ما عدا ذلك لم يكن هناك شيء للقيام به.كان جوناثان يقف أكثر الوقت ساهماً منتظراً.وفي بعض الأحيان يتأمل قدميه،أو يتأمل الرصيف،وأحياناً أخرى ينظر إلى الطرف الآخر من الشارع حيث المقهى،أو يطوف على الدرجة الأخيرة من درج البنك جيئة وذهابا،سبع خطوات إلى اليمين ومثلها إلى اليسار، أو يتركها ويقف على الدرجة الثانية.وفي أحيان أخرى،حين تكون الشمس قوية حارقة،ويندفع العرق من رأسه إلى حافة شريط التعرق في قبعته،كان يصعد إلى الدرجة الثالثة ليحتمي تحت مظلة مدخل البنك،يرفع قبعته عن رأسه ويمسح جبينه بطرف كمّه،ثم يبقى هناك يتأمل وينتظر.

لقد أجرى ذات مرة عملية حسابية خلص فيها إلى أنه حتى يوم تقاعده، سيكون قد أمضى خمساً وسبعين ألف ساعة واقفاً على هذه الدرجات الرخامية الثلاث،وبهذا سيكون حتماً الإنسان الوحيد في باريس،وربما في فرنسا كلها الذي قضى كل هذا الوقت واقفاً في المكان نفسه،بل ربما شكل هذا الآن رقماً قياسياً بعد انقضاء الساعة الخامسة والخمسين ألف من وقوفه على هذه الدرجات الرخامية،إذ كان يوجد عدد قليل من الحراس الموظفين بشكل ثابت في مكان ما من المدينة،لأن أكثر البنوك أصبحت تستأجر خدمات الحراسة التي تقدمها بعض الشركات التي تسمي نفسها
(شركات حراسة الأملاك).وهي تستخدم بدورها شباناً صغاراً يقفون أمام البوابات بساقين منفرجتين ونظرات ضجرة،ليحل محلهم بعد شهور قليلة،بل أسابيع قليلة،شبان آخرون بسيقانهم المنفرجة ونظراتهم الضجرة ذاتها.هؤلاء يتم إحلالهم كما يُدّعى لأسباب "عمل نفسية" بحتة،لأن انتباه الحارس،هكذا يقال،يخف مع الوقت،حين يقضي فترة طويلة واقفاً في المكان نفسه.وتقل قدرته على ملاحظة ما يدور حوله،فيصبح كسولاً ثقيل الحركة ومهملاً لا يصلح للمهمة الملقاة على عاتقه.

كل هذا مجرد هراء أخرق! إن جونثان يعرف بشكل أفضل أن انتباه الحارس يتلاشى خلال ساعات وليس خلا أشهر! وقدرته على ملاحظة محيطه ومئات الزبائن الذين يدخلون ويخرجون من وإلى البنك بدأت بالانحسار منذ اليوم الأول لعمله ،فأصبح لا يستطيع التركيز أو التمييز...وهذا ليس بذي أهمية من وجهة نظره، فالمرء وبالرغم من كل شيء،لا يملك القدرة على التمييز بين زبون أو لص بنك!وحتى لو تمكن الحارس من التمييز بينهما واستطاع اعتراض اللص،فإنه وبلمح البصر يصبح في عداد الأموات...برصاصة!يموت حتى قبل أن يتمكن من فك عروة الأمان من جيب المسدس الجلدي...فالمجرم يمتلك ميزة لا يمكن تجاهلها في أية مواجهة معه،وهي:عنصر المفاجأة.

مثل أبي الهول،نعم...الحارس يجب أن يتشبه بأبي الهول،هذا ما يراه جوناثان (فقد قرأ عن أبي الهول ذات مرة في أحد كتبه). إن فعاليته لا تأتي من حركته، وإنما من مجرد وجوده في المكان.إنه يستطيع بمجرد وجوده فقط مواجهة اللص.-عليك أن تتعداني،قال أبا الهول للص الآثار،لا استطيع منعك، لكنك يجب أن تتعداني، وحين تتجرأ على هذا، فإن لعنة الآلهة وآل فرعون سوف تحل عليك! أما الحارس فيمكنه القول:-إن غليك أن تتعداني،إنني لا أستطيع منعك،وحين تتجرأ على هذا،فإن انتقام العدالة سوف يحل بك على شكل إدانة بجرم قتل!

إن جوناثان يعلم بكل تأكيد أن أبا الهول يملك أسلحة أكثر تأثيراً مما يملكه الحارس،فالحارس لا يمكنه التهديد بلعنة الآلهة،وحتى إذا كان اللص لا يآبه للعواقب فإن أبا الهول لن يتأذى جسدياً في هذه الحالة،فهو منحوت من صخر البازلت الخالص ويقبع كحصن منيع،فقد تمكن من المحافظة على يقائه مقاوماً لصوص الآثار عبر خمسة آلاف عام...بينما تجد حارس البنك،عند حدوث سطو مسلح،يضطر لأن يدع حياته خلفه مغادراً إلى الدار الآخرة خلال أقل من خمس ثوان! على الرغم من هذا فإن جونثان يعتقد أن الحارس وأبا الهول متشابهان،فسلطة كل منهما ليست أداتية،بل رمزية.فقط بإدراكه امتلاك هذه السلطة الرمزية التي كانت تشكل عزة نفسه واحترامه لذاته،وتمده بالقوة والقدرة على التحمل،وتحميه وتحصنه أفضل من أي انتباه أو مسدس أو زجاج مسلح،فقط بإدراكه هذا،كان جوناثان يقف على الدرجات الرخامية أمام البنك يحرسه دون أدنى خوف،دون أدنى شك بقدراته، دون أدنى شعور بالتذمر أو تعابير وجه ضجرة حتى اليوم.