د. ضياء هذا تقرير رائع ربما يوضح بعض النقاط

لماذا انسحب شارون؟

لم يكن الكيان الصهيوني منذ أن جثم على أرض فلسطين باحثًا عن السلام، ولم تكن التغيرات التي تصاحب القيادات السياسية في هذا الكيان الصهيوني إلا وجوهًا مختلفة لعملة واحدة، وبين هذه الوجوه المختلفة يبرز وجه 'أرييل شارون' بوجهه الوحشي الدموي, والذي لا تحتاج شهرته في الخوض في دماء الفلسطينيين واللبنانيين والمصريين إلى تذكير، غير أن شارون ذاته هو الذي قدّم خطة الانسحاب من غزة. فهل أصبح شارون فجأة رجل سلام كما يحاول البعض الترويج لذلك؟!

حقيقة الأمر أن المتأمل في خطة الانسحاب من غزة والترتيبات الأمنية المصاحبة يتأكد له أن شارون صاحب فكرة تقسيم فلسطين إلى كانتونات ذات كثافة سكانية مع عزلها عن بعضها وعن العالم الخارجي لم يتغير, بل إنه يسعى لجعل الانسحاب من غزة هروبًا إلى الأمام يحقق من خلاله أهدافًا ومكاسب لم يكن يحلم بها أي من قادة الكيان الصهيوني السابقين.

لقد كانت غزة وما زالت تمثل غُصة في حلوق 'الإسرائيليين', فهي معقل المقاومة ومركز القوة الفلسطينية الذي طالما صرح إسحاق رابين عن حلم راوده باستمرار عندما قال: أتمنى أن أستيقظ ذات صباح وقد غرقت غزة في البحر. ويبدو أن شارون يحاول تحقيق حلم رابين.

بالتأكيد فإن الانسحاب 'الإسرائيلي' من غزة ليس أمرًا اختياريًا, بل هو أمر تجبر عليه 'إسرائيل'،

فالكثافة السكانية التي يتمتع بها قطاع غزة تجعل الكيان الصهيوني يغرق في البحر الفلسطيني,

أما الانسحاب فيساعد الكيان الصهيوني على التخلص من خطر زيادة أعداد الفلسطينيين مقابل الانخفاض الحاد في أعداد اليهود، إضافة إلى ذلك فإن الفشل اليهودي في اقتحام غزة أو السيطرة عليها لا يزال عالقًا في الأذهان, زاد من شأن ذلك تطور المقاومة الفلسطينية ودخول صناعة الصواريخ الفلسطينية طورًا جديدًا أصاب المغتصبات الصهيونية بالصدمة والرعب.

المقـابـل:
لهذا فإن الانسحاب 'الإسرائيلي' من غزة في حقيقته ليس كما يريده شارون, وهو مجبر عليه بفعل المقاومة هناك, و'الإسرائيليون' يدركون معنى الهزيمة التي لحقت بهم، ولكن شارون يسعى للاستفادة من هذا الانسحاب والحصول على أثمان سياسية, غير أن العجيب أن السلطة الفلسطينية تطوعت لتقدم لشارون الأثمان السياسية التي يريدها.

إن أهداف شارون من وراء الإقدام على هذه الخطوة تتجلى واضحة في تصريحات أدلى بها مستشاره السياسي ومهندس خطة الانسحاب 'دوف فايسجلاس' حيث يقول: 'في خريف عام 2003، عرفنا بأن كل شيء مسدود، فهنالك انشقاق دولي [بالنسبة لموقف 'إسرائيل']، وانشقاق داخلي, كل شيء ينهار, ووضع الاقتصاد لا يُحتمل, وعندما ظهرت اتفاقية جنيف، حظيت بتأييد واسع بعد ذلك، وصلت رسائل الضباط وقادة الطيران [الذين يرفضون الخدمة في الأراضي المحتلة]'.

ويشير فايسجلاس إلى أن شارون قرر إعادة غزة التي لم يعتبرها يوماً ذات 'أهمية وطنية'، من أجل إنقاذ المستعمرات في الضفة الغربية، وما هو أهم من ذلك عرقلة التفاوض حول أية اتفاقية مع الفلسطينيين، 'ما قمنا به يهدف إلى تجميد عملية المفاوضات ومن خلال تجميد المفاوضات، يصبح من الممكن عرقلة قيام دولة فلسطينية، وعرقلة المشاورات حول مسألة اللاجئين؛ يتضمن الانسحاب الكمية الكافية من مادة الفورمول لكي لا تجري عملية المفاوضات مع الفلسطينيين'.

- وهكذا تتضح خطة شارون؛ فهي التضحية بمغتصبات غزة التي لا يعيش فيها سوى سبعة آلاف أمام الاحتفاظ والتوسع في مغتصبات الضفة الغربية التي تحوى 240 ألفًا، إضافة إلى ذلك فإن المغتصبات الأربعة التي يتم إخلاؤها في شمال الضفة تقع في المنطقة 'ج' التي تقع تحت سيطرة الاحتلال، فهي لن تعود لسيطرة السلطة الفلسطينية.

- وإضافة إلى ذلك فإن الجدار الفاصل الذي طالبت محكمة لاهاي الدولية بهدمه يُبنى بسرعة ويتجذّر داخل الضفة الغربية، في وقت يتغاضى العالم بأسره عن الأمر، وفي نهاية عام 2005 سيحيط حائط علوه تسعة أمتار بحوالي 100 كيلومتر مربع من الأراضي الفلسطينية المحتلة شرق القدس.

- كما أن الهروب من غزة يهدف إلى تكريس الرؤية 'الإسرائيلية' لمستقبل مفاوضات الحل النهائي, أي تحديد حدود الكيان الفلسطيني المستقبلي وفق المخطط 'الإسرائيلي'، ودفع الطرف الفلسطيني إلى القبول بسياسة الأمر الواقع، وهي بذلك تُعد تراكمًا إنجازيًا لشارون مستغلاً الظروف المحلية والإقليمية والدولية لتكريس الاحتلال 'الإسرائيلي' لمساحات شاسعة من الضفة الغربية تمهيداً لإلحاقها وضمها إلى 'إسرائيل' بتواطؤ دولي وأمريكي.

- كما أن شارون ينجح من خلال هذه الخطوة في الهروب من المقاومة وتصعيد مواجهة السلطة الفلسطينية مع رجال المقاومة، فجميع الاتفاقيات 'الإسرائيلية' مع السلطة تسعى لتدمير البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، ويبدو أن السلطة الفلسطينية على استعداد للقيام بهذا الدور, فإذا كانت السلطة الفلسطينية عمدت مع تطبيق اتفاقية 'غزة – أريحا' إلى اعتقال قادة المقاومة الفلسطينية, حيث ذاقوا صنوفًا من التعذيب على أيدي رجال السلطة، فإن الاشتباكات الفلسطينية التي شهدتها غزة في يوليو الماضي ليست إلا محاولة استعراض لقوة السلطة في مواجهة أقوى حركات المقاومة 'حماس', ورسالة إلى الخارج بأن السلطة تسيطر على غزة ولا مكان للمقاومة فيها، وبذلك يكون شارون حقق نجاحًا لم يكن يحلم به من قبل.


مستقبل غزة عقب الانسحاب
بالتأكيد إن الحديث عن مستقبل قطاع غزة يدفعنا للحديث عن القوى الفاعلة في الساحة الفلسطينية، وبرغم كثرة هذه القوى من بين داخلية وخارجية والتداخل المتشابك بين الكثير من هذه القوى، إلا أننا بصفة عامة نستطيع أن نميز موقف القوى الفلسطينية من الانسحاب وسبل التعامل معه إلى طائفتين:

· الطائفة الأولى: هي السلطة الفلسطينية التي تتولى عقد الاتفاقيات الأمنية مع 'إسرائيل'.

· والطائفة الثانية: هي حركات المقاومة على شتى أنواعها.

وبالتأكيد توجد فروق كبيرة بين الطائفتين غير أن هناك فرقين أساسيين هما:

1- الموقف من الانسحاب: تعتبر حركات المقاومة الفلسطينية أن الانسحاب من غزة هو ثمرة متوقعة للجهاد والتضحيات التي قدمتها السنين الماضية، لذلك فإن الانسحاب من غزة هو تأكيد على أن المقاومة هي السبيل لتحرير فلسطين, وتحذر حركات المقاومة من الحديث عن إلقاء سلاح المقاومة عقب الانسحاب, مؤكدة على أن المقاومة خيار استراتيجي.

أما السلطة الفلسطينية فتمثل تعاملها مع خطة الانسحاب بالتخبط الشديد, حيث رفضت السلطة هذه الخطة في بداية الأمر باعتبار أنها تأتي من جانب واحد وبعيدًا عن اتفاقيات السلام التي تؤسس السلطة عليها شرعيتها, غير أنها بعد رضخت للضغوط الأمريكية و'الإسرائيلية' وقبلت بخطة شارون, بل وتعهدت بتحقيق انسحاب 'آمن ونظيف' لقطعان المغتصبين، وتعتبر السلطة أن خطة الانسحاب هي تتويج لعملية السلام الدائمة منذ عدة سنوات، وأن المقاومة قد تتسبب في ضياع هذه الفرصة؛ لذلك لم يجد 'أبو مازن' غضاضة في أن يصف صواريخ المقاومة بأنها 'أسوأ المظاهر', متجاهلاً بذلك حقيقة أن هذه الصواريخ هي التي دفعت شارون للهرب من غزة.

2- الواقعية والثوابت الفلسطينية: يتميز قادة السلطة الفلسطينية - وعلى رأسهم 'أبو مازن' - بأنهم من مدرسة 'الواقعية السياسية' والتي تخضع للأمر الواقع والضغوط الخارجية حتى وإن كان ذلك على حساب الثوابت والحقوق الفلسطينية، لذلك فإن السلطة الفلسطينية التي تحلم بإنشاء الدولة، لا تهتم بحجم هذه الدولة ولا سيادتها ولا سلطاتها، فمحمود عباس يقبل أن يكون رئيس دولة لا تزيد مساحتها عن 6% من مساحة فلسطين, مضحيًا في سبيل ذلك بكل الثوابت والحقوق الفلسطينية وعلى رأسها حق العودة.

أما حركات المقاومة الفلسطينية فهي تسعى دومًا للتأكيد على الثوابت والحقوق الفلسطينية, وإن كانت قد تلجأ إلى المرحلية في أهدافها, إلا أنها بالتأكيد لا تقبل التنازل عن هذه الثوابت والحقوق أيًا كان المقابل.

ووفقًا لهاتين النقطتين نستطيع أن نستشرف ملامح مستقبل غزة والتي بدأت مؤشراته تتضح في الأشهر الماضية، عندما قام أبو مازن بتأجيل الانتخابات التشريعية والتي كان مقرر إجراؤها في يوليو الماضي, ثم الاشتباكات التي وقعت بين حركة حماس والسلطة؛ فإن حركات المقاومة ترى في الانسحاب من غزة خطوة على طريق التحرير، بينما يراه كثيرون من داخل السلطة هدفًا تحقق ويجب الحفاظ عليه, حتى وإن كان ذلك على حساب الداخل الفلسطيني.

أقدم أبو مازن على تأجيل الانتخابات التشريعية متجاهلاً تفاهمات القاهرة, وذلك بعدما أظهرت نتائج الانتخابات المحلية شعبية حماس الجارفة, وهو ما أصاب السلطة بالخوف من أن تخسر معركة الانتخابات التشريعية, فلجأت إلى تأجيل الانتخابات إلى مع بعد الانسحاب 'الإسرائيلي'؛ أملاً في تحقيق شعبية من خلال استثمار عملية الانسحاب لصالحها، أو من خلال التزوير إن لزم الأمر.

وأقدمت أجهزة الأمن الفلسطينية على إطلاق النار على عناصر حركة حماس, ما أدى إلى اندلاع اشتباكات في أنحاء متفرقة من قطاع غزة، وكانت الرسالة واضحة وراء هذه الخطوة غير المبررة, وهي طمأنة 'إسرائيل' وأمريكا بعدم وجود إلا سلطة واحدة قادرة على قمع المقاومة الفلسطينية, وأن شعبية حماس لن تمنع من مطاردتها وضربها إذا لزم الأمر.

لقد حملت هاتان الخطوتان [تأجيل الانتخابات والاشتباكات] دلالة واضحة على رفض السلطة أي خروج من منهجها الذي ارتضته للتعامل مع القضية الفلسطينية ورفض فكرة التعددية السياسية.. وهذا أسوأ ما ينتظر غزة.

فهل ينجح شارون في طموحاته؟

مفكرة الاسلام