لاحظ جوناثان أن تلميحه الدائم لتعليمات العمارة فيه شيء مثير للسخرية. وهو في الواقع لم يكن يهتم حقيقة بكيفية تمكن الحمامة من تادخول،ولم يكن يريد أن يتكلم دائماً عن الحمامة فهذه مشكلة تخصه وحده،كان يريد أن يفرغ غضبه من نظرات السيدة روكار الفضولية إليه، وقد تم له هذا في بداية حديثه معها،أما الآن وقد هدأ غضبه،فإنه لم يعد يدري ماذا سيقول بعد.
--يجب أن تُطرد الحمامة وتُغلق النافذة". قالت السيدة روكار.قالت وكأنه أسهل الأشياء إنجازاً في العالم،أو كأنما سيعود كل شيء إلى طبيعته بعد ذلك!أما جوناثان الذي مازال صامتاً،فقد تعلق نظره في عمق عينيها،وبدا كالمأسور المعرّض لخطر الغرق في مستنقع بني اللون،حميم!كان عليه أن يغلق عينيه لبضع لحظات ليتمكن من النجاة،ثم تنحنح ليستعيد صوته:-إن الأمر...بدأ يقول متنحنحاً مرة أخرى...إن الأمر السيئ هو وجود بقع كثيرة،بقع خضراء كثيرة وريش أيضاً،لقد قامت بتوسيخ الممر كله،هذه هي المشكلة الرئيسية.
-بالطبع سيدي،أجابت السيدة روكار،يجب تنظيف الممر، ولكن ينبغي أولاً طرد الحمامة.
-نعم،قال جوناثان، نعم...نعم،ثم سأل نفسه:ما الذي تعنيه هذه المرأة؟ ما الذي ترمي إليه؟ربما تعني أنه يجب علي أنا القيام بطرد الحمامة؟ وود لو أنه لم يتجرأ أبداً على الحديث مع السيدة روكار.-نعم...نعم،قال ثانية وهو يتلعثم،يجب...يجب طرد الحمامة...أنا...أنا كنت سأطردها بنفسي،لكنني لم أتمكن من ذلك،إنني مشغول كما ترين،إنني أحمل معطفي وغسيلي...يجب أن آخد المعطف إلى التنظيف،ثم علي أن أغسل غسيلي وأذهب إلى عملي ...إنني في غاية العجلة سيدتي، لهذا لا يمكنني طرد الحمامة...فقط أردت إبلاغك بالأمر، وخصوصاً ما يتعلق بالبقع.إن اتساخ الممر ببراز الحمامة هو المشكلة الأساسية،ويتنافى مع تعليمات العمارة،إذ أن نظام العمارة ينص على وجوب المحافظة على المدخل والدرج والمرحاض دائما في حالة نظيفة.لم يسبق له في حياته،كما يذكر،أن أقى خطبة ملتوية بهذا الشكل كما فعل تواً! فأكاذيبه بدت له مفضوحة بشكل صارخ،والحقيقة الوحيدة التي كان على هذه الأكاذيب حجبها وهي: أنه لم ولن يستطيع إجبار الحمامة على الخروج،بل الحمامة هي التي أجبرته على الفرار، هذه الحقيقة بدت مكشوفة ايضاً وبشكل مؤلم.حتى ولو لم تكن السيدة روكار قد سمعتها في كلامه،لكنها تمكنت من قراءتها من وجهه حتماً،فقد كان يحس بالحر الشديد والدم يتجمع في رأسه وباتقاد وجنتيه من الحرج.
إلا أن السيدة روكار تصرفت كأنها لم تلاحظ أي شيء،أو ربما لم تلاحظ أي شيء فعلاً،فقد قالت فقط:-إنني أشكرك على هذه المعلومة يا سيدي، وسوف أقوم بالاهتمام بالأمر في أول فرصة سانحة.ثم طأطأت رأسها واستدارت ذاهبة من خلف جوناثان نحو المرحاض بجانب غرفتها، واختفت هناك.
راح جوناثان يتابعها بعينيه...إذا كان هناك أي أمل بأن أحداً ما سوف يقوم بإنقاذه من الحمامة فقد تلاشى هذا الأمل مع النظرة الأخيرة الموحشة التي ألقتها السيدة روكار باتجاهه وهي تختفي خلف باب مرحاضها الصغير.إنها لن تهتم بأي شيء،فكر بينه وبين نفسه،لن تهتم بأي شيء البته...ولماذا تهتم؟ فهي مدبرة العمارة ليس إلا،وبصفتها هذه فهي ملزمة بتنظيف الدرج والممرات،ومرة في الأسبوع بتنظيف المرحاض المشترك، ولكنها ليست ملزمة بطرد حمامة...بعد الظهر،على أبعد تقدير،سوف تنسى الأمر كله بعد أن تُثمل نفسها بنبيذها الرخيص،هذا إذا لم تكن نسيته الآن وفي هذه اللحظة بالذات.
كان جوناثان يقف أمام البنك في تمام الثامنة والربع،قبل خمس دقائق من وصول السيد فيلمان نائب المدير، والسيدة روك كبيرة المحاسبين، حيث يقوم ثلاثتهم عادة بفتح البنك.فتح جوناثان الغلق المعدني الخارجي،
ثم فتحت السيدة روك الباب الزجاجي المسلح الداخلي.أدخل جوناثان والسيد فيلمان مفتاحيهما في جهاز الإنذار وأوقفاه عن العمل،بعدها جاء دور السيدة روك مع السيد فيلمان ليفتحا الباب المزدوج الأقفال المضاد للحرائق الذي يؤدي إلى القبو، ثم فتحا غرفة الخزينة بينما كان جوناثان يضع حقيبته ومعطفه في الخزانة الخاصة به في غرفة الملابس التي تقع بجانب المراحيض.بعد أن أقفل الخزانة توجه إلى موقعه عند الباب الزجاجي المسلح الداخلي ليقوم بإدخال الموظفين الذين يصلون تباعاً، وذلك بالضغط على زرّين يحرران ويقفلان البابين الداخلي والخارجي بالتتابع بحيث يفتح الثاني حين يغلق الأول وبالعكس...
عند الساعة الثامنة وخمس وأربعين دقيقة كان الجميع قد وصلوا واتخذوا مواقعهم، كل منهم في مكان عمله:خلف منصات الخدمة في منطقة الصرافة وفي المكاتب ،بينما ترك جوناثان مبنى البنك ليتخذ موقعه أمام البوابة الرئيسية على العتبة الرخامية مكان عمله اليومي.
عمله هذا الذي يمارسه منذ ثلاثين عاماً لا يتطلب منه أكثر من أن ينتصب واقفاً أمام المدخل،أو يذرع الدرجة الرخامية الثالثة من درجات المدخل جيئةً وذهاباً بخطوات صغيرة من التاسعة صباحاً وحتى الواحدة بعد الظهر،ثم من الثانية وحتى الخامسة والنصف مساء.حوالي الساعة التاسعة والنصف وبين الساعة الرابعة والنصف والخامسة، كان هناك انقطاعات يحتمها مجيء ومغادرة سيارة السيد رودلز، مدير البنك ،لذا كان يتوجب عليه ترك مكانه على الدرج الرخامي والإسراع في بوابة الفناء الخلفي،الذي يبعد حوالي اثني عشر متراً،ليزيح السور الحديدي الثقيل ويفتحه،ثم يضع راحة يده على مقدمة قبعته بحركة تحية واحترام وهو يفسح الطريق للسيارة كي تعبر.
الشيء ذاته كان يحدث أحياناً في الصباح الباكر،أو في بداية المساء حين تصل الشاحنة المصفحة الزرقاء التابعة لشركة (برينك للمنقولات الثمينة)هنا أيضاً كان عليه أن يفتح البوابة الحديدية موجهاً التحية أيضاً لركاب الشاحنة ،طبعاً ليست تحية الاحترام نفسها ذات راحة اليد المبسوطة على مقدمة القبعة،ولكن تلك السريعة،بسبابته المنطلقة من طرف قبعته باتجاههم،تحية زمالة.