لحــــــــــــــــــن الحـيـــــــــــــااااااااااااة
اللهم رب الناس أذهب البأس ، واشف انت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقمك
ألزمني مرضي الفراش .. وسلبني روح الحياة التي ينعم بها غيري ..
ان مرضي ينتابني كل سنة مرة .. ويتعهدني بذلك كل سنة .. لا يأتي إلا وتسبقه أمارات قدومه .. ولا يغادرني والا وقد تركني محطماً خائر القوى ..
وكل مرة تحتضني رحمة الله .. لأكمل باقي ما كتب لي من عمر
ويستنفر اهل بيتي قواهم .. ليظهر كل فرد منهم اهتمامه الخاص بي .. فوالدتي تلزمني الفراش إلزاما مؤكدة ان المرض لن يتركني إذا تركت انا فراشي .. واخواني الصغار .. يتعمدون إثارة الشغب امامي .. ليكتشفوا هل لازلت قوياً .. ام انه حان الوقت ليخلفوني . وحتى فراشي يثيرني وقلمي يفعل ذلك ايضاً .. وحتى أصدقائي يرددوني على مسامعي عبارات كـ ( ما تشوف شر ) و ( لا بأس ) و ( سلامات ) .. ان هذه العبارات لا تقلل من شدة وطأة المرض ، حالها كحال ( رزمة ) الأدوية التي يحاول كل طبيب ان يبرهن على مقدرته بسلبه بعض نقودي من أجل دواء كريه الطعم والرائحة .
في مرضي عادت بي ذاكرتي ( إنها كل ما املكه حالياً ) إلى أيام سابقة .. ايام الصبا .. و ( دحلة ابو طبنجة ) حيث نشأت وترعرعت . إلى أصدقاء لم اعد اعرف عنهم شيئاً .. لكننا عشنا البراءة بحذافيرها معاً .
عادت بي ذاكرتي إلى زمن كنت فيه ابن ثلاث سنوات . انني أذكر بعض أحداثها .. كيوم هربت من المنزل عندما وجدت الباب مفتوحاً ( هربت ) لا أدري هل هربت ام انه كان لا بد لي أن اخرج .. لقد وجدوني بعد ذلك مع ابناء جيراننا .. ولقد كان ذلك اليوم هو اول يوم اقيم فيه علاقة شخصية .. وكان ذلك اليوم هو اول يوم اكتشفت فيه حب والدتي لي .. اشترطت بعد ذلك على والدتي انها إذا رغبت في الإحتفاظ بي ، فإن عليها ان تدفع لي ( ريال واحداً ) كل يوم . لقد التزمت بذلك مدة طويلة .. واستفاد اخواني كثيراً من ذلك ايضاً .
لم اكن عبقرياً وانا صغير . .. كنت اتبع دائماً ( قائد ) حارتنا .. بحكم انه الأكبر و ( الأعقل ) وبحكم انه هو الوحيد الذي يمكنه ان يساعدنا عندما نتعرض لمشكلة مع ابناء الحواري المجاورة ... وقد كنت ( أفضل جنوده ) عندما قررنا الإستيلاء على البستان المجاور لنحوله إلى ملعب لنا .. وكذلك كنت ( أفضل لاعبي ) فريقه .. لقد كنا نخسر دئماً .. لذلك كنا نختلق المشاكل قبل نهاية المباراة حتى نحتفظ بما كنا قد تراهنا عليه ( كل لاعب يدفع ريال واحد ) .
الطامة الكبرى كانت عندما قررت والدتي تسجيلي في مدرسة جل طلابها من أبناء الحواري المجاورة .. متجاهلة طلبي بتسجيلي في نفس مدرسة الحارة .. متعللة بأن ذلك ليس في صالحي .. لقد هادنت كثيراً لكن كنت دائماً الضحية أيضاً .. في الصباح ( في المدرسة ) يوقعونني في المشاكل .. وفي المساء ( وبرفقة عيال الحارة ) أذهب إليهم لأسدد ديوني . بعد ان نكون قد تعلمنا بعض الحركات من مسلسل ( غرانديزر ) و ( الرجل الحديدي ) .
وسارت أيامنا على هذا المنوال .. وكبرنا قليلا .. لتلحقني والدتي بمدرسة تحفيظ القرآن الكريم ( في الحارة المجاورة طبعاً ) لكنني لم أكن لوحدي .. لأن نساء حارتنا قد دبروا المؤامرة ليلاً .. وقاموا جميعاً بإلحاق ابنائهم في مدرسة تحفيظ القرآن .. وهذا قلل من شعوري بالخوف .
كنا قد قررنا إقامة تحالف مع بعض الحواري .. وتبادل منافع من نوع ( نسمح لهم باللعب في ملعبنا مقابل ان يسمحوا لنا بالدخول إلى حارتهم لكي نلعب في محل الألعاب الإلكترونية الذي افتتح حديثاً ) وهكذا ... وفي حالات خاصة .. لم تكن هناك منافع محددة لكي نتعاون .. مجرد ان نشترك في المصير سبب كاف لنكون يد واحدة .
وجاء اليوم الذي كان لابد ان أودع حارتي وأصدقاء طفولتي .. لم أذرف الدمع كما كانوا يتوقعون .. وككما فعل جل أفراد عائلتي .. لأنني لم اكن اعرف معنى الوداع .. فلم يسبق لي ان فقدت أحداً من قبل .
ولكن بالتأكيد بعد ذلك افتقدتهم .. بالتأكيد افتقدوني .. لقد كنت المورد المالي لهم .
وفي حارتي الجديدة .. كنت حذراً جداً .. مشاكلهم كانت اقل من مشاكلنا .. و افتقدت لعامل مهم .. هو عامل ( الإثارة ) لتستمر الحياة بشكلها الرتيب ، وفيها أجريت أول عملية جراحية لي .. لقد استطاع الطبيب ان يكسب ثقتي بمجرد ان اشترى لي ( اسكريم ) .. لم أكن اعتقد يوماً ما ان ثقتي يمكن ان تشترى بـ ( إسكريم ) لكن هذا ما حصل . للأسف
لكنني دفعت ثمن ذلك غالياً .. لقد اصبح المرض يتعهدني مرة كل عام .. وكان لا بد لي ان أرضى بقضاء الله وقدره .. إنني اتمنى لو استطيع ان احدد له انا بنفسي وقت حضوره .. ( انه لا يستشيرني في ذلك ) .
ومضيت أيام حياتي التالية بشكل رتيب لا وجود لاحداث كبيرة حتى جاء اليوم الذي ودعت فيه جدتي ( والدة والدتي ) الحياة .. لن تصدقوا انها اعتذرت إلي قبل ان تذهب .. لقد قالت لي بالحرف الواحد ( سامحني يا ..... ) لقد ذهلت ذهولا كبيراً . لكن آن ان تعرفوا انني في جميع ما ذكرت سابقاً كنت أقصدها بعبارة ( والدتي ) .. وعلى انني لم اكن البكر من أحفادها .. لكنني كنت المحظوظ . لقد تربيت في كنفها ونشأت اناديها بـ ( امي ) طوال 12 سنة .؟؟ أما والدتي ( فكانت بالنسبة لي الأخت الكبرى ) حتى بلغت سن الـثانية عشر .. وفارقتني جدتي للأبد .
اتبع ذلك موت اعز أصدقائي بسبب مرض خبيث .. جعلني أفكر في الموت .. هل من الممكن ان أكون انا التالي .. وكلما يحاصرني المرض .. اطلب من والدتي ان تدعو لي بطول العمر .. ( لقد احببت الحياة رغم بؤسها ) .
ذهب أؤلئك .. ولم يعد احد يذكرهم ؟ ترى هل يستحقون كل هذا التجاهل .. وعندما أذهب أنا .. هل سيتجاهلني أؤلئك الذين أكن لهم كل الحب والتقدير ؟ هل سيتجاهلني أصدقاء طفولتي بعد ان كانوا ينتظرون عند بابي بالساعات آملا في مرافقتهم إلى مغامرة جديدة ؟
القبور مليئة بالذين كانوا بعتقدون ان الحياة لن تستمر بدونهم .. ولكنها استمرت ..
وفيها الكثرون الذين لا يستحقون ان يكفنوا ويواروا تحت التراب .. لأن الحياة تستحقهم .. ولأننا أيضاً نستحقهم .
وفيها الكثيرون .. من الذين بذهابهم أضافوا للحياة خدمة لا تقدر بثمن . ونحن نشكر الموت لأجلهم .
لم يبقى لنا من أحبابنا إلا الذكرى ( ان تذكرنا ) ولا من صورهم إلا ان نراهم في ( أحلامنا ) .
مرضي يشتد وطأه .. وأمي تؤكد أنه لم يبقى إلا القليل .. وساعود كما كنت .. وبعض الناس تتمنى ان تكون هذه هي الأخيرة بالنسبة لي .. وانا أتمنى الا تكون الأخيرة .. فمرحباً بمرض ليس نهايته الموت .. ومرحباً بالموت وأنا في كامل قواي .. ليس ضعيفاً طريح الفراش .
لن أقاوم .. لقد اكتفيت بعمري إن كان هذا ما كتب لي .. وان كان قد كتب لي المزيد .. فارجو مرضي ان يتركني لاجلي .. فلست بذات فائدة له .. وهو بالنسبة لي كذلك .
.. وعندما يأتيني الموت .. سأكتب في وصيتي ( أدعوا لنا ) .. ولكنني في حال مرضي ساقول .. انني افتقد ( لحن الحياة ) .