ستؤل إلى الحضيض يا جوناثان، قبل انقضاء العام سوف تكون في الحضيض،تتجول كمتشرد بثيابك الرثة، وسوف تنام على مقعد في الحديقة مهذا النائم هنا، أخيك المنحط هذا !

أحس بجفاف ريقه. فأشاح بنظره عن الرجل، العبرة، النائم،وغص باللقمة الأخيرة من فطائر الزبيب قبل أن يتمكن من ابتلاعها. استغرقت اللقمة وقتاً بدا طويلاً كالدهر حتة وصلت إلى معدته. بسرعة بزاقة كانت تنحدر في بلعومه،وبدت مرة كما لو انها توقفت، فراحت تضغط وتؤلم كما لو أنها ظفر يحفر في الصدر. واعتقد جوناثان أن هذه اللقمة المقرفة سوف تتسبب له بالاختناق.، لكنها عادت وتحركت قليلاً، قليلاً ، حتى انزلقت أخيراً إلى الأسفل فتلاشت نوبات الألم، فتنفس جوناثان الصعداء.
كان يريد مغادرة المكان. لم يعد يرغب في البقاء هنا لوقت أطول على الرغم من أن استراحة الغداء تنتهي بعد نصف ساعة من الآن. لقد طفح به الكيل، وأصبح المكان بالنسبة إليه كريها وبغيضاً.
قام بكنس فتات فطائر الزبيب الذي تساقط في حضنه على سروال العمل بظاهر يده، رغم كل الاحتياطات التي بذلها خلال تناوله لطعامه لمنع حدوث ذلك. أصلح ثنية سرواله، ونهض وغادر دون أن يلقي أية نظرة صوب المتشرد.

كان قد بلغ شارع دوسيفر حين تذكر أنه نسي علبة الحليب الذي شربه فارغة على مقعد الحديقة مما سبب له الضيق. فهو يكره عادات البشر في ترك مخلفاتهم على مقاعد الحديقة أو إلقائها في الشارع بإهمال عوضاً عن رميها في الأماكن المخصصة لها،بالتحديد في سلال الزبالة الموزعة خصيصاً لذلك.أما هو،فلم يسبق له أبداً أن ترك مخلفاته وراءه على مقعد حديقة،أو رمى بأي شيء في الطريق أبداً،ولا حتى نتيجة إهمال أو نسيان،شيء كهذا لا يمكن أن يحدث له البتة...

لذلك لم يكن يريده أن يحدث له اليوم،اليوم بالذات، في هذا اليوم المشؤم الذي حدث خلاله ما يكفي من المصائب.كان على كل حال قد فقد صوابه وأضاع طريقه المستقيم،وأصبح يتصرف كشخص مخبول لا يمكن أن يُؤاخد على تصرفاته، شخص من الحثالة-لقد غفلت عن وصول سيارة السيد رولدز! وتتغدى فطائر الزبيب في الحديقة!
إذا لم يتنبه الآن، وخصوصاً إلى الأمور الصغيرة التي يمكن أن تبدو كما لو أنها من أتفه الأمور، مثل نسيان علبة الحليب الفارغة. وإذا لم يعالج الموضوع بحزم وتصميم فلن يمر وقت طويل قبل أن تبدأ نهايته المؤلمة وسقوطه الحتمي.

إذن قفل جوناثان راجعاً إلى الحديقة. من بعيد استطاع أن يرى أن المقعد الذي كان يجلس عليه ما زال فارغاً، وحين أقترب أكثر شعر بارتياح وهو يرى من بين العوارض الخشبية الخضراء لمسند المقعد علبة الحليب الفارغة ما زالت في مكانها. لم يكتشف بعد أي إنسان إهماله إذاً،وبإمكانه الآن أن يصحح خطأه الذي لا يغتفر.انحنى من خلف المقعد متطاولاً ومد يده اليسرى وتناول العلبة،ثم استقام واستدار بجسده بحركة سريعة مرسومة جهة اليمين حيث يعلم بوجود سلة للمهملات قريبة. هنا شعر بشد عنيف من أعلى إلى أسفل في سرواله ما عاد بإمكانه التراخي له وهو في دورانه المتسرع، وسمع في الوقت نفسه ضجيجاً بشعاً وصوت تمزق ،وأحس بتيار هواء في أعلى فخده الأيسر،مما يدل على زوال الحاجز بين فخده والهواء الخارجي. تجمد للحظة من الفزع وهو لا يجرؤ على النظر إلى سرواله . لقد بدا له صوت التمزق، وصداه ما يزال يتردد في أذنيه،من القوة بحيث ظن معه ليس فقط أن شيئاً ما في سرواله قد تمزق، بل كأن صدعاً سرى في جسده من أعلاه إلى أسفله، في المقعد وفي الحديقة كلها، صدع عميق سبّبه زلزال،وخيل له أن كل من حوله قد سمع هذا الضجيج الهائل،وأخد ينظر إليه بغضب لكونه المتسبب به وبمصدره.لكن أحداً لم يكن ينظر في اتجاهه، استمرت النساء المسنات بحبك الصوف،واستمر الرجال المسنون بقراءة الصحف،والأطفال القلائل الموجودون في ساحة الألعاب الصغيرة بالتزحلق واللعب،أما المتشرد فما زال نائماً.