يَحكي لي صديقي كلما التقينا ذكرياته الحلوة والمرة ، وممّا يتذكره دائماً
وخاصة في المرحلة الإبتدائية كيف كان زملائه يُعيِّرونه أويسخرون منه
بأن أُمّه( خياطة ).!
يقول صديقي : كنتُ أكره تلك اللحظات التي أسمع فيها كلماتهم الساخرة
وهم يرددون خياطة خياطة في الفصل أومابين الحصص أوالشارع ، ولقد
وصلت بهم السخرية إلى التعريف بي (إبن الخياطة) عند أي زميل جديد
يُنقل إلينا أو من أي صفٍ آخررغم أننا كنا في الصف الخامس والسادس.
كانت نظراتهم وهمساتهم وضحكاتهم تُتعبني لدرجة أنني وفي لحظة من
اللحظات كرهتُ أمي وكرهتُ تلك المهنة ونسيت فضل الله تعالى ثم فضل
أمي عليّ وعلى إخوتي من مهنة الخياطة ، ونسيتُ بسببهم أيضاً صبرأمّي
على تحمل مسؤولياتها بعد وفاة والدنا يرحمه الله وتضحياتها وكفاحها
وسهرها الليالي لإسعادنا وجعلِنا كا لآخرين لا ينقصنا شيئاً .
نَعم بسببهم كرهتُ أمّي ، وكرهتُ الخياطة ، ونسيتُ كل شيء ، بل أنني
وكلما سمعت صوت تلك الآلة في بيتنا أو رأيتُها أصاب بالإشمئزاز
والحزن مُختلقاً المشاكل والأعذار لإسكاتها ومُفكراً في إعطالها وتخريبها .
لاحظت أمّي بقلبها الحنون ذلك الحزن على وجهي الذي أصبح لا يفارقني
وتدني تحصيلي الدراسي ،وإهمالي لواجباتي المدرسية ، فأقلقها حالي
وانشغلَ بالها ، وكنتُ أرى نظرات الحب والإشفاق من عينيها ، والخوف
من ضياعي وعلى مستقبلي الذي رسمتُه وآمالي التي بنيتُها لإسعادها ورد
جميلها .
وفي ليلة لا أنساها اجتمعت بي أمّي كعادتها معنا فسألتني بقلبها الكبير
عن سر حزني وقلقي وتراجعي الدراسي .. حاولتُ السكوت وعدم الكلام
لكنّ أمّي وبضمةٍ على صدرها الحنون ودمعة من عينها الحائرة كانت
تلتهب لتحرق خدي انتزعت مني الإجابة ورحتُ أشكو لها حُزني وهمي
وكل ما يُشغلني .
وبحكمتها المعهودة هونت عليّ الأمر وقالت لي : حبيبي إذا كان يُرضيك
ويُريحُك أن أترك الخياطة فأنا مستعدة وسأتركها من الآن .. ولكن قبل أن
أتركها انظر كيف هو حالنا بفضل الله ثم بفضل هذه المهنة .؟ هل ترى أن
فيها عيباً .؟ وانظر إلى أخيك الكبير وأختك واقتناعهما بها .؟ هناك مهنٌ
كثيرة وسلوك هي العيب عُرضت عليّ ورفضتُها لأجلكم، سأترك الخياطة
لأجلك ولكن لا أعرف مهنة غيرها إلاّ أنني قد أعملُ خادمة في البيوت
فهل يُرضيك ذلك .؟ حبيبي لا تتأثر بكلام زملائك فقد يكون هدفهم المزح
معك ومداعبتك .. وثق تماماً إن تأثرك وحساسيتك من كلامهم سيؤثر
عليك وعلى مستقبلك ، إثبتْ لهم امتيازك وتفوقك عليهم كما كنت فهم في
غيرة منك ، ... قالت .... وقالت .... وقالت ....وأجهشت با لبكاء .
رحمتُها ورحمتُ بكاءها ومسحتُ بيدي دموعها ، وقبَّلتُها وقبَّلتُ رأسها
ويديها وسكنتُ لحظة في حضنها لألومَ نفسي .
لقد أعطتني أمّي درساً أفقتُ من خلاله لبداية حياتي والإلتفات لدروسي
ومستقبلي وآمالي وتطلعاتي وعدم الإهتمام بالتفاهات والإقتناع بما كتبه الله
لنا والفخر بها وبكل أمّ تكافح من أجل سعادة أبنائها ، درساً اتخذته منهجاً
في حياتي منذُ ذلك الوقت وحتى الساعة ، وها أنا اليوم إبن من كانت
خياطة دكتوراً محاضراً في الجامعة ، أمّا أخي الكبير فهو أكبر المهندسين
بإحدى الوزارات ، وأما أختي فهي من أنجح المعلمات ..
حفظ الله أمّي وأعاننا على البر بها ، لقد كانت مدرسة تخرجنا علي يديها
وبفضل من الله تعالى ثم بفضل كفاحها وصبرها على تلك المهنة الشريفة
الخياطة التي أوصلتنا لهذه المراتب .. ولا عيب إن كانت أمّي خياطة .