في طريق عودته إلى مكانه ثانية أمام البنك، تلاشى سعار غضبه،كانت هذه الومضة الإرادية الأخيرة فيه. وبينما كان يصعد الدرجات الثلاث بطريقة آلية نضب ما تبقى في قلبه من الكره، وحين وصل إلى مكانه اختفت تلك النظرات السامة المرغية والمزبدة من عينيه . وأخد ينظر إلى الشارع نظرةً فيها شيء من الانكسار. أصبح يبدو له كما لو أن عينيه ما عادتا ملكه، كما لو أنه يجلس، هو بالذات، خلف عينيه ينظر من خلالهما مثلما ينظر من خلال نافذة جامدة مدورة. نعم أصبح يشعر كأن هذا الجسد كله الذي يحيط به لم يعد جسده،بل كأنه هو ، جوناثان - أو هذا الذي بقى منه – ليس أكثر من جنّي صغير منكمش في قفص ضخم لجسد غريب. قزم عاجز مسجون في آلة آدمية شديدة الضخامة والتعقيد وليس بإمكانه السيطرة عليها أو التحكم فيها، لم يعد يقودها ويوجهها كما يريد ويشتهي ،بل راحت تسيّر نفسها بنفسها، أو أن قوى خارجية ما باتت تتحكم بها . في هذه اللحظة كانت هذه الآلة تقف أمام الدعامة – ليس مثل أبي الهول في استرخائه داخل نفسه، بل مركونة ومعلقة مثل دمية مسرح العرائس – وظلت واقفة مدة الدقائق العشر الأخيرة من الدوام حتى تمام الخامسة والنصف، حين أطل السيد فيلمان للمرة الأخيرة من البوابة الزجاجية المسلحة ليقول : سوف نغلق. هنا بدأت هذه الآلة، دمية مسرح العرائس ، جوناثان،بالحركة بطاعة ودخلت مبنى البنك. جلست أمام منصة التحكم بالأبواب الكهربائية، شغّلتها، وبدأت بالضغط تباعاً على زري البابين الداخلي والخارجي ليتمكن الموظفون من مغادرة البنك. ثم أغلقت سوية مع السيدة روك الباب المضاد للحريق المؤدي لغرفة الخزينة التي كانت السيدة روك قد فتحتها سوية مع السيد فيلمان. حررت بالاشتراك مع السيد فيلمان جهاز الإنذار، وأطفأت منصة التحكم مجدداً، وغادرت البنك مع السيدة روك و السيد فيلمان. أنزلت الغلق الحديدي حسب الإجراءات المتبعة، بعد أن أقفل السيد فيلمان الباب الداخلي و السيدة روك الباب الخارجي الزجاجي المسلح.بعد ذلك قامت بانحناءة خشبية خفيفة تحية للسيدة روك و السيد فيلمان، إذ فتحت فمها وتمنت للاثنين مساء سعيداً وعطلة نهاية أسبوع هانئة.وتلقت بالمقابل بعرفان أفضل التمنيات للعطلة من السيد فيلمان و"نلتقي يوم الاثنين" من السيدة روك.انتظرت بلباقة حتى ابتعد عنها الاثنان بضع خطوات،ثم انتظمت في سيل المشاة لتترك نفسها تندفع في الجهة المعاكسة.