كل شيئ يتناقص في هذه البلدة، ابتسامات الصغار، ضحكات الصبايا البريئة، مرعى البقر، ضرع السماء، عجائز الحارة، "ردائم الفلّ"، أغصان الريحان، مساحات القمح يسقيها عرق الآباء، ماعدى الحزن... إنّ مخزون البلدة منه لا ينضب ، بل يتكاثر كخلايا سرطانية..
على عتبة كل باب موائد للحزن، أُتخمت منها نساء البلدة، تلك تبكي فلذة كبدها الذي علقته عقبة "ضلع" شاهدا على روعة الأفاعي السوداء، تتسلى بأرواح البشر، وخلفها الفساد يرقص السامبا ، ويسجل الأهداف بلا راية رجل خط ، يقول له تسلل....
أخرى تصدع فؤادها حمى صغيرها، اسموها الوادي المتصدع، وكان حريا بها اسم "الشعب المتصدع"، تلوكّ مستشفيات البلدة ولدها كما لو أنه علكة في فم عاهرة، تتسلى به، ريثما يطل ادنى زبون.. وليس لهذه العاهرة من رادع، ولا رجل مبدأ يستأصل شأفة فجورها، ويخرج جنّي الفساد الذي يبني بها كل حين...
بأي قلب تواجه " شوعية" لأواء الحياة، وعلى حجرها بناتها الست، لا يسكن معهن إلا أخوهن الأكبر (الفقر)، فهو جاء الى حياتهن قبلهن، وأرضعته أمهن (بلا فتوى)، ليس حليبها فحسب، بل حياتها، فهل ثمة نسب أوثق، ورابطة أقوى، من امتزاج حياتهن جميعا بدم الفقر، وهل يعي الفقر المقيم بين ظهراني قلوبهن، أنّه يسد عليهن باب الكهرباء التي عجزوا عن فاتورتها، و"اسطوانة الغاز"، التي يقسطونها، خشية أن تفارق الحياة بغتة، هن لا يحلمن بفساتين لزواج صديقتهن "حليمة"، ولا يخطر ببالهن السفر إلى سوق "صامطة"، فهذا حلم ختم عليه الفقر بالإجهاض...
ترى هل يسمع الليل صرخات "عبده" ، الذي أفنى سنتين من الأيام التي وهبه الله عمرا، ذهابا وإيابا علّ قاضي البلدة، ينظر لمظلمته، وينهي تسلط شيخ القرية على أرضه، بدون وجه حقّ، حتى أصبحت أرضا عاقرا، وجهد زوجها "عبده" بلغ من عمر الكدح عتيا، ولم يخرج فضيلته بعد من محرابه، لا بكرة ولا عشيا، فمن يأخذ كتاب "عبده" بقوة؟، أم أن القهر الذي أناخ بقلبه كان أمرا مقضيا... ولا نخلة يهز بجذعها...
هذا الذي يسمونه طريقا / اسفلتا، كظهر أجدب، يتعرّى في النهار لتبدو سوءاته قبيحة كقبح من وضعه، وتبدو دمامل الفساد، على جسده الفاجر، أما في الليل فإنه يتحول لشرك يصطاد بقايا سيارات البلدة، ويمنحها هزة "الأورجازم"، عشرين مرة قبل أن تصل إلى بيوت أصحابها، يضمدون جراحها، من جيوبهم المجدبة.... فلماذا كلما ولدت البلدة مشروعا خرج خديجا أو ابن زنا..
كثيرة هي أحزان بلدتي، وأكثر من أحزانها دموع النساء المسكوبة ، ودموع الرجال المخنوقة، أكثر من الحزن قلوب الأطفال المعلقة بـ"ضمان" أمهاتهن المطلقات/الأرامل، أكثر من الحزن آهاتُ مريض عليه أن يهاجر صوب مشفى يسأله عن كل شيئ ، قبل أن يمنحه سريرا يموت عليه، الخ الخ..
كل أهل بلدتي، يصلّون المغرب مؤمنين أنه فرض....