عدتُ لحجرتي القديمة ,
بهذه الزاوية جلستُ قبل 20 سنة , وصلتُ مع عائلتي من الرياض ساعتها ,
كنتُ أخشى كلّ شيء , أحب صمتي وعزلتي ,
طفولتي لاتعترفُ بالشغب , أنا الطفلُ الذي ولدَ بالشيب ,
السنوات التي تتلوى أمامي الآن , أراها كفلم سنمائي
أنا شيطان , هكذا قلتُ حينما قرأت قصيدتي الأولى
كانت القرية مظلمة ليلتها " انقطعت الكهرباء "
والعاصفة تكاد تخلعُ الأبواب ,
لتلك الدرجة كان الريفُ مسالماً , لم يكن تقوى بيوتنا عاصفة ,
رائحة " القاز "تعرفُ طريقها جيداً إلى أجسادنا
والتي تبعثُ لنا الحياة , من تلك " الفوانيس " التي يلعبُ بها الريح ,
فبدأ في شكل طفولي بالإقتراب من الضوء , ونعملُ أشكالاً ودمى بظلّ أناملنا التي ترتعشُ خوفاً من المجهول , والعاصفة ,
كانت القريةُ لاتنام , والرعدُ يقطعُ كل شك بانتهاء العاصفة , بعدما نرى البرق وهو يحاول الدخول من تحت الأبواب الخشبيّة القديمة جداً , كنا نبحثُ عن شيء ما يلهينا هول تلك الليالي , فتبدأ جدتي في سرد قصصها التي سمعناها كثيراً
ونشتاقُ لها دوما , وننصت بخشوع ولايقطعُ صمتنا سوى زمجرةُ الرعد في السماء ,
كنّا ننامُ كالجنود في المعركة , عينُ ننتظرُ بها الأحلام , وأخرى تغفو وهي تتملى " الفانوس "
كنا ننام على إيقاعات المطر في الخارج , وأصوات الأهالي , بحثاً عن مفقود , أو بقرة ظلّت طريقها للبيت
أو صرخة أحدهم " والله امعمود بِـرِقْ "
نفيقُ بفرحة , لأننا على موعدٍ مع الحياة , مع البيوت الطينية التي نشكلها وفق أحلامنا
مع " الكبيبات " التي نشكلها وفق أحلام الأكواب ,
كنا ننطلقُ في جماعات بحثاً عن " جدّة امطر " نحملُ معنا خيوطا حمراء , وكأننا بابا نويل يهديها في ليلة الميلاد .
كنا نتسابقُ بوهننا وتعبنا , وننظرُ للجبال التي ترسمُ بكلّ وضوح في البعييييد , ويظهر فوق السماء قوس قزح " كوز عنتر " كما اعتدنا أن نناديه ,
كنا كقدامى مصر , يشكلون من النيل كلّ شيء ,
فنبدأُ في السباحة في الماء , نقنعُ أنفسنا أن شيء ما من السماء , صنع لنا بحيرات في المساء
كانت أحلامنا متواضعة , وأمانينا لاتتجاوز قطرات من السماء , أو دفء في ليلة ممظرة أو قصّة من جداتنا !
من هذه الزاوية المظلمة التي أجلسُ بها الآن , عانقتُ كلّ شيء
هنا ضحكتُ وبكيت , وهنا ابتهلتُ وصليت , وهنا انتشيتُ وغنيت
وهنا تألمت , وسمعت القرآن والأناشيد والأدعية والمحاضرات وأم كلثوم وحليم ونجاة وطلال وأبونورة وعبادي وكاظم ,
من هنا عاصرتُ كلّ شيء , وكان بجواري نزار ,
ومن هنا عدتُ لأكتب ,
المساءات اختلفت ,
الصمتُ بات يحفّ القرى , التي لم تكن تعرفُ أزقتها سوى الضجيج " والساري والدسيس ومديد الله " ,
أمشّط أزّقة هذه القرية , أرى الموت يمرّ بجواري ,
تفيق الحكايا التي روتها جدتي , فأرى الأشخاص , والأحداث , وأتفاعل معهم , وأكاد ألمسهم .
هنا بذاكرتي التي لم تزلْ كلّ شيء , أمدّ جسراً للأحلام ,
أبحثُ عن النوم , وأفيق وبجواري أنا طفل السنوات السبع
أرتجف خوفاً من العاصفة ,
أضمّ أنا لصدري , وأشعر بعشرين سنة تنحرني ,
وأنام . ربما أفيق على مطر , فأحملُ أنا لنرى معا الجبال
وكيف أن قوس قزح يطوّق السماء بكلّ أمل ........ !