هذة المرثية كتبها الراحل صالح العزاز في جدتة قبل مرضة وهي مرثية تحمل تأملات فلسفية جديرة بالتوقف عندها .
@@@
لحظات من النشيج
كالطير فوق رؤوس ال ..
بين لحظة واخرى تختلط بالدعاء..
جسد منقول على الاكتاف المحتدمة
في الطريق الى محطتة الاخيرة..
اجواء الحزن الصارخ في العيون..
لكن المشهد اقرب الى حفلة عرس ..
مختلف الاعمار
وتنوع في الهيئات والسحنات ..
يودعون امرأة في لحدها
ينصرفون ولا ينصرفون
دخلت عليها
في غرفة انتظار الموتى ..
دنوت منها
وضعت وجهي فوق جبينها ..
توحدت معها بكل حواسي ..
ليتني كنت معها
بيننا كفن ابيض والف خطوة
بكيت بصمت
اسمع صوتها يأتي من ذاكرة الايام السحيقة
اسمع صوتها بكريات دمي
بللت عباءتها السوداء
بدموع نازفة كأنها الشظايا
محملة بتعب كل القارات البعيدة
والمحيطات المضطربة ..
يتسلل طعم (حلوى الملبس الابيض )
الىحلقي وحبات الحمص المجففة
تستيقظ كل تلك اللحظات المنهارة
امام تحولات الزمن العجيب
ويهتف الدمع على جبينها
مثل مطر صحراوي خارج الموسم ..
قفزت في ذاكرتي صورة اصابعها النحيلة
وخواتمها المضيئة
وكفيها اللتين لا تمتدان
الا كباقات الورد محملة
بالبياض والسكر والزعفران ..
جدتي لأبي ..
كانت اجمل مفاجأت الكون
لطوابير من احفادها
وهم يعودون من المدرسة
يتوقفون عند مسجدها الصغير
يتحسسون اصابعها وكلماتها الدافئة
يتزودون بالمنى والسلوى
اهرب اليها من هجير تلك الايام اليابسة
عند غيرها والممطرة معها ..
امرأة تخرج من حدود سجادتها
لتعود اليها فقط
كانت جدايها مفتولة
من التسامح وخواتمها من نور ..
رحلت حاملة معها سبع سنوات
وقرناً من الزمان ..
سنوات مكتنزة بحضورها
الانساني الخلاق ..
كتبت اليها اول رسالة حب الى امرأة
وهذة اخر رسالة حزن الى امرأة ..
لم يهدها باقة ورد لم يتذكرها
مخلوق في عيد ميلادها
لم تصلها بطاقة حب بالبريد من احد
لكنها كانت قافلة حب
وشجرة ميلاد وارفة الظل
شجرة للحلوى وحقولاً من الكلام الجميل
يتدفق منها مايشبة ماء الينابيع العذبة
جدتي موضي الشايع اول امرأة وآخر امرأة اعترف
انني احببتها
حبيبتي الاولى والاخيرة والوحيدة
جئت من لندن لكي اراها وهي لاتزال نائمة
فوق السرير جئت لكي اسمع اغنيتي
الاخيرة بدت شاحبة وصوتها بلا ذاكرة
خرجت دون ان اسمع عبارتها المشهورة
يالله تطوي سفرهم
وتبعد خطرهم
عرفت ان اللقاء ماقبل الاخير ..
قررت ان لا اعود الى لندن قبل ان اودعها ..
سقط السياج
ماتت جدتي .. يتلبسني خوف من حياة فارغة
بدونها ..
تركتنا ندخل القرن الجديد بدون قنديل عصمتها ..
ندخل القرن الجديد بدون ام سليمان ..
يالة من قرن بائس وموحش ..
سيكون اكثرنا حظاً (اولادها واحفادها )
من يلحق بها اولاً ..
كانت بوصلة للخير وصندوقاً
ابيض لكل حركاتي وسكناتي ..
خرجنا من المقبرة مزهوين بذلك الغبار
الذي لحق بأهدابنا وجباهنا ونحن نواري
جسدها النحيل عن الانظار لا عن القلوب ..
ماتت شجرة النبل وفاكهة الشرف الرفيع
وسلطان البساطة والبراءة ..
كيف تعيش امرأة قرناً من الزمان دون
ان تخرج منها كلمة نابية ..
كانت خارج الزمن بطريقة مختلفة
كان الزمن يدور حولها
مثلما تفعل الارض مع الشمس ..
الموت حق ..
لكنة اصعب احياناً ..
هذة المرة بالذات ..
سبقتني وارجو من الله
ان يفتح على يدها ابواباً كثيرة
بدون محبتها ستكون مستحيلة وموصدة ..
في تلك اللحظة فقط عرفت معنى
ذلك الحزن الذي يجتاح كبرياء الرجال ونجاحاتهم ..
عرفت كيف يتلبس ذلك الحزن السرمدي رجلاً مثل
(ابراهيم الطوق )
لانة فقد والدتة ..
على الرغم من كل نجاحاتة المميزة وحضورة الانساني
الرفيع ..
ثمة امهات مثل بوصلة
لقائد سفينة في محيط !!
كانت النخلة الاخيرة في واحة يحاصرها الجفاف !!
والقلعة الاخيرة في حصن تطمسة الرمال الزاحفة ..
ماتت جدتي .. نقص الكون نخلة باسقة ..
اصلها ثابت وفرعها في السماء
@@@
تقبلوا اجمل وارق تحياتي