( ــ أكتبي مذاكراتك يا أزابيل
ــ أسرتي لا تحب أن ترى نفسها معروضة أمام الملأ
ــ لا تهتمي بشىء, اذا كان لا بد من الأختيار بين كتابة قصة أو أغضاب ,الأقارب فأن أي كاتب محترف سيختار الخيار الأول )هذا ما تقوله ايزابيل اللندي في كتاب مذكراتها حصيلة الأيام ..ولكن تلك أزابيل وحياتها غنية بزوجين وعشاق وثلاث منافي..فما الذي في حياتي؟ وما الذي يعرض هنا أويثير..؟
غير أنه عندما لا تكون في حياتنا مكتسبات كثيره..نفضل الحديث عن ذواتنا..عن أنفسنا..نخترع حكايات ومنجزات لن توجد ونصنع من كهوف الريح مساكن للروح ونتحدث.
قلت لكم أني عدت للرياض من أجل الدراسة الجامعية هذه المره..وصلتها قاصدا كلية الهندسه..فقيل لي أن الجامعة قد أمتلأت وأني قد تاخرت ..ولم يعد من الكليات العلمية غير الزراعة والعلوم وأخترت العلوم قسم علوم الأرض ( الجيولوجيا)..وكان قد بقي على بدأ الدراسة شهر ونيف.
وأقمت في عزبة جل من فيها من القمري..جبريل حزام وسعيد عامري في البلديه..(جبريل قد مات)..أولاد عمي عبدالله سويد يعمل في المطار ومحمد سويد في شركة الزاهد. حسن أبو شهادة وأخيه أحمد في مطابع اليمامة’ علي رقيعي وعبدالله المنقري في شركة العيسى للسيارات ,اخيه محمد المنقري يعمل في مستشفى طلال الذي تحول للمستشفى الجامعي(محمد المنقري قد مات أيضا بالفشل الكلوي ) ..وأحمد شافعي يعمل في عمارة البرج ولا أعرف ماذا كان
يعمل لكنه عمه اللبناني كان يرسله أحيانا للبيت يوصل المقاضي للمدام وكان يبدو صغيراً رغم أنه قد تجاوز الثامنة عشره وكان يأتي مبهورا ببياض وجمال المدام التي كانت تعطف عليه طفل
ــــ وووووووووه يا عمرو أيدها رطيييييييييييييييييييييييه وهي بيضاء...عبله
( أحمد شافعي مات ايضا على خط الأحد وهو يهرب مجهولين وقات )..وعيسى البعيطي يعمل حارسا في المعهد المهني.
هكذا كانت الرياض في أواخر التسيعنيات من القرن الماضي .. مقصدا لغرباء لا مؤهلات لهم عدا شبابهم المتوثب وأحلامهم الخضر والبؤس الذي شردهم ..تركوا أغنامهم وأرضهم في موسم هجرة كبيرة نحو الشمال..قليل منهم بعائلاهم ..وعند هؤلا كان البعض منا يودع مدخراته القليله..لا احد يثق بالبنوك أو ربما كنا نتهيبها ..أو ويودع هويته ( التابعية الورقة الرسمية الوحيدة التي يمتلك).
لم نكن نخاف اللصوص ..لا لصوص أبدا..لكننا كنا نخاف النار..
كنا نسكن حوشا كبيرا من الورق المقوى في الملز قريبا من شركة الجفالي..حيث نحصل على الماء من خزانات العمائر التي تبنى بعد أن نغافل الحراس ..ولم نكن تعساء أبدا..للشباب ربيعه وبهجته..والمستقبل صرة مربوطة لم تفتح ..والوعي بالعذابات قليل.
وفي اليوم التالي أخذني عبدالله المنقري الى شركة العيسى لأعمل في الشركة حتى تفتتح الجامعه
لكنه أوصاني قبل أن نذهب :
ــ لا تقلهم عندي جامعه بعد شهر ..ما حيشغلوك
ــ حاضر..
وبدأت في شركة العيسى للسيارات بكذبة صغيره..ولا اعرف لم تبدأ كل مراحل حياتي بكذبات حتى وأت كانت صغيره ..؟
وأبتدأت أعمل في مستودع قطع الغيار..مع موظفين جلهم (شوام) لا اعرف أن كانوا فلسطينين أو سوريين أو حتى أردنيين.ولم يكن خزان القارة الهندية قد فتح ..ولم يهدم سد ذو القرنين وينثال الهنود والبنقال والباكستانين ..فقط كان نحن فقط عيال البلد وأخوتنا اليمنين.
ولم يكن العمل كبيرا..وكنت اقضي جل وقتي في القرآه..
سألني أحد الخبثاء منهم وكنت ( أتلقف) وأقرأ لهم ارقام وأسماء القطع باللغة الأنجليزيه
ــ وين تعلمت..؟
ــ قلت له لم أكمل المتوسطه وجئت أبحث عن عمل
وكان حجمي ووزني يوحي بأني لم أتجاوز الكفآه.
وبعد شهر وبعد أن نقدوني ثمان مئة وعشرون ريال ..ووضعتها في جيبي الداخلي ..أخبرتهم الحقيقة وكلي خجل وغادرت شركة العيسى الواقعة على شارع الملز دون ذكريات .
بدأت الدراسة الجامعيه وكان نظام الساعات قد بدأ ..والسكن الجامعي على طريق المعذر وكان نائيا وبعيدا عن الجامعة في موقعها القديم..قريبا من حديقة حيوان الملز التي كنا ندخلها رجال ونساء قبل أن يكتشف فتيان الصحوه أن دخول الرجال والنساء الى حديقة الحيوان لا يجوز.
وكان معي في السكن شاب لطيف جدا من الشرقيه..أتذكر أن اسمه علي العلي..وشاب آخر من نجران أسمه الأول سعيد وكان يدرس علم الأجتماع ويعمل في شركة أجنبية ... وكان يحضر لنا منها
مجلات (أيروتيكيه)..وكانت صادمة وملهبة للقروي أبن العشرين القادم من زمان القرى .
كانت الدراسة مرهقة .. أحيانا تكون محاضرة في الساعة التاسعة والأخرى السادسة مساء..وعدت لدراسات التفاضل والتكامل الذي لا احبه .. ولم تكن مدرجات الجامعة كما كنت أحلم ..وكان معظم المحاضرين شبابا حديثي العودة من أمريكا وأوربا..كانوا يتحدثون عنها بفتنه كفردوس ناء ..وكنت أغمض عيني وأحلم بتلك الفيافي البعيده ..ولكن كيف.؟
وأرهقتني المواصلات ..ونظام المحاضرات الموزع بين الصبح والمساء وتركت السكن بعد ثلاثة أشهر رغم بهجة مجلات سعيد السريه وروعة الرفاق
..وعدت اسكن مع شلة الأنس في عزبة الأنس والتي لا تلتئم الا في الليل وقد أحتظن كلا منهم جهاز التسجيل وأطلق أغنيته المفضله والكل يستمع للكل ..وكان تلفزيون الأسود والابيض ترفا لم يكن بأستطاعتنا أمتلاكه.
وبعد شهر أيضا وفي ساعة تجلي نادرة قررت أن أترك مقاعد الجامعة وأبحث عن وظيفه فمسار الجامعة طويل ويحتاج الى معونة أفتقدها ..وتركتها وغادرت الى مكة المكرمة بحثاً عن وظيفة وحيث يسكن أخوالي..و الذين لم يرحبوا كثيرا بفكرة الوظيفه وترك الجامعه ..لكني مكثت هناك أسابيع حيث تشكل حبا عابرا من طرف واحد طرفي أنا .. وقلبي أشبه بغصن شجرة يحركه الهواء في كل حين.
غير أني سرعان ما أنسى وهذا من لطف الله الكريم.
وبلغني أن أبي مستاء جدا لتركي الجامعه ..وكذلك أخوتي..
وقررت العودة للريا ض .. وعدت مباشرة من المطار الى كلية الملك فيصل الجويه..كنت أريد أن أكون طيارا لا أقل كنت أريد أن اصنع تميزاً يجلو عني الخيبات ..غير أني لم أتجاوز الكشف الطبي المبدئي عدا في السمع وعمى الألوان..ولم اتجاوز أختبارات النظر والطول والوزن..وكل ذلك كان كشفا مبدئي .
ووقعت على عدد من مجلة اليمامه وعلى غلافه الأخير اعلان يقول: التحق بالقوات البحريه ..تحقق لك أبتعاثا خارجيا ومكافأة مجزيه..وتقدمت وقبلت في الحال..ولم يكن الوزن والطول والنظر مهما..وكان أبن عمتي سعيد قد ترك البلدية وألتحق بالشرطة العسكرية في فصيل حراسة المستشفى العسكري..وتأكد لنا خلوه من الأمراض المعديه..وهكذا فقد تبرع جزاه الله خيرا وأمدني بمستلزمات تحليل البول والبراز (أكرمكم الله) وأجتزت الكشف الطبي ..ووقعت أوراق الكفالة والتعهد من آخر.. وتقدت عمدة حي (العنوز ) مئة ريال ليختم لي بدلا عن شيخ القبيلة في قرية الواسط وهكذا قبلت ..وهكذا ايضا بدأت حياتي العسكرية بكذبه..ولكن كذبة كبيرة هذه المره.
ومن الرياض الى الدمام حيث مقر القوات البحرية الناشئة قريبا من ميناء الملك عبد العزيز أو ما كان يعرف (بالقشله)..والقشلة مفردة تركية أظن معناها الثكنة العسكريه.
ولم أكن أعرف أحدا في المنطقة الشرقة عدا شخص كان يبرح الماء معنا على البئر وكان قد تزوج بنت جيراننا..وقصدته في القطيف..وسكنت عنده داخل شرطة القطيف الواقعة قريبا من ضفاف البحر ..حتى أستخرجت تذكرة وجواز سفر..فشكرا لك يا جابر شبلي ما حييت أن قرأت يوما هذه السطور.
ومن القطيف الى مطار الظهران ..الى مطار ابو ظبي الى كراتشي الى الرفاق الذين كانوا قد سبقوني بخمسة أشهر..خمسة اشهر كانوا في ميدان الكليه وجحيمها وكنت أعاني حبا بائسا لم يسمع به أحد.