في قرية من اقاصي الجنوب تتكأ على خاصرة الشمس وتعانق القمر وتدعى القمري كانت خطواتي الاولى ... عمتي (فاطمه) تقول اني ولدت في القاسميه ..القاسمية التي كانت ذات يوم بقعة من غيل ورمل ومرعى قبل أن يخونها الماء والعقوق وتموت.
لكننا ما لبثنا ان تحولنا الى القمري والروايات تختلق وتختلف لكن احلامي التي تسري بي كل ليل الى القاسمية حيث وجه جدي وما أتذكر من تحنان أمي تؤكد لي ان القاسمية هي مسقط الرأس ومدفن السرة وأول أرضي مسي جلدي ترابها.
أنا بعد التعديل
كانت القمري ..في الثمانينات من القرن الماضي ككل القرى..غارقة في البؤس والفاقه واللامكان ..لكنها عامرة بالطيبة والخضرة والغنى الذي لا يستنفذ ..كانت المزارع تحدق بها من كل جانب والوديان تجري بالمياه معظم ايام السنه والسماء قل ما تخلف وعدها ..والكل يعمل رجالا ونساء والحياة تسير على قدمين ولا مساحة للقبح أو سؤ النوايا.
كان الناس في ذلك الزمن المنسي يتوارثون الفاقة والجهل والرضى الاعمى..وكان كل شىء ثابت لا يتغير او كانه عصي على التغير
وكان هاجس الكل هو الموت والميلاد ولا شىء اكثر..ولم لا ..؟ فالقمري تحاط بالمقابر من جهات اربع..وان كان قد ازيل بعضها وسورت أخرى مع الموتى لا يرحلون.
ومالذي أتذكر من تلك الطفولة غير أمراض الحصبة والملاريا والسعال الديكي.؟
يقولون أني مت مرتين..مرة أطلقوا من فوق رأسي رصاصة وأفقت..وأخرى كويت بعود مرخ في جبهتي فأفقت أيضاً..وكلا الميتتين لم تكن سوى أغماءة الحمى وعمر الشقي بقي وها أنذا هنا.
كنت على ما أتذكر أعاني من الربو..وكنت أفيق وقد تلاشت أنفاسي..وأتذكر ضمن ما اتذكر دموعي أمي وهي تدور بي في باحة الدار ومالذي تستطيع فعله..؟ وعمر الشقي بقي.
وكبرت كما يكبر أخضر النبات ..ومن يصدق أني كنت ذاك الطفل الذي جاء دون فرحة
والطفل الثالث يأتي دائما كضيف ثقيل.
لكني أتذكر أني كنت كثير الأسئله..لا أعرف كم كان عمري عندما سألت أمي من هو الرسول؟
ـــ شخص يتكلم مع الله
ـــ ومن هو الله..؟
ـــ هذا الكبير.. وأشارت بيدها للسماء الزرقاء.
ولم يكن بالقمري مدرسه ..كانت اصغر من ان تستاثر بمدرسه..كانت المدرسة في ضمد والتي تبعد عنا اربع كم تقريباً وكانت الدراسة ترفاً ..فمن هو الأب الذي لا يحتاج ابنه في الرعي والزراعة ليرسله ليقضي جل يومه يتلقى..درس ..زرع ..حصد.. وزن ؟وكانت هذه اول الكلمات التي كنا نتعلمها في كتاب الهجاء المدرسي.
وبدأ أبي يحفظنا أنا وأخي القرآن..وربما لم أتجاوز الرابعه.
ثم ألتحق اخي الاكبر حسين بالمدرسه في ضمد بدافع الرغبه..اما انا فدخلتها بدافع الغيرة لا اكثر..فلقد بهرتني صور كتاب الهجاء والعلوم رغم فقرها..وحتى يكون لي مثلها رافقت اخي في اليوم التالي رديفين على حمارة بيضاء
روضها الزمن وماتت كأول الفقدان على درب الحرف الطويل.
شويط مع اخي حسين
أعادوني للبيت بعد يومين بحجة أني اصغر من أن أكون طالبا ..وفرحت..فالأسر لم يرق لي أبداً
لكني ابي أعادني في اليوم الثاني ..قائلا لمدير المدرسه:
ــ خله يناوس أخوه والا بطلت عليهم كلهم..:
وهكذا بدأت رحلة المعرفة والتي لم تنتهي ولن تنتهي ..لكنني كل يوم ازداد جهلاً بمفردات الحياة
لن اغرق هنا كثيراً في تفاصيل طفولتي ..وسأظل اعود اليها كلما ارهقتني تعقيدات الحياه واحسست اني بحاجة للهروب الى سنوات لم تعرف الزيف سنوات اعود اليها كلما اجتاحتني موجة الذكريات وكل ما عز العزاء في سنوات التعب.
.. استمريت في الدراسة صباحاً والعمل في الرعي والمزرعة مساء ..وفي الليل نتحلق حول فانوس
يمنحنا الضؤ والدفء في الشتاء .
..وبقيت ايضا اكبر ككل الأشياء من حولي دزن أحلام او وعودا بأي شىء.
وحصلت على الشهادة الأبتدائيه ..ربما كثاني او ثالث من نالها من القرية..وأذيع اسمي في المذياع.
كان أخي الأكبر حسين قد بدأ (يتدرم)..كان يستعجل ختانه..لكن أبي خاتله ذات صبيحة وأخذه الى مستشفى جازان العام (وكنت معه) وتم ختاننا نائمين على ظهورنا ودون طقوس ..وكانت فضيحة ..لكن الآخرين حذو حذونا بعد تردد وجزى الله والدي فقد سن سنة حسنه وتحمل بشجاعة ضريبة التغير .
اذا حققت انجازين كبيرين ..اخذت الشهادة الأبتدائية ..وختنت ...وأيضا تغير أسمي .وتلك حكاية سأقولها في غير هذا المكان.
وفي الثالثة عشر من عمري رحلت أمي...ماتت في ليلة شتائية ما زلت أذكرها..أنتظرها الموت كجبان بعد صلاة العشاء وأختطفها دون أن تلوح لنا تلويحة الوداع.
وكم كنت غبيا عندما تصنعت الشجاعة حتى لا ابكي ..كنت أظن أن البكاء خذلان حتى على الأم
ولهذا توجب علي أن أدفع فواتير حزن مؤبد.. حزن لن يموت.
وبقيت العمر كل العمر مجردا من حنان الأم ..ودعاء الأم .. وفردوس الأم وبقيت ابحث عن سلوى في وجوه تتشابه كثيرا لكنها ليست كأمي.