عدت من الباكستان وتم تعييني في مدينة الجبيل ..المدينة الحالمة على شواطىء الخليج العربي.
تلك المدينة التي عبرتها حضارات وثقافات وغزاة وحالمون وبقيت كما هي يسكنها عشائر من الخوالد والبوعينين وسواهم و رغم أن حقل ا(البري) النفطي لم يكن بعيدا عنها الا أنها بقيت كما هي وأحة صغيرة من النخيل ومراكب الصيادين والقادمين من عمق الدهناء ..لكن تلك العزلة وذلك الهدؤ كان يحتضر..وكانت الجبيل تتغير ..لتغدو بعد سنوات قليلة فقط أكير مدينة (بتروكيماوية) على خريطة هذا العالم.
كان يعبرها من الشرق للغرب شارع واحد هو شارع (جده على ما اظن ) تقوم عليها المتاجر والمطاعم ويغص بوجوه القادمين من أقاصي الأرض والباحثين عن الثراء والى الشمال منها كانت تنهض الجبيل الصناعية أو الهيئة الملكية وجنوبا منها تشكلت قاعدة الملك عبدالعزيز البحرية الحديثة حيث تم تعيني ظابطا متدربا على ظهر أحد السفن الصغيرة والتي كانت قد وصلت من أمريكا. كانت الجبيل بأختصار أرض الأحلام.
قاعدة الملك عبد العزيز البحرية هي أيضا حكاية ..حكاية التحولات الكبرى وإختصار الزمن غير أن الأنسان يظل هو الأنسان..يحتاج العمر كل العمر ليتشكل..والمال يساعد أحيانا لكنه لا يقفز على منطق الأشياء بل وربما أخل بميزان التطور الطبيعي .
ولقد كنت شاهدا على حكاية زمن يمضي وآخر يتشكل تاريخ يمحى وآخر يكتب كان العصر هو عصر الطفرة والزمن هو زمن التحولات.
بدأت حياتي بشراء سيارة صغيره.. وسكنت داخل القاعده حيث المساكن الحديثة المجهزة للعزاب والمتزوجين على السواء ..كان كل شىء جديدا وأنيقا كما في القواعد الأمريكية ..وكان هناك وفرة في كل شىء حد البذخ .. يقوم على خدمتنا جيش من العاملين من الفلبينين والباكستانيين وكنا نتشرب ثقافة جديدة وحياة جديده.. حياة حملها القادمون حديثا من أمريكا معهم ..وكنا نقضي أمسياتنا في لعب البلياردو والبولينج والفزبول ونحتسي الكابتشنو والميلك شيك والأكسبرسوا وكانت المفارقات مضحكة مبكية لنا نحن القادمين في معظمنا من العشاش وبيوت الطين ومن القرى البعيدة المعدمه...وكنا نتشرب تلك الحضارة بسرعه..ويعاد تشكلنا
ونخلع عن ذواتنا الثياب القديمة واللغة القديمة لكننا في داخلنا بقينا كما نحن حتى وأن لبسنا قشرة من حضارة
عدت ذات مساء من الخارج..وكنت أسمع خبطا في غرفة الغسيل الملحقة بالسكن..وعندما فتحت نشافة الملابس وجدت أحد الزملاء قد غسل جزمته (اعزكم الله) ووضعها في نشافة الملابس لتجف..هكذا كنا نستعجل الأشياء والحكايات تطول.
تعلمت ابجديات القيادة الاولى للسيارة وكم هي مفارقة أن اتعلم قيادة السفينة قبل قيادة السيارة وكدت أسحق مرتين وبدات اتعرف على المنطقة الشرقيه القريبة من القلب وما زالت ..العيون وغابات النخيل..القلاع التي أنشآت لصد الغزاة وآبار النفط التي تسعل لهبا في الفضاء والصحاري اللانهائية وألأسواق التي كانت جميلة .
مدن صغيرة حالمة .. الأوجام ..عنك تاروت ..سنابس ..العواميه ..سيهات ..القطيف.. المبرز ..الاحساء وما هو أكثر... وفي كل مدينة كنت دائما اجد احدا من اهل قريتنا ممن غادروها بحثاً عن أفق وحلم وعمل ..ولأنه لا مؤهلات لديهم..فقد انخرطوا جميعا في السلك العسكري ...كجنود في الأغلب ..الشرطة والامن والدفاع..وكان الجميع يحتفي بقدومي كالضابط الاول وربما الوحيد في قريتهم أو قريبا منهم ..كانوا يزدهون بذلك ويفاخرون به ..ويقدموني لزملائهم ويصرون على واجب الضيافة رغم الشح والمشقه .. لكنني أبداً لم اشعر اني مختلف عنهم ..فقد عشت طفولتهم ..وزاملتهم الرعي والحصاد وشقيت معهم وحفيت وما زالت بقايا اشوك في قدمي وهناك من كان افضل مني في كل شىء ..لكني ربما كنت أكثر حظاً منهم أو ربما أكثر تمردا ..ولكن ليس السعيد على كل حال.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


كلمة راس


المؤلم أنهم أمضوا جل حياتهم هناك.. كبروا وعادوا ليتزوجوا ويحضروا عائلاتهم وبقوا حتى سرقهم العمر ..من هم من بقي وغدت هذه المدن الصغيرة هي الوطن ..وآخرون عادوا ولكنهم كلهم كانوا دون حصاد غير راتب تقاعدي لا يفي أبسط الأحتياجات.
حسن شبلي الذي ترك أغنامه قبل ثلاثين عاما ..عاد للقمري ولم يدري ماذا يفعل ببقية العمر وأشترى قطيعاً آخر وأستأنف الرعي مجددا ..كأنه غادر البارحه..كأن تلك الثلاثين عاما لم تكن أكثر من شهقة في فضاء قصي..فضاء دون سماوات.
وعندما قابلته آخر مرة خبط الأرض حتى تطاير التراب من حولنا..كان يؤدي التحية العسكرية لي كما كان يفعل منذ زمن حتى وأن التقينا في السوق.
ـــ حسن خلاص ما نسيت العسكريه..؟
وتعانقنا وضحكنا ..وحاولنا أن نستعيد حكايات الأمس ..عندما كنا صغارا نتشاطر كل شىء
ورغم أن الفضاء هو الفضاء والأرض هي الأرض وربما الهواء أيضا الا أن شيئا لم يعد هناك...شىء مضى ولن يسترجع ..لا لا ليس العمر ولا الشباب لقد أنطفأ داخلنا ......الحلم .
و ماذا بعد ذلك..؟الزواج ..نعم الزواج..وهذا ما ذكرني به الأهل وكنت نسيته أو تناسيته في غمرة الرحيل وتقدمت لقريبة لي ..بسيطة وقنوعة وتحبني..وكنت احمل لها ظلال حب غذته سنوات الغربة وخيال الشباب وروايات المنفلوطي .
لكن الحب غير الزواج..والحلم غير الواقع..وتم الزواج والطلاق في شهر لا اكثر..وكانت لطمة غير رحيمة من الحياة ربما كنت بحاجة لها لاكتشف ان للعالم وجه آخر و أن هناك آسئلة لا أجابات لها وهناك مصائر تتبدل ومات داخلي للأبد القروي البسيط الذي لم يتعلم ابدا طرح الأسئلة القروي الذي رسب يوما في أختبارات القبول الطبية في كلية الملك فيصل الجويه ولم ينجح سوى في عمى الألوان.
رحل القروي الذي عاد واكتشف وبثمن قاس أن الألوان هي أيضاً غير التي نرى ونظن.
و لم تكن هناك اسباب كبيره..كانت هناك اسباباً لكنها كانت قابلة للحل وتحدث دائما كل يوم لكن الشباب لا يقبل أنصاف الحلول والجهل بطبيعة الاشياء والعلاقات والشعور المزيف بالكرامة والانانية حطم كل شىء.
وأفترقنا ولا ذنب لها ..كان خطأي ..غلطتي انا ..انا فقط ولا أحد سواي .
والآن ومن هذا البون الشاسع من العمر ..حيث رؤية الاشياء بحيادية ممكنهِ ِ..لا اشعر نحوها بغير الأسف..وهي لا تقرأ ولن تقرأ هذا الكلام أبداً والا كنت طلبتها غفراناً لا أستحق.