بقليل من المال يمكن لجونثان تدبر أمره،وكان يتصور أن بإمكانه قبول ارتداء سترة متسخة وسروال ممزق.وعند الحاجة، حين يستغرق بتخيلاته الرومانسية، يصبح النوم على قطعة من الكرتون،والاستغناء عن حميمية العيش في الغرفة والاستعاضة عنها بزاوية ما،بشبك التدفئة المعدني أو بعتبة أحد أدراج محطات المترو ممكناً.ولكن عندما لا يجد المرء في مدينة كبيرة باباً يستطيع أن يغلقه خلفه حين يريد أن يتبرز- حتى ولو كان باب المرحاض المشترك- حين يتم تجريد المرء من هذه الحرية الأساسية، حرية الانسحاب والاحتجاب عن الناس عند الضرورة،فإن كل الحريات الأخرى تصبح عديمة القيمة.آنئذ تفقد الحياة معناها، ويكون الموت هو الحل الأفضل.


حين أدرك جوناثان أن جوهر الحرية الإنسانية مرهون بامتلاك مرحاض مشترك،وأنه بالتالي يتمتع بهذه الحرية الأساسية، تملكه شعور عميق بالرضى. نعم لقد كان مصيباً في الكيفية التي أمّن بها وجوده ! فقد كان يعيش حياة رغيدة وليس هناك شيء، أي شيء يدعو للندم أو ليحسد الآخرين عليه.

منذ تلك الساعة أصبح جوناثان يقف على أرض صلبة أمام أبواب البنك ،منتصباً وشامخاً تماماً كتمثال منحوت من الصخر أو مصبوب من المعدن.وتلك الخصال من الثقة الصلبة بالذات والقناعة، التي كان يعتقد أن المتشرد يتمتع بها، تدفقت في داخله هو كالمعدن المنصهر،وتصلبت لتصبح درعاً له،ودعّمت من رسوخه وثباته.منذ ذلك الوقت لم يعد هناك شيء يمكن أن يهزه،أو شك يمكن أن يزعزعه، لقد لبس هدوء وطمأنية أبي الهول.وحين صار يصادف المتشرد أو يراه جالساً في مكان ما، راح يداهمه شعور يمكن تسميته بشكل سطحي التسامح أو قبول الآخر كما هو،كان شعوره هذا مزيجاً شديد التنافر من القرف والاحتقار والشفقة. ولم يعد هذا المخلوق يثيره. ما عاد هذا المخلوق يهم في أي شيء.


ما عاد يهمه حتى قابله اليوم في ساحة بوسيكو، عندما كان يتناول فطائر الزبيب ويشرب الحليب. عادة كان جوناثان يذهب إلى غرفته في فترة الغداء، فهو يسكن على مسافة خمس دقائق من هنا، ليعد وجبة ساخنة مثل البيض المقلي المخفوق، أو غير المخفوق، مع اللحم المقدد،أو المكرونة مع الجبن المبشور، أو ليأكل حساءً بائتاً من اليوم السابق مع سَلَطة وفنجان قهوة. كان قد مضى وقت طويل جداً على آخر مرة جلس فيها في الحديقة ليأكل فطائر الزبيب ويشرب الحليب، فهو لا يحب المأكولات الحلوة ولا الحليب أيضاً.إلا أنه كان قد دفع اليوم خمسة وخمسين فرنكاً إيجاراً للغرفة، وكان يعتبر الذهاب إلى المقهى وشراء طبق من البيض المخفوق مع السلطة والبيرة تبذيراً في غير أوانه.



كان المتشرد المتربع على المقعد قد انتهى من تناول وجبته وختمها،بعد أن أجهز على السردين والخبز ،بالجبن والإجاص وبعض البسكويت، ثم تجرع كمية كبيرة من النبيذ وأطلق تنهيدة طويلة مليئة بالرضى.خلع سترته وكورها ليصنع منها وسادة أراح رأسه عليها،ومدد جسده الكسول الشبعان على المقعد وهو يتمطى، ثم دخل في قيلولة ما بعد الغداء. حالما استغرق في النوم حطت بالقرب من مقعده مجموعة من العصافير بدأت تتلقف بقايا الخبز،لحقت بها حمامات رفرفت وحطت على المقعد، أخدت تعزق بمناقيرها السوداء رؤوس السردين.أما المتشرد فلم يزعج نفسه بالالتفات إليها، وغط في نوم عميق هانئ.

راح جوناثان يتأمله، وبينما هو يفعل هذا اعتراه شعور غريب بالانزعاج.لم يكن مصدر انزعاجه الحسد أو الغيرة كما في السابق، بل الدهشة:إذ كيف يمكن لهذا المرء الذي تجاوز الخمسين من عمره أن يبقى على قيد الحياة حتى الآن، بطريقة حياته المستهترة هذه، يجب أن يكون نفق من الجوع أو البرد أو تشمع الكبد منذ زمن طويل! بدل كل هذا تراه يأكل ويشرب بشهية مطلقة وينام نوماً هادئاً مطمئناً،ويبدو بسرواله المليء بالبقع – طبعاً ليس السروال نفسه الذي أنزله ذلك اليوم في شارع (دوبان) وإنما سروال آخر، مرقع هنا وهناك ولكنه على الموضة وأنيق بطريقة ما- كان يبدو بسرواله هذا وسترته الصوفية مثل شخص متزن، يستمتع بحياته ويعيش بانسجام كامل مع العالم من حوله.بينما هو، جوناثان- بدأت دهشته التي تزداد لحظة بعد أخرى تتحول إلى نوع من التوتر الفكري المضطرب- الذي قضى حياته نزيهاً، منتظماً،قانعاً،متقشفاً بعض الشيء، نظيفاً دقيقاً في مواعيده، مطيعاً في سلوكه، أميناً، مؤدباً، وكل قرش يملكه كسبه من عرق جبينه، يدفع كل التزاماته نقداً:فواتير الكهرباء،أيجار الغرفة، وإكرامية مدبرة العمارة في أعياد الميلاد.لم يستدن مالاً من أحد في حياته ولم يكن يوماً عالة على أحد، ولم يمرض حتى يوماً واحداً، أو يكلف صندوق الضمان الاجتماعي ولو فرنكاً واحداً،ولم يسبق له أن آذى أحداً،أبداً،ولم تكن له أية أمنية في هذه الحياة أكثر من أن يتمكن من تدعيم وصيانة سلام وطمأنية روحه المتواضعة، بينما هو بعامه الثالث والخمسين يجد نفسه فجأة غارقاً في خضم أزمة تعصف بكل مخطط حياته الذي جَهِد في وضعه وفي العمل من أجله،لتجعل منه معتوهاً ضائعاً وتجبره علة اجترار فطائر الزبيب نتيجة اضطرابه وخوفه ! نعم، إنه خائف ! يعلم الله أنه يرتجف من الخوف من مجرد النظر إلى هذا المتشرد النائم: لقد تملكه خوف عظيم فجاة من أن يضطر يوماً ما أن يصبح مثل هذا الرجل المنحط المتمدد على المقعد. ما هي السرعة التي يحتاجها حدوث شيء كهذا ؟ أن يُفقر المرء ويسقط إلى الحضيض ! كم من الوقت تحتاج الدعائم، التي كانت تبدو صلبة، في حياة شخص ما لتتفتت وتهوي ؟ لقد غفلت عن اقتراب سيارة السيد رودلز، أخد يتردد في رأسه مرة اخرى، ما لم يسبق له أن حدث،وما يجب ألا يحدث أبداً، حدث اليوم بالذات: لقد غفلت عن وصول سيارة السيد رودلز، وربما تغفل غداً عن الدوام كله، او تضيع مفتاح البوابة المعدنية الخلفية،لتُطرد الشهر القادم من عملك مع خطاب تأنيب،وعندها لن تتمكن من العمل في مكان آخر... فمن الذي يقبل بتوظيف رجل فاشل ؟ من تعويض البطالة وحده لا يمكن للمرء أن يعيش، وسوف تكون حتى ذلك الوقت قد فقدت غرفتك التي ستسكنها حمامة، عائلة من الحمام،تملؤها وسخاً وبرازاً وتجعل عاليها سافلها، وستتراكم عليك أجرة الفندق وتصل إلى مبالغ خيالية،فتلجأ للسكر هرباً من همومك، وتشرب، وتشرب ...وتبدد كل مدخراتك على السكر وتغرق فيه ثم تصبح مدمنا ، فتمرض، وتنحط،ويسكنك القمل،وتتهزأ، وتطرد من آخر مأوى رخيص مفلساً،تقف أمام العدم،وتصبح في الشوارع حيث ستنام وتسكن وتتبرز ...