يغدو الخليج في الصيف رخيا كصدر مرضع.. نبحر فيه شمالا من مدينة الجبيل باتجاه جزيرة الجريد المهجوره عدا بقايا الصيادين وقواريرالسهارىو الهاربين من العسس ..نتجه بعد أن نبلغها غربا باتجاه جزيرة القرن ثم القرين والجنة حتى نصل جزيرة حرقص شمالا قريبا من حدود الكويت البحرية ونعود نبحر جنوبا حتى مدخل قناة البحرين تضىء لنا مشاعل آبار النفط كحقل السفانية والظلوف وأبو سعفه .
في ليالي الصيف يغدو الإبحار لحظات من الفتنة اللامشروطة..تهب نسائم الخليج وتعلو وشوشة الموج ورقص الدلافين وأضواء ناقلات النفط المبحرة من رأس تنورة والجعيمة والأحمدي.
نفتح قناة الإتصالات الدولية vhf channal )) ..نسمع تعليقات البحارة البذيئة من سفن لا نعرف مواقعها من الماء ونداءات موانىء وحكايات صيادين ومهربين وهاربين وعالم افتراضي..عالم الماء.
وفي السماء آلآف النجوم التي نعرف أسماء بعضها وبعضها لا نعرف..نجوم ومجرات وشهب
وكويكبات ومذنبات وجلها (أسماء عربية ..(العيوق..الدبران..الدب الأكبر والأصغر..الجبار) وغيرها.
وفي النهار تعبرنا قوارب صيادين وناقلات نفط وأساطيل غربية وسفن تجسس روسية متخفية على شكل بواخر مدنية..لكننا نعرفها من لاقطاتها ()Antenn ) المتعدده وتحركاتها المريبة , وتعبر فوق رؤسنا الطائرات العراقية العائدة من قصف المواقع الإيرانية في جزيرة خرج وقشم في ما أصبح يخلد بحرب الخليج الأولى.
وكل شىء في البحر مباح..ولا خوف عدا الألغام الطافية على سطح الماء والمتربصة بنا
والقادرة على تحويل سفينتنا الصغيرة إلى شظايا..ألغام حرب العراق وإيران والتي لا تميز العدو من الصديق ويغير أماكنها الريح والموج كل لحظه.
![]()
أنا ومحمد العجمي ..أين أنت يا محمد ..؟
وشكرً ا لهذه الألغام التي من أجلها دخلنا ميناء البحرين.وبقينا هناك أسبوعين نتبادل تنظيف قناتها البحرية مما قد تكون جرفته ريح الشمال من ألغام مرئية أو غير مرئية.
وفي مكتبات البحرين اكتشفت كتب الغواية الأولى.. الكتب التي أسمع عنها دون أن اقرأها....فضائحية البرتو مورافيا .. ووجودية ساتر وكامو وهديجر وروايات العبث..وأناشيد مالدورور وفلاسفة اللايقين والبحث الأزلي عن الوجود والأسئلة الكبرى التى لا إجابات مريحة لها.
كنت حينها مجردا من الأمل ووحيدا من العون وخارجا من تجربة طلاق أليمة ودفنت نفسي في هذه الكتب..أقرأ وأقرأ وأقرأ ولا شىء يغري في الجبيل عدا العمل والقراءة وبضاعة الحنين .
ولكن هل وجدت عزاءات أو إجابات أو مدد.؟ بالطبع لا لكني ( أظن) أنها أمدتني بوعي مبكر.. وأفهمتني بضربة على الرأس أن الحياة هي الحياة..نهر من العذابات ولا عزاء للحالمين.
هذه الكتب وما قبلها وما سوف أقرأ هي من صنع جزءً كبيرا من ذاكرتي وتفكيري وحكمي على الحياة.
أحببت الكتب ..سافرت البلاد من أجلها وغافلت العسس في المطارات ولي في كل منفذ قصة مع الرقيب.
والكتب كالنساء بعضها ممتع وبعضها ممل.. بعضها غامض وآخر سمج ..ومنها ما يجعل الحياة رحلة متعة ومنها ما يجعلك تتخلى عنه عند أول منحنى دون شعور بالفقدان.
بعضها يعادل الذهب وأخرى لا يصلح إلا لمسح النوافذ ولف شطائر البيض والفول ولا أكثر.
الكتب كالنساء دافئة وحميمة وكلها تؤخذ بالأحضان أيضاً وتطوى وتبلى لكن معانيها لا تتبدل.
ومع الكتب أشعر بألفة المكان حتى وإن كان غريباً لا أخاف مكاناً به أطفال وكتب هذا ما أشعر به وظل شعوري لم يتغير .
صحيح أن بعض الكتب (والنساء) أيضاً أوصلني الى حافة الجنون ..وأذكى خصامي مع الحياة .لكن أكثرها ساعدني على أحتمالها وما الحياة دون كتاب ؟ .
الكتب هي خلاصة أفكار الناس ..الثقافات ..التجارب والعصور..والذين يمنعون الكتب عن الناس مهما كانت أسبابهم هم أشرار يستحقون الشنق والإعدام بالرصاص ولا أقل من ذلك .
وعندما أحاول أن أتذكر وأستحضر أسماء الكتب والكتاب الذين رافقوني رحلة العمر يتجسد أمام ناظري رتلا من الكتب وصفوفا من المفكرين وتاريخ كبير من الثقافات والوجوه المتعبة.
الروائيون الكبار..نقلوا لي الحياة كما هي لا كما أظن .. بشرورها .. بيأسها ونحسها وحتى فرحها (كزنتزاكي ) في زوربا صور الحياة على أنها فرصة تطرق الباب مرة واحدة ولا يجوز أن تضيع..لأنها إن ذهبت فقدت للأبد .. صور الحياة على أنها أغنية ذات مقطع واحد ووحيد صور الحياة على انها شهقة طويلة وممتعة ولا أكثر.
ماركيز في رواياته لون الحياة بالسحر والغموض والغرائبيه والمحال الجميل .. ازابيل اللندي ورغم البون الشاسع في الجغرافيا والتاريخ والمكان إلا أنها ابكتني من خلال المنافي والتغرب ووحشة الليالي المنسيه والحب المتعَب والرضوخ للهزيمة عندما تقفل سبل النجاة وعندما يطلب منا أن نواجه الحياة بضلوع معراة من اللحم والحلم والحماية.
..والشعراء الحقيقيون أعلنوا منذ البدء خصامهم مع الحياة كل من لا يتخاصم مع الحياة ليس بشاعر ..الحلاج في تساؤلاته..والخيام بقناعته اللامحدود في رحمة الله ..وأمل دنقل الخارج على سلطة القبيلة ..لوركا..وأرغون ونيرودا.. وبشار وآخرون.
الفلاسفة (اسبنيوزا..وهيغل..وديكارت.. وهديجر )وغيرهم .. طوحوا بي شرقا غربا ثم أعادوني للمربع الأول ..ذهبت معهم للينابيع ..لكنني عدت أكثر عطشا ..تقدمت إليهم بسؤال ورجعت مثقلا بالأسئله ..وتلك هي مزيتهم..فالكائن البشري القلق هو من يستحق الحياة لاغير ومن يدعي أنه امتلك الحقيقة فقد ظل .
لقد سافرت مع رفاقي الكتاب ..عبرت البحار مع هرمان ملفيل وهو يصارع قدره الأقوى والأحمق ..ولكنه لم ينهزم .. ولفظت أنفاسي مع همنقواي تحت ظلال جبل كلمنجاروا الاستوائي ..وعبرت مدار السرطان والجدي مع هنري ميلر وعاندت كما عاند اشتاينبك..
وحملت قلق مالرو وكامو الغريب وسخرت من الحياة كما سخر منها تشيخوف وزملائه الروس العظام في تلك البلاد الفسيحة وعرفت رعب السجون مع هنري شارير وحلقت في السماء التي غدت قبره مع سانت أكزبري وتمنيت لو غدى قبري أنا الماء أيضاً ولكن..؟ .
وحلمت مع الحالمين.. حلمت مثلهم بالثراء والاكتشاف والرحيل وبنساء جميلات لا يهرمن ولا يعبسن ..وبحب يستعصي على الذبول .
وكثيرا ما أفقت من أحلامي على تلك الضربة القاسية على الرأس والتي تقول :عمرو تذكر أن الحياة هي الحياة لا أقل ولا أقل ولا أقل.
ووجدت أيضاً ان بعض الكتب وبعض الكتاب أصناما لا أكثر..صنعها الخوف من الإتهام بالجهل .. بعضها كرسه المال ..وبعضها كرسته السلطة .. وأخرى كرسها الجهل الكبير والابتذال ..وما أكثر ما رأيت من ذلك في شرقنا العربي النائم من الماء إلى الماء.
وحاولت أن أكتب أيضاً ..ولكن كيف أكتب والقلم مكسور والدواة جافة كصحرائنا ..حيث لا مكان للتساؤل..ولا أنهار تفضي إلى البحر ولا قطارات تعبر في المساء ولا خيانات ولا حكايات ووشوشات حب ..وكل شىء لدينا قد اغتسل ثلاثا بماء طهور.
وما زلت أقتني الكتب ..رغم أني لم أعد اقرؤها إلا قليلا ..لم أعد أجد الوقت ولا الهاجس للاكتشاف..أحس أني أكبر..وأن الكتب لن تعطيني أكثر مما أعطت ..وما عدت أحمل مصباح الدهشة ..ولا حمى التساؤل ..والعالم تغير أيضاً..وأنا أنا لم أعد ذلك الشاب الصغير الذي يسكن الغرفة رقم (19) في سكن الضباط العزاب في القاعدة البحرية في مدينة الجبيل..ولا ذلك الشاب الصغير الذي كان يسهر الى ليل متأخر في
نصف العقيلي الأيمن ونصفي الأيسر والسنوسي والعواد وحسن قاضي
ومساء تهامي
نادي جازان في حي العشيماء..يقرأ القاهرة الجديدة والوسادة الخاليه وبعد الغروب ..ويحدق مبهورا في العقيلي والسنوسي وغيرهم من الرموز..ولا أظن أن العشيماء هي أيضاً كما هي ..ولا
الرفاق الذين شاطروني عزبة فقيرة بها بقوا أيضاً كما هم .. أعرف رفاق بقوا وآخرون طحنهم قطار الحياة البليد.
الذي لا ضوء أحمر ليتوقف