متى سمعتم بأمريكا..؟ وكيف سمعتم عنها أول مرة..؟ حالوا التذكر .. وأنا سأقول لكم ..
كنت قد بدأت وأنا في الصف الرابع الأبتدائي بكتابة أسماء المدن التي أعرف..لا أتذكر لماذا كنت أفعل ذلك ..غير أنه كان لي بالتاكيد أسبابي الخاصة والمقنعه حينئذ.
أمي كانت مصدر معرفتي الأولى ..وكانت رحمها الله كلما تذكرت أسم قرية أو مدينة قالتها لي..كانت تريد إدخال الفرح الي..أو ربما كانت هي أيضاً تشاركني حلم الأسماء البعيده..وكنت اضيف الى القائمة التي تطول : ..المعترض.سنقفوره..أفريقيا..قوز الجعافره..تركيا ..الضبيه ..الخوجره..
كلها كانت لدي أمكنة.. تتساوى القرى والمدن والقارات..وكانت القائمة تطول..وتطول
وعند ما أمتلكنا أول راديو كبر العالم علي وتوسع .. العالم الذي كان ينتهي عند حدود الأفق
حتى عندما كنت أعتلي عشتنا الطويله وأحدق في الفضاء كانت السماء تطبق على الأرض عند حدود الأفق ..ثم لا شىء, وعندما أسال من حولي ثم ماذا هناك..؟ وكان الجواب ..لا شىء
ودخلت ذاكرتي أسماء آخرى ونسيت القائمة أو ما عادت تتسع ..أصبح العالم أوسع وأقرب للتصور..وسمعت بأمريكا وصوت أمريكا وصنع في أمريكا لكنها لم تكن أكثر من مكان..مكان ربما لا يختلف كثيراً في ذاكرتي عن حرض والدرب والفجا.
هكذا كنا نحن في القرى ..بسيطة أحلامنا ونقيس الدنيا طبقاً لتصورنا ولم نكن نظن أن العالم بكل هذا الأتساع والتعقيد وربما القسوة.
وأخيرا أرتبطت أمريكا لدينا بالقوة والعظمة والغطرسه من خلال حرب السابع والستين..وهبوط الأنسان على القمر وحرب فيتنام .
وكنت أستمع الى برنامج (بدر كريم) الشهير (تحية وسلام) كل صباح جمعه والذي كان يتصل فيه بالمبتعثين في أمريكا وكندا وبريطانيا وبلاداً آخرى ثم يوصلهم بذويهم عبر الهاتف ..
ومن خلال نشيج الأباء ودموع الأمهات عرفت أمريكا أكثر..عرفت أسماء ككلفورنيا ونيوجرسي ومتشجن .. عرفت أريزونا ولويزيانا ولوس أنجلس ..وهيوستن وبوسطن وعرفت مصطلحات (كالسمستر) والكورس..وشطح بي الخيال بعيدا وتخيلت نفسي أحد أولئك المبتعثين الذين سيذهبون يوما نحو ذلك السديم , ويسُتصل بهم . بدر كريم يوما ما . بل وكنت أحفظ مالذي سأقوله .. وأي الأغنيات سأهدي لعائلتي وأسماء الأقارب الذين سأبلغهم تحياتي ...؟ كنت أحلم ..احلم كثيرا في تلك القرية المنسية إلا من النسيان ..في ذلك الزمن البعيد..رغم أنه لا هاتف لدينا ولا كهرباء ولا أم ابعث اليها تحياتي البعيده . لكنه الحلم ..يقولون لا تتنازل عن حلمك..مهما غدى نائيا..أستعمله بوصلة وشد نحوه المسير. وهكذا كان
..لكن أول رحيل لي لم يكن لأمريكا..رغم أنها كانت خيارا متاحاً ..لكن شخصا كريما قال لي
أن الذين ذهبوا الى أمريكا فشلوا..أذهب الى الباكستان ..وستذهب الى أمريكا يوما ما.
ولأني أخاف الفشل ذهبت الى باكستان وبقيت أمريكا حلما مؤجلا والعمر أيضاً يبدل أحلامنا وأولوياتنا..العمر يكتب آخرى ويمحو ..وهكذا نحن.
وأخيرا تم أختياري ضمن أثنين آخرين للذهاب الى دورة في أمريكا دورة مدتها ستة أشهر..كنت متهيبا ومترددا ولم أعد مفتونا بأمريكا كما كنت صغيراً..لكن البحارة العائدين من هناك بأطياف ذكرياتهم التي تركوا .. كانوا يقولون.لي أذهب..أذهب ..أنت هبل..؟ أحد يرفض أمريكا..؟
ومن مطار الظهران الدولي وعلى خطوط (البان أمريكا) غادرت في رحلة أستمرت ثلاث عشرة ساعه أنا وزميل آخر حتى هبطنا في مطار جون كندي وسط حرارة تبلغ درجتين تحت الصفر وأنا أخب في بدلة كنت قد أشتريتها من متاجر الخبر..بدلة صيفية بيضاء اكبر مني لأني لم أجد مقاساً ملائما لي.
وغادرنا بوابة المطار ليتلقفنا سائق أمريكي أسود ..سألنا أنا وزميلي عن مقصدنا..؟
كنت أظن أني أتحدث الأنجليزية بقدر معقول..غير أن لأمريكا أنجليزية مختلفه..لكننا أفهمناه أننا نريد فندقاً.
وأنطلق بنا في شوراع (التفاحة الكبيرة) كما يسميها أهلها..كانت المباني كئيبة والأشجار معراة من الأوراق كما تفعل في كل شتاء..حتى وقف بنا أمام أغلى فنادق المدينه في منطقة السنترال بارك.
هذا الفندق تحولت ملكيته الأن للأمير الوليد إبن طلال:
>
خف الينا موظفي الأستقبال بلباسهم (الفكتوري) وعربات نقل الأمتعة المذهبه وبعد أنهاء أجراءات التسجيل عرج بنا المصعد في سرعة ضوئية للدور الثاني والثلاثين. وفتحت الستارة ..كانت الغرفة تطل على (ماديسون أسكوير) ..و كل شىء كان يلبس حلة الشتاء السوداء وبقايا الصقيع الذائب.
حاولت أن أنام فلم أستطيع رغم التعب ..كنت أنتظر فارق التوقيت لأتصل بقريب لي في أبو عريش أطمئنه أني وصلت أمريكا..لكن الوقت كان مبكرًاً جدا. ولبست كل ملابسي وبكل ألوانها وهبطت حذراً أتفقد المدينة..لم أبتعد كثيراً عن الفندق مخافة أن اضيع . كنت جائعاً غير أني كنت خائفا من لحم الخنزير وكان والبرد قارساً وملابسي مجتمعة لم تمدني بأي معونه ..وقررت أن أعود الى الفندق وهناك أطلب الغداء .ورفعت سماعة الهاتف ..وطلبت طعاما وكررت كلمة رز اكثر من مره ..رز
ــ please rice rice more rice
وبعد قليل فتح الباب عامل يدفع عربة كبيره مثقلة بالاطباق والشوك والملاعق والمناديل والشموع ..وفوق ذلك تمنى لي وجبة هنيئه ومضى.وبدأت برفع الاغطيه افتش عن الرز ..ووجدت قليلا من الرز الأبيض ..وقليلا من البطاطس المهروسه..وشريحة لحم كبيره وخضار السوتيه .والتهمت الرز حتى اخر حبه نائية في الطبق ..ولم استطعم البطاطا المهروس ..ولم اقرب اللحم خوفا ان يكون لحم خنزير ولا الخضار المرسومه , ولم أشبع..وتمنيت في ذلك البرد القارس قطعة خبز و فنجان شاي معطر بالشمطري و النعناع ..ولكن هيهات. هذه اذا امريكا..كذبة كبيره لا أكثر و هكذا اصدرت حكمي المتعجل كما أفعل وكما لن أتغير.وعندما تيقنت أن قريبي قد وصل مكتبه في أبو عريش..رفعت الهاتف
ـــ الووو يحي أنا عمرو في أمريكا
ـــ أنت صادق..؟ وكم الساعه عندكم..؟
ونمت..ولم أستيقظ إلا على صوت طرق الباب..أستيقظت دون أن أدري أين انا في القمري أو في الجبيل ..كان زميلي نواف على الباب يستعجلني الخروج لنرى نيورك.
ــ برد يا نواف.. برد ..وضحك مني..كان أكثر خبرة ووعيا بالحياة..وكان قد سافر الى لندن ذات صيف وكان يعرف كيف يختار ألوان ملابسه وماذا يلبس ووجدنا مطعماً هنديا أعرف أطباقه الحارقه وأكلت حتى شعرت بالعرق يطفر من جبهتي. واشتريت معطف شتائي ثقيل يمتد إلى منتصف الساقين وضحك نواف وقال أني أشبه المفتش (كولومبو) وقلت لا أني أشبه وزير خارجية جيبوتي .. وضحكنا معاً وخرجنا نستجلي مباهج الليل .. ليل مدينة نيويوك البهيج.
وفي اليوم التالي آخذنا طائرة أخرى للجنوب حيث تعقد دورتنا..وهبطنا في مطار مدينة تشارلستون الساحليه في ولاية كارولينا الجنوبيه الدافئه..حيث أستقبلنا مندوباً من البحرية الأمريكية ,اخذنا الى أحدى أكبر قواعدها البحرية على المحيط الأطلسي حيث الغواصات النووية وأحدى قواعد سفن كسح الألغام البحرية.
وكان كل شىء معد مسبقا ووجدنا زميلنا الثالث قد سبقنا وأشترى سياره..وبشرنا أن الدورة لن تبدأ قبل أسبوعين..
وقررنا الرحيل الى أصدقاء يدرسون الطيران في فلوريدا وفي مدينة (بنسكولا) تحديدا وقبل العاشرة صباحاً كنا على طريق ( HIGWAY 95 S) موغلين نحو الجنوب..عبر جورجيا .ومن مدينة (جاكسون فيل) أخذنا الطريق السريع رقم عشره غربا وكانت أمريكا كلها مباحة لنا وكل ذنوبنا مغفورة منها كسعوديين في ذلك الزمن ..حتى وصلنا مدينة بنسكولا في فلوريدا على خليج المكسيك بعد منتصف الليل. وهاتفنا صديقنا من أحد كبائن التلفون
ـــ عوض ..وصلنا..نحن عند ماكدولاند
ـــ أي ماكدولاند البلد فيه عشرين وأحد..؟ صحيح بدو
لكنه وصل الينا بعد أن أعطيناه اسم الشارع والمحطة القريبه
ـــ على فين يا عوض
ـــ طبعا للشقه العشاء جاهز
ـــ والله أنته إلا بدو مو إحنا..خذنا الى المرقص.