و تغير العالم بالنسبة لي ..أنقسم الى عالمين عالم قبل وفاة أمي وعالم بعد وفاة أمي والذين فقدوا أماتهم صغارا يعرفون ذلك التشظي.
و تزوج أبي بعد عامين وشعرنا نحن ألأخوة والأخوات أن ابي خان عشرته الطويله وأنه تغير وأن أخرى أقل قيمة أستولت عليه أو هكذا فسرنا الأشياء وقتها ..وبدأ يذوي فردوس جميل كنت فيه فردوس العائلة الكبيره ..وتسارعت تغيرات الجسد وكيماء الروح أيضا ..ولم يعد التراب الذي أقف عليه هو التراب الذي أعرف, لم يعد ساكناً كما كان ...وبدأت سنوات التمرد والعذابات ومحاولة تشكيل العالم وفق ما اتمنى وأحلم ..لكن المراكب ثكلى والروح عجلى والطريق طويل طويل .
وبدأت تهب على حياتي رياح التغير…وأبتدأ من القرى كل القرى موسم هجرة للشمال ..كثيرون هاجروا للشمال بحثا عن شظف عيش أقل ..عن أفق جديد في الحياة وكان عمي حسن منهم بعد أن ترك البئر والسانية والأرض الشحيحه.
وغادر اخي الاكبرن الى الرياض للدراسة والعمل والسكنى مع عمي ..وألتحقت به ايضا طالبا في ثانوية أبناء
العسكريين بعد كذبة صغيره وسكنا مع عمي في بيت من الطين أحيانا وفي بيت من الصفيح أحيانا آخرى وكان الفقر وسط الغنى مؤلما ولم نكن مجبرين على الرحيل لكن أخي كان يحتج على تبدل أبي نحونا ..وكنت أقلده لا أكثر ..وكان الثمن قاسيا قساوة الفقر المريرة التي رزحنا فيها.
كنت أصل للفصل الدراسي ماشيا بثوب وحذاء وحيد ..وكان يصل زملائي الأخرين من أبناء الضباط بل وبعض أبناء الأمراء في سيارات فارهة ووفرة مطلقه..او هكذا كنت أحكم على الأشياء .
لكني كنت متفوقا في دراستي ومشاركا في مسابقات الشعر والكتابة والخطابة ومحبوبا من مدير المدرسة ولم يتملكني أبدا شعور النقص رغم ضآلة جسمي وغرابة لهجتي ..ووجودي وحيدا وسط وجوه جديده ..وكنت أفاخر وأنافح أني من جيزان.
ونجحت بتفوق لكن عمي بدل مسكنه وتحولنا معه وأنتقلت لثانوية اليمامة قريبا من قصر الحكم القديم وسط الرياض القديمه الرياض التي كانت تتبدل.
وكانت ثانوية اليمامة باذخة ونموذجية في كل شيء..وقرأت في مكتبتها كتبا كثيرة وأتذكر أمين مكتبتها النبيل الأستاذ محمد القرعاوي أبن العالم السلفي الشيخ عبدالله القرعاوي.
لكني رسبت في مادة الجبر وكانت الأرقام والمعادلات وما زالت معظلتي الكبرى
وعدت للقمري بعد أن هزمتني مرارة الفقد لأخوتي وهزمني الحنين الى نقاء القرى وأكلمت ما تبقى في ثانوية جازان الوحيده .
هل لي أن اقول لكم أن ثانوية الأبناء التي درست بها الأول الثانوي بكذبة صغيرة أزيلت وأقيم مكانها عمائر أنيقة للظباط القوات المسلحه أمتلكت أحداها أثناء عملي في الرياض..؟
وهل لي أن اقول أن تلك الشوراع التي كنت أقطعها ماشيا أرتجف من البرد عدت أذرعها راكبا سيارة فخمه .. وله وحده الحمد والمنه؟
وهل لي أن اقول أن النخل الذي يزين شارع المطار القديم وأنواره التي كنت أذاكر دروسي تحت أضوائها هي هي لم تتبدل والسماء التي فوقه هي ايضا لم تتبدل ..ما تبدل هو أنا و الزمن وغياب أخي حسين عن ذلك الفضاء بعد أن عاد للقمري وأقام.
وهل أني أقول أن الحي الذي كان يشرق بالمبرقعات بما فيهن رحمة أبنة جارنا التي لم أر وجهها الا من خلال البرقع وهمسها تبدل ايضا ..وغدى كأحد احياء كراتشي ودكا وكولمبو.
وهل لي أن اقول أن الحياة لم تكن ابدا بخيلة معي حتى وأن قست قسوة سماء الرياض.
كل هذا التبدل والتغير حدث في ثلاثين عاما وأقل..وهل الثلاثين قليل من العمر؟ وكم هي سنوات العمر..؟
وفي جازان هبت علي رياح الشباب وعذابات الحب الأول ..جازان التي تبدلت هي أيضا وفقدت أجمل ما فيها .. قلاعها القديمة وشاطئها الجميل وجبلها الأحمر ومنجم ملحها الشهير.
ومن جازان حملت شهادة الثانوية العامة وأنطلقت مجددا الى الرياض متسلحا بأحلام أخرى وأمال أخرى...وكان المقصد جامعة الرياض ..غير ان الجامعة لم تكن أكثر من معبر لفضاء كبير.