً،قانعاً،متقشفاً بعض الشيء، نظيفاً دقيقاً في مواعيده، مطيعاً في سلوكه، أميناً، مؤدباً، وكل قرش يملكه كسبه من عرق جبينه، يدفع كل التزاماته نقداً:فواتير الكهرباء،أيجار الغرفة، وإكرامية مدبرة العمارة في أعياد الميلاد.لم يستدن مالاً من أحد في حياته ولم يكن يوماً عالة على أحد، ولم يمرض حتى يوماً واحداً، أو يكلف صندوق الضمان الاجتماعي ولو فرنكاً واحداً،ولم يسبق له أن آذى أحداً،أبداً،ولم تكن له أية أمنية في هذه الحياة أكثر من أن يتمكن من تدعيم وصيانة سلام وطمأنية روحه المتواضعة، بينما هو بعامه الثالث والخمسين يجد نفسه فجأة غارقاً في خضم أزمة تعصف بكل مخطط حياته الذي جَهِد في وضعه وفي العمل من أجله،لتجعل منه معتوهاً ضائعاً وتجبره علة اجترار فطائر الزبيب نتيجة اضطرابه وخوفه ! نعم، إنه خائف ! يعلم الله أنه يرتجف من الخوف من مجرد النظر إلى هذا المتشرد النائم: لقد تملكه خوف عظيم فجاة من أن يضطر يوماً ما أن يصبح مثل هذا الرجل المنحط المتمدد على المقعد. ما هي السرعة التي يحتاجها حدوث شيء كهذا ؟ أن يُفقر المرء ويسقط إلى الحضيض ! كم من الوقت تحتاج الدعائم، التي كانت تبدو صلبة، في حياة شخص ما لتتفتت وتهوي ؟ لقد غفلت عن اقتراب سيارة السيد رودلز، أخد يتردد في رأسه مرة اخرى، ما لم يسبق له أن حدث،وما يجب ألا يحدث أبداً، حدث اليوم بالذات: لقد غفلت عن وصول سيارة السيد رودلز، وربما تغفل غداً عن الدوام كله، او تضيع مفتاح البوابة المعدنية الخلفية،لتُطرد الشهر القادم من عملك مع خطاب تأنيب،وعندها لن تتمكن من العمل في مكان آخر... فمن الذي يقبل بتوظيف رجل فاشل ؟ من تعويض البطالة وحده لا يمكن للمرء أن يعيش، وسوف تكون حتى ذلك الوقت قد فقدت غرفتك التي ستسكنها حمامة، عائلة من الحمام،تملؤها وسخاً وبرازاً وتجعل عاليها سافلها، وستتراكم عليك أجرة الفندق وتصل إلى مبالغ خيالية،فتلجأ للسكر هرباً من همومك، وتشرب، وتشرب ...وتبدد كل مدخراتك على السكر وتغرق فيه ثم تصبح مدمنا ، فتمرض، وتنحط،ويسكنك القمل،وتتهزأ، وتطرد من آخر مأوى رخيص مفلساً،تقف أمام العدم،وتصبح في الشوارع حيث ستنام وتسكن وتتبرز ...


  15. #15
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند


    ستؤل إلى الحضيض يا جوناثان، قبل انقضاء العام سوف تكون في الحضيض،تتجول كمتشرد بثيابك الرثة، وسوف تنام على مقعد في الحديقة مهذا النائم هنا، أخيك المنحط هذا !

    أحس بجفاف ريقه. فأشاح بنظره عن الرجل، العبرة، النائم،وغص باللقمة الأخيرة من فطائر الزبيب قبل أن يتمكن من ابتلاعها. استغرقت اللقمة وقتاً بدا طويلاً كالدهر حتة وصلت إلى معدته. بسرعة بزاقة كانت تنحدر في بلعومه،وبدت مرة كما لو انها توقفت، فراحت تضغط وتؤلم كما لو أنها ظفر يحفر في الصدر. واعتقد جوناثان أن هذه اللقمة المقرفة سوف تتسبب له بالاختناق.، لكنها عادت وتحركت قليلاً، قليلاً ، حتى انزلقت أخيراً إلى الأسفل فتلاشت نوبات الألم، فتنفس جوناثان الصعداء.
    كان يريد مغادرة المكان. لم يعد يرغب في البقاء هنا لوقت أطول على الرغم من أن استراحة الغداء تنتهي بعد نصف ساعة من الآن. لقد طفح به الكيل، وأصبح المكان بالنسبة إليه كريها وبغيضاً.
    قام بكنس فتات فطائر الزبيب الذي تساقط في حضنه على سروال العمل بظاهر يده، رغم كل الاحتياطات التي بذلها خلال تناوله لطعامه لمنع حدوث ذلك. أصلح ثنية سرواله، ونهض وغادر دون أن يلقي أية نظرة صوب المتشرد.

    كان قد بلغ شارع دوسيفر حين تذكر أنه نسي علبة الحليب الذي شربه فارغة على مقعد الحديقة مما سبب له الضيق. فهو يكره عادات البشر في ترك مخلفاتهم على مقاعد الحديقة أو إلقائها في الشارع بإهمال عوضاً عن رميها في الأماكن المخصصة لها،بالتحديد في سلال الزبالة الموزعة خصيصاً لذلك.أما هو،فلم يسبق له أبداً أن ترك مخلفاته وراءه على مقعد حديقة،أو رمى بأي شيء في الطريق أبداً،ولا حتى نتيجة إهمال أو نسيان،شيء كهذا لا يمكن أن يحدث له البتة...

    لذلك لم يكن يريده أن يحدث له اليوم،اليوم بالذات، في هذا اليوم المشؤم الذي حدث خلاله ما يكفي من المصائب.كان على كل حال قد فقد صوابه وأضاع طريقه المستقيم،وأصبح يتصرف كشخص مخبول لا يمكن أن يُؤاخد على تصرفاته، شخص من الحثالة-لقد غفلت عن وصول سيارة السيد رولدز! وتتغدى فطائر الزبيب في الحديقة!
    إذا لم يتنبه الآن، وخصوصاً إلى الأمور الصغيرة التي يمكن أن تبدو كما لو أنها من أتفه الأمور، مثل نسيان علبة الحليب الفارغة. وإذا لم يعالج الموضوع بحزم وتصميم فلن يمر وقت طويل قبل أن تبدأ نهايته المؤلمة وسقوطه الحتمي.

    إذن قفل جوناثان راجعاً إلى الحديقة. من بعيد استطاع أن يرى أن المقعد الذي كان يجلس عليه ما زال فارغاً، وحين أقترب أكثر شعر بارتياح وهو يرى من بين العوارض الخشبية الخضراء لمسند المقعد علبة الحليب الفارغة ما زالت في مكانها. لم يكتشف بعد أي إنسان إهماله إذاً،وبإمكانه الآن أن يصحح خطأه الذي لا يغتفر.انحنى من خلف المقعد متطاولاً ومد يده اليسرى وتناول العلبة،ثم استقام واستدار بجسده بحركة سريعة مرسومة جهة اليمين حيث يعلم بوجود سلة للمهملات قريبة. هنا شعر بشد عنيف من أعلى إلى أسفل في سرواله ما عاد بإمكانه التراخي له وهو في دورانه المتسرع، وسمع في الوقت نفسه ضجيجاً بشعاً وصوت تمزق ،وأحس بتيار هواء في أعلى فخده الأيسر،مما يدل على زوال الحاجز بين فخده والهواء الخارجي. تجمد للحظة من الفزع وهو لا يجرؤ على النظر إلى سرواله . لقد بدا له صوت التمزق، وصداه ما يزال يتردد في أذنيه،من القوة بحيث ظن معه ليس فقط أن شيئاً ما في سرواله قد تمزق، بل كأن صدعاً سرى في جسده من أعلاه إلى أسفله، في المقعد وفي الحديقة كلها، صدع عميق سبّبه زلزال،وخيل له أن كل من حوله قد سمع هذا الضجيج الهائل،وأخد ينظر إليه بغضب لكونه المتسبب به وبمصدره.لكن أحداً لم يكن ينظر في اتجاهه، استمرت النساء المسنات بحبك الصوف،واستمر الرجال المسنون بقراءة الصحف،والأطفال القلائل الموجودون في ساحة الألعاب الصغيرة بالتزحلق واللعب،أما المتشرد فما زال نائماً.


  16. #16
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند


    ببطء خفض جوناثان نظره تجاه الشق في سرواله،كان بطول اثني عشر سنتمتراً تقريباً،بدايته من أعلى فخده حتى أسفل جيب السروال الأيسر الذي علق،خلال دوران جوناثان، بمسمار ناتئ من المقعد.لم يكن فتقاً في دروز الخياطة،وإنما شق (قفل ومفتاح) في قماش الكاباردين الجميل لسروال الخدمة، نازلاً من الجانب لينحرف بزاوية شبه قائمة إلى الداخل بعرض إصبعين،مشكلاً شقاً كبيراً يرفرف فوقه علم مثلث، ليمكن للعين إلا أن تراه.

    شعر جوناثان بالأدرينالين يندفع في دمه،هذه المادة المدغدغة التي قرأ ذات مرة أن الكظر يضخها في الدم بكثرة في أوقات الخطر المحدق وحالات الفزع،لتحفز الحواس والطاقات في الجسم إما للهرب، أو لمواجةٍ مسألة فيها حياة أو موت. بالفعل كان يشعر وكأنه جريح،وأن الشق الذي انفتح بطول اثني عشر سنتمتراً لم يكن في سرواله وحسب،بل في جسده أيضاً ،يتدفق منه دمه وروحه التي مازالت تتابع دورتها المغلقة في داخله...بدا له أنه سوف يموت متأثراً بجرحه إذا لم يتمكن فوراً من معالجته وإغلاقه.وهنا بدأ الأدرينالين يفعل فعله فيه- هو الذي كان يظن أن جرحه سوف ينزف حتى الموت-وأنعشه بطريقة عجيبة.بدأ قلبه يخفق بقوة، وشجاعته تتضخم كما أصبحت أفكاره فجأة صافية وموجهة نحو هدف واحد:عليك أن تبادر إلى فعل شيء ما. صرخ صوت في داخله.عليك إتخاذ خطوة فورية لإغلاق هذا الثقب وإلا فإنك ضائع لا محالة ! وبينما راح يسأل نفسه عما يستطيع عمله، كان الجواب جاهزاً في ذهنه في اللحظة ذاتها-بهذه السرعة يعمل الأدرينالين،هذا العقار الرائع،بهذه السرعة يحفز الخوفُ الذكاء وقوة الشكيمة !-فبحركة سريعة قبض بيده اليمنى على علبة الحليب التي ما يزال يحملها بيده اليسرى، جعدها وكورها ثم رماها بعيداً دونما التفات منه إلى أين استقرت، في الممر الترابي أو على العشب. ضغط بيده اليسرى الفتحة في أعلى فخده وانطلق مسرعاً مصلباً فخده الأيسر قدر الإمكان كي لا تنزلق يده عن الشق،ومحركاً ذراعه اليمنى بتأرجح سريع كما لو أنها مجداف إلى جانبه... بمشيته العرجاء هذه أسرع صاعداً شارع دوسيفر. لم يبق لديه من الوقت إلا أقل من نصف ساعة.


    في قسم الأغذية في متجر (بون مارشيه) الواقع على زاوية شارع (دوباك) يوجد خيّاطة. لقد لاحظها منذ أيام قليلة فقط. كانت تجلس قريباً من المدخل،عند منطقة تجمّع عربات التسوق ، وتضع لوحة إعلانية فوق ماكينة الخياطة،ويذكر بالحرف الواحد ما كان مكتوباً عليها (جانين توبيل-تعديل وإصلاح –عناية وسرعة)

    هذه المرأة ستساعده إذا لم تكن الآن في استراحة الغداء.لا،إنها ليست في استراحة الغداء،لا،لا، سيكون هذا نحساً فرطاً.هذه الكمية من سوء الحظ لا يمكنه تحملها في يوم واحد.ليس الآن،وهو في هذه الورطة الكبيرة. حين يكون المرء في قنوط شديد،ربما يصادفه الحظ،وربما تأتيه النجدة. السيدة توبيل سوف تكون في مكانها وستساعده حتماً.
    كانت السيدة توبيل فعلاً في مكانها ! لقد رآها قرب المدخل تجلس في مكانها وتعمل على ماكينتها.نعم،إن المرء يمكن أن يعتمد على السيدة توبيل،حتى خلال استراحة الغداء كانت تعمل –بعناية وسرعة-هرع باتجاهها راكضاً، وتوقف بجانب آلة الخياطة، رفع يده عن فخده وألقى نظرة سريعة إلى ساعته، كانت تشير إلى الثانية وخمس دقائق.
    تنحنح وقال:-سيدتي !


  17. #17
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند


    أنهت السيدة توبيل خياطة ثوب أحمر ذي ثنيات كانت تخيطه.أوقفت الآلة وحررت الثوب من تحت الإبرة وقصت الخيطان العالقة،ثم رفعت رأسها ونظرت إلى جوناثان. إنها ترتدي نظارة كبيرة جداً ذات إطار صدفي سميك وعدسات شديدة التحدب جعلت عينيها تبدوان عظيمتي الحجم ، ومحجريها كبركتين ظليلتين شديتي العمق. كان شعرها بنياً كستنائي اللون ينسدل ناعماً على كتفيها، وكانت شفتاها مصبوغتين بلون بنفسجي فضي .ربما هي في نهاية الأربعينيات أو منتصف الخمسينيات من عمرها،ولها مظهر النساء اللواتي يقرأن الطالع بواسطة الكرة الزجاجية أو ورق اللعب، مظهر تلك الفئة من النساء اللواتي قست الدنيا عليهن،ووصف (سيدة) ماعاد ينطبق عليهن، لكن المرء يجد نفسه منساقاً لمنحهن ثقته.أما أصابعها –كانت أصلحت من وضع نظارتها ودفعتها قليلاً إلى أعلى أنفها لتستطيع تأمل جوناثان بشكل أشمل – فكانت ايضاً قصيرة غليظة،ولكنها رغم طبيعة العمل بدت نظيفة تنم عن أناقة متواضعة وثقة بالنفس، وأظافر مدهونة باللون البنفسجي الفضي: بماذا أستطيع خدمتك ؟ قالت السيدة توبيل بصوت فيه بحة خفيفة.
    أدار جوناثان جانبه الأيسر نحوها مشيراً إلى الفتحة في سرواله ثم سأل: هل تستطيعين إصلاحه ؟ وعندما لاحظ أنه طرح سؤاله بشكل فظ يكشف حالته العصبية الناجمة عن إثارة الأدرينالين له، أضاف بلهجة ألطف وصوت أخفت:إنه ثقب،شق صغير...إنه الحظ العاثر السيئ سيدتي.هل يمكن صنع شيء ما لإصلاحه؟

    تركت السيدة توبيل عينيها الواسعتين تنحدر على جوناثان حتى وجدت الشق عند أعلى فخذه.وحين انحنت تتفحصه انفرج شعرها البني الكستنائي الناعم عن نقرتها وعرّى رقبة بيضاء قصيرة ومكتنزة،وتصاعدت في الوقت ذاته رائحة عطر قوية فجة ومخدرة،اضطر معها جوناثان أن يلقي برأسه إلى الخلف قافزاً بنظره من الرقبة القريبة إلى المتجر البعيد.أخد للحظة يتأمل المكان بمجمله،بكل الرفوف والبرادات،أقسام بيع الجبن والسجق،وزوايا البضاعة المخفضة وأهرامات الزجاجات وجبال الخضار،وبين هذا كله الزبائن المتخبطون الذين يدفعون عربات التسوق أمامهم ويجرُّون أطفالاً صغاراً خلفهم،وموظفو الخدمة والمستودعات والمحاسبون...مجموعات من الناس تدب كالنمل وتنشر الغط والضجيج،يقف خارجهم هو،جوناثان، بسرواله الممزق من دون أي ستار يحميه من نظراتهم.

    فجأة ومضت فكرة في ذهنه:يمكن أن يكون بين هذه الجموع السيد فيلمان أو السيدة روك أو حتى السيد رولدز،وربما يقوم أحدهم الآن بمراقبته هو، جوناثان، الذي تقوم سيدة تجاوزت سن اليأس بتفحصه علناً في منطقة حساسة من جسده.أما هو فقد بدأ يشعر بالإحراج الشديد وهو يحس بأصابعها القصيرة الغليظة تلامس أعلى فخذه بينما تتفحص الشق وتثني المثلث الصغير إلى الأمام والخلف.
    رفعت السيدة رأسها ونظرها من مستوى ردفه،وانتصبت في جلستها مستندة إلى كرسيها بحيث انقطع تدفق رائحة عطرها المباشر في أنف جوناثان،مما مكنه من خفض رأسه وتحويل بصره عن المنظر المربك لمساحات البيع،إلى الجهة المريحة القريبة من العدسات الكبيرة المحدبة لنظارة السيدة توبيل.


  18. #18
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند


    -والآن ؟سأل بترقب ثم كرر،والآن ؟ ولكن هذه المرة بترقب مذعور،كما لو أنه يقف بحضرة دكتوره يتوقع منها تشخيصاً كارثياً لحالته.
    -لا يوجد مشكلة،ردت السيدة توبيل،يجب ترقيعه ووضع قطعة تحت الشق، إلا أن أثر خياطة صغيرة سوف يبقى مرئياً بعض الشيء، لا يمكنني أن أفعل أفضل من هذا.
    - لا بأس بهذا على الإطلاق، قال جوناثان، أثر خياطة صغير لا يؤثر على الإطلاق ،ثم من الذي سيرى تلك الرقعة المحجوبة عن النظر ؟ ألقى نظرة سريعة على ساعته، كانت تشير إلى الثانية إلا أربع عشرة دقيقة،إنك تستطيعين إصلاحه،سوف تقومين بمساعدتي يا سيدتي ؟
    - بالطبع،ردت السيدة توبيل وقامت بتعديل نظارتها، التي هبطت إلى أسفل أنفها أثناء تفحصها للشق ، ودفعتها إلى الأعلى.
    - أوه إنني في غاية الامتنان لك سيدتي،أشكرك جزيل الشكر ،أنك تحررينني من إحراج عظيم . لكن لي رجاء أخير صغير: هل يمكنك ... هل تتكرمين علي ...إنني في الواقع في أشد العجلة من أمري ،لم يبق لدي من الوقت إلا ...
    ثم نظر إلى ساعته مرة أخرى ... عشر دقائق.هل يمكنك إصلاحه الآن ؟ أعني :فوراً ؟ دون تأخير ؟
    هناك أسئلة تحمل نفيها ضمنها ببساطة وبمجرد أن يتم طرحها ،وهناك رجاء يتضح عدم جدواه التام بمجرد نطقه والنظر في الوقت نفسه في عيني المتلقي. نظر جوناثان في عيني السيدة توبيل الضخمة والمحاطة بالسواد فأدرك فوراً عبثية الموقف،عدم جدواه،وانعدام الأمل في تحقيقه.لقد عرف الجواب مسبقاً وهو ما يزال يطرح سؤاله المتلعثم، لقد أدرك الجواب بجسده وهو يشعر بهبوط مستوى الأدرينالين فيه في اللحظة التي نظر فيها إلى ساعته : عشر دقائق ! راح يشعر وكأنه هو الذي يهبط ، يغرق ،يقف على قطعة هشة من الجليد في طريقها إلى الذوبان في منتصف المحيط. عشر دقائق ! كيف سيتمكن أي شخص من ترقيع هذا الشق المخيف خلال عشر دقائق ؟ إن هذا غير ممكن. هذا لا يمكن تحقيقه أبداً.فالمرء لا يستطيع ترقيع شق وهو واقف، عليه أن يخلع ،يعني أن ينزع عنه سرواله، ولكن من أين باستطاعته أن يأتي بسروال آخر وهو موجود في قسم الأغذية من متجر بون مارشيه ؟ هل ينزع سرواله ويقف بلباسه الداخلي ... ؟ هراء ،هراء مدقع.
    - فوراً ؟ سألت السيدة توبيل.وعلى الرغم أن جوناثان كان يدرك سلفاً عبثية الموقف، وعلى الرغم من حالة الإحباط التي تمكنت منه ، إلا أنه أومأ برأسه إيجاباً.
    ابتسمت السيدة توبيل: - انظر ياسيدي ، غن كل ما تراه هنا، وأشارت إلى شماعة ملابس بطول مترين علق عليها الكثي،الكثير من الأثواب والسراويل والقمصان والسترات - كل هذه الأشياء يجب إصلاحها فوراً .إنني أعمل عشر ساعات في اليوم.
    - نعم بالطبع ، علق جوناثان، إنني أفهم تماماً يا سيدتي،لقد كان سؤالاً أحمقاً.كم تظنين سيستغرق الأمر، حتى تتمكني من رتق شقي ؟
    استدارت السيدة توبيل من جديد نحو آلة الخياطة، أعادت وضع الثوب الأحمر ذي الثنيات عليها، ثم أنزلت قدم التثبيت الحديدية الصغيرة :- إذا قمت بجلب السروال إلي يوم الاثنين المقبل، فإنه سوف يكون جاهزاً بعد ثلاثة أسابيع.
    -بعد ثلاثة أسابيع ؟ ردد جوناثان كالمخدّر.


  19. #19
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند


    -نعم ، أجابت السيدة توبيل،أسرع من هذا غير ممكن.
    ثم شغلت الآلة، وانطلقت الإبرة تقرقر،آنئد بدا لجوناثان كأنه ما عاد موجوداً، رغم أنه ما زال يستطيع رؤية السيدة توبيل وهي تجلس خلف طاولة الخياطة الصغيرة على بعد ذراع منه فقط لا أكثر.كان يرى رأسها البني الكستنائي بالنظارة الصدفية ،أصابعها القصيرة الغليظة تعمل بخفة، والإبرة تصعد وتهبط بسرعة شديدة زارعة حاشية الثوب الأحمر بالدروز.وما زال يشاهد بشكل ضبابي الحركة في المتجر . إلا أنه فجأة ما عاد يرى نفسه، أي أنه ما عاد يرى نفسه كجزء من العالم الذي يحيط به ، لقد تملكه شعور لبضع ثوان كما لو أنه بعيد جداً في الخارج،كما لو أنه يتأمل هذا العالم بمنظار مقرَّب مقلوب. ومرة أخرى، كما حدث له في الصباح،أصيب بالدوار وبدأ يترنح.
    خطا خطوة جانبية،ثم استدار واتجه نحو المدخل.ومن خلال حركة المشي وجد طريقه إلى العالم من جديد،واختفى من عينيه تأثير المنظار المقرَّب المقلوب ،إلا أنه،في داخله، ما زال يترنح توقف في قسم القرطاسية واشترى شريطاً لاصقاً،وقام بلصق قطعة شريط على شق سرواله ليمنع ذلك المثلث الصغير من الرفرفة عند كل خطوة يقوم بها.ثم قفل عائداً إلى مكان عمله مجدداً.
    قضى فترة ما بعد الظهيرة بمزاجٍ هجين بين البؤس والغضب.كان يقف أمام البنك على الدرجة العليا بجانب الدعامة دون أن يستند عليها هذه المرة،لأنه لم يكن يريد الاستسلام لضعفه،ولم يكن ليتمكن من هذا حتى لو أراد ذلك، فلكي يتكئ دون أن يلفت الانتباه إليه كان عليه أن يشبك يديه خلف ظهره،وهذا ليس متاحاً،فيده اليسرى يجب أن تبقى ملاة إلى جانبه حتى تخفي مكان الشريط اللاصق.عوضاً عن هذا وجد نفسه،وهو يسعى للوقوف بثبات،مضطراً للوقوف بساقين منفرجتين كما يفعل أولئك الشبان الحراس الأغبياء.ولاحظ ما نجم عن وقفته هذه من تحدب عموده الفقري وهبوط رقبته،المشدودة باستقامة عادة،هبوطها بين كتفيه ومعها الرأس والقبعة،ما نجم عن هذا بالتالي وبشكل أوتماتيكي من انطفاء لتلك النظرة الجدية الخبيثة المتوقدة من تحت حافة قبعته،وظهور تلك المتبرمة المتذمرة التي كان يستنكرها ويكرهها بشدة عند الحراس الآخرين.لقد غدا بعين نفسه كما لو أنه مشوه،كما لو أصبح رسماً كاريكاتورياً لرجل حراسة،صورة ممسوخة لنفسه.
    كان يكره نفسه خلال هذه الساعات وود لو يستطيع أن يخرج من جلده من شدة كرهه الغاضب لنفسه. إنه يريد الخروج من جلده بكل ما للكلمة من معنى،فقد كان الحك منتشراً في جميع أنحاء جسده، ولم يعد يتمكن من تدليكه بثيابه،لأن العرق ينضح من كل مساماته،وبدا أن ثيابه التي التصقت بجلده قد أصبحت كأنها جلد ثانٍ له.وهناك حيث لم تلتصق بجلده بعد، حيث ما زال حاجز من الهواء بينهما:في أسفل فخذيه وذراعيه،والفراغ في أسفل عظم قفصّه الصدري... في هذه المنطقة بالضبط حيث الحكة لا تُحتمل،لأن العرق يشكل كاملة تدب منزلقة،وبالذات هنا لم يكن يريد أن يحك نفسه،لم يكن يريد أن يخفف عنها قليلاً،فهذا لن يغير من حالته العامة التي كانت في منتهى السوء بل سوف يضخمها ويظهرها بشكل أوضح. إنه الآن يتقصد أن يعاني، فالمعاناة تبدو له الحل الأمثل،فهي تبرر وتعزز كرهه وغضبه،وكرهه وغضبه صارا يعززان معاناته بدورهما،فقد كانا يوصلان دمه للغليان من جديد،ويدفعان بموجات جديدة من العرق في مساماته.كان وجهه غارقاً بالعرق، والماء يتصبب بغزارة من ذقنه ومن شعر نقرته،وحافة قبعته تحشّ جبهته المترهلة،لكنه لم يكن لينزعها عن رأسه مقابل أي شيء في العالم،حتى ولو لوهلة وجيزة.يجب أن تظل على رأسه مبرغاة كغطاء طنجرة الضغط،كخاتم معدني يطوق صدغيه،حتى لو تصدع رأسه من جراء هذا.لم يكن يريد فعل شيء يخفف من معاناته.كان يتأمل فقط كيف راح عموده الفقري يحدودب أكثر فأكثر،وكيف كان كتفاه ورأسه ورقبته تهبط أكثر فأكثر،وكيف شرع جسده يتخذ وقفة أكثر انتفاخاً كوقفة كلب شرس هرم.


  20. #20
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية معاذ آل خيرات
    نبـ صامطة ـض
    نبض لمع في سماء الإشراف
    تاريخ التسجيل
    04 2006
    الدولة
    ممكن خيارات ؟!
    العمر
    39
    المشاركات
    3,381

    رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند


    وأخيراً- ودون إرادة منه أو قدرة على التحكم – تحرر كرهه المحبوس لنفسه وتدفق خارجاً منه، تدفق من عينيه الجاحظتين اللتين تزدادان عتمة وقسوة، عينيه القابعتين تحت مظلة قبعته، وانصب ككرهٍ داعر على العالم الخارجي.
    بدأ جوناثان يُغرق كل ما يقع تحت بصره بصدأ كرهه المقزز.بإمكان المرء أن يدعي بثقة هنا أن الصورة الحقيقية للعالم الخارجي لم تعد تتمكن من اختراق عقل جوناثان، كما لو كان اتجاه الإشعاع قد انعكس،وأصبحت عيناه مجرد بوابات تقذف العالم بصور مشوهة عنه باتجاه الخارج فقط: هناك أولئك النُدُل مثلاً في الطرف الآخر من الشارع، الواقفون على الرصيف أمام المقهى،أولئك النُدُل الشبان الحمقى الرعاع الذين يتسكعون بين الطاولات والكراسي بوقاحة، يلغطون مع بعضهم البعض ،ويتضاحكون ويستهزئون ويعيقون المارة ويصفرون للنساء، أولئك الديوك، لا يفعلون أي شيء سوى أن يصرخوا من الكوة المؤدية للمطبخ مرددين صياح أحد الزبائن وهو يطلب شيئاً من وقت لآخر:-واحد قهوة ! –واحد بيرة ! واحد عصير ليمون ! يسترخون بعدها، ثم يتحركون بسرعة مصطنعة ليتناولوا الطلبات بحركات بهلوانية،ويقومون بتقديمها بحركات النُدُل المتفننة الرخيصة والمبتذلة: يضعون الكأس على الطاولة ويدفعونه ليدور حول ن فسه بحركة حلزونية ،أو يضعون زجاجة الكوكاكولا بين الفخذين لفتحها بحركة واحدة،يعضون على فاتورة بشفاههم فيتفونها بيدهم ثم يحشرونها تحت منفضة السجائر،بينما اليد الأخرى مشغولة بحساب الطاولة المجاورة وهي تقبض أمولاً كثيرة فالأسعار فاحشة الغلاء:خمس فرنكات لفنجان القهوة،أحد عشر فرنكاً للبيرة بالإضافة إلى خمسة عشر بالمئة لخدمة القرود هذه،زائد البخشيش.إنهم ينتظرون من المرء أن يترك لهم البخشيش أيضاً،هؤلاء التنابل المغرورين،
    ينتظرون بخشيشاً إضافياً!وإلا فإنك لن تسمع أي كلمة شكر تتحرك بها شفاههم.ناهيك عن قولهم إلى اللقاء، فبدون بخشيش إضافي يصبح الزبون عندهم كالهواء لا يرونه، أما هو، وعند مغادرته المكان،فيشاهد أقفية الندل وأردافهم الاستفزازية،التي تعلوها زنانير لها جيوب تحتوي محافظ سوداء منتفخة بالنقود.هم يعتقدون أن هذه الزنانير جميلة ومريحة،أولئك الحمقى المتبخترون، يستعرضون محافظهم المكتنزة كما تُعرض العصاعيص عند الجزار !آه ، لكم يود لو يمزق أجسادهم بنظراته ،أولئك الأفظاظ المنتفخون المتعجرفون بقمصانهم المتأنقة الفضفاضة ذات الأكمام القصيرة لكم يود لو يركض باتجاههم ليمسك بهم من آذانهم ويشدهم من تحت مظلة المحل، التي تقيهم تقلبات الطقس، إلى وسط الشارع ليصفعهم هناك يميناً ويساراً، ويميناً ويساراً،بيتش باتش،ثم يركلهم ويركلهم حتى تحمر مؤخراتهم...
    ليسوا وحدهم فقط ! لا ،ليس فقط تلك الملاعق الصدئة من النُدل ،الزبائن أيضاً يجب أن يركلوا حتى تحمر أقفيتهم،هذه الشلة من السياح الذين يتسكعون ببلاهة هنا بملابسهم الخفيفة وقبعات القش والنظارات الشمسية،ويتناولون المشروبات الباهظة الثمن، بينما يقف آخرون غيرهم والعرق يتصبب من وجوههم وهم يكدحون لكسب قوتهم.وسائقو السارات أيضاً،أولئك القرود البلهاء الذين يجلسون في صناديقهم المعدنية النتنة يلوثون الهواء ،صانعو الضجيج المقززون الذين لايفعلون شيئاً في يومهم الميمون أفضل من القيادة بسرعة جنونية وهم يصعدون ويهبطون شارع دوسيفر.ألا يكفي ما في الهواء من روائح نتنة ؟ألا يوجد ما يكفي من الضجيج في هذا الشارع وهذه المدينة بكاملها ؟ ألا يكفي لظى الحر الحارق هذا النازل من السماء ؟ هل يجب عليكم أيضاً أن تشفطوا وتحرقوا بمحركاتكم آخر ما تبقى من هوا نظيف يمكن أستنشاقه،لتنفثوه في أنف المواطنين الشرفاء محلوطاً بالسم والصدأ والدخان ؟ أكياس قمامة أنتم ! رعاع مجرمون ! يجب أن تُستأصل شأفتكم .نعم،يجب جَلدكم ثم القضاء عليكم،يجب إعدامكم رمياً بالرصاص،كل على حدة وجميعكم معاً.أوه،تتملكه رغبة في أن ينتزع مسدسه ليطلق النار في اتجاه ما،نحو عمق المقهى،أو في منتصف الواجهات الزجاجية،فعلا يسمع المرء إلا دوي الرصاص وصوت تكسر الزجاج. أو يطلق النار ربما باتجاه هذه الحشود من السيارات ،أو باتجاه أحد المباني الضخمة تلك على الطرف الآخر من الشارع،تلك المباني العالية القبيحة الرعبة.أو ربما يطلق النار في الهواء باتجاه السماء،نعم باتجاه السماء الساخنة،السماء المنفرة الثقيلة المكفهرة،هذه السماء ذات اللون الأزرق الرمادي كلون حمامة،يريد أن يطلق النار باتجاهها علّها تنفلق وتتداعى قبتها الثقيلة فتسقط وتسحق كل شيء وتُفنيه تحتها، كل شيء... كل شيء، كل هذا العالم الكريه الثقيل الصاخب ذي الرائحة النتنة:بهذا الشمول وهذه الضخامة كان حقد جوناثان نويل خلال هذا اليوم يدفعه لتمني تحويل العالم إلى خرائب وأطلال بسبب شق في سرواله !
    لكنه لم يفعل شيئاً،الحمد لله أنه لم يقم بفعل شيء.لم يطلق النار نحو السماء أو باتجاه المقهى أو على السيارات العابرة.


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •