اشتكى ولد لوالده شدة شقائه فدار بينهما هذا الحديث :
قال الولد : واشقاءاه ، لقد أخذت على جميع السبل ! وسدت جميع المسالك ، ويخيل إلى أنني سأقضي بقية أيام حياتي في ظلمة داجية ، لا ينفذ إليها شعاع من أشعة الرحمة ، ولا يلمع فيها بارق من بوارق الإحسان ،.
قال له الأب : إنك واهم يابني ، فما أنت بشقي كما تظن ، وما الشقاء إلا تلك العظمة التي تتطلبها وتسعى إليها ، إنك تعيش من حريتك واستقلالك ، وهدوئك وسكونك ، وطهارة ضميرك ، وصفاء سريرتك ، في سعادة لا يتمتع بها متمتع على ظهر الأرض ، فما حاجتك إلى تلك العظمة التي لا سبيل لك إلى بلوغها إلا إذا مشيت إليها على جسر من الكذب والرياء ، والملق والدهان ، والمواربة والمداجاة ، والظلم والإثم ، ونصبت نفسك ، ليلك ونهارك ، لمحاربة الدسائس بالدسائس ، والدنايا بالدنايا ، والأكاذيب بالأكاذيب ، وملأت فراغ قلبك حقداً وموجدة على الذين يسيئون إليك ، أو يجترئون عليك ، وكنت في آن واحد أذل الناس لمن هم فوقك ، وأقساهم على من دونك ، ثم لا تحصل بعد ذلك كله على طائل سوى أن تطعم لقمة يطعمها جميع الناس ، وتستر سوءة لا يوجد في الناس من لا يسترها ؟
يابني إن الفقير يعيش من دنياه في ارض شائكة قد إلفها واعتادها ؛ فهو لا يتألم لوخزاتها ولذعاتها ، ولكنه أذا وجد يوماً من الأيام بين هذه الأشواك وردة ناظرة طار بها فرحاً وسروراً ، وإن الغني يعيش منها في روضة مملوءة بالورود والأزهار قد سئمها وبرم بها ، فهو لا يشعر بجمالها ، ولا يتلذذ بطيب رائحتها ، ولكنه أذا عثر في طريقه بشوكة تألم ألماً شديداً لا يشعر بمثله سواه ،
وخير للمرء أن يعيش فقيراً مؤملاً كل شيء، من أن يعيش غنياً خائفاً من كل شيء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من روائع المنفلوطي / رواية الفضيلة /
( اعلم إن كل منا ميسر لما خلق له وعلينا العمل بالأسباب ولكن لو خيرت بين وردة الفقير وشوكة الغني فماذا ستختار ) ؟