كيف يُكتسب السمت الحسن؟
هناك عدة وسائل لذلك نذكر أهمها:
1- إصلاح الباطن: فأدب الظاهر عنوان أدب الباطن،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كـلـه وإذا فـسـدت فسد الجسد كله،ألا وهي القلب"(28).
2 - إعلاء قيمة التأدب وجعله من الأولويات: وقد كان السلف - رحمهم الله - منهم من ينفق في ذلك جزءاً كبيراً من عمره، ويعتبر أنه رابح لا خاسر. قال الحسن رحمه الله: إن كـان الـرجـل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين(29)، ومكث يحيى بن يحيى عاماً كاملاً يأخذ من شمائل مالك - رحمه الله - بعد أن فرغ من علمه(30).
3 - الاطلاع عـلـى حـكـايات العلماء: قال أبو حنيفة: الحكايات عن العلماء أحب إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم(31).
4 - لزوم الصالحين والقــدوات الحسنة ومن يُستحْيى منه: فإن معاشرة هؤلاء ومخالطتهم تسهل على النفس الاقتباس عنهم والانضباط بوجودهم.
قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: مـن فـقــه الـرجـل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم(32).
وقال عبدوس: رآني أبو عبد الله يوماً وأنا أضحك، فأنا أستحييه إلى اليوم(33).
5 - الـتـنـفـيـذ الـفـوري لما يتعلمه: عن الحسن أنه قال: قد كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه وبصره، وبره(34).
6 - مجاهدة النفس وتـعـويـدها على الخير: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعْطَهُ ومن يتَّق الشر يوقه"(35).
وكان عبد الله بن مسعود يقول: تعوَّدوا الخير، فإنما الخير عادة.
7 - معاقبة النفس والشدة عليها: قال الجيلاني: لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله - عز وجل - ومن هرب مني ومن أمثالي لا يفلح(36).
وقال ابن وهب: نذرت أني كلـمـا اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم؛فمِنْ حُبِّ الدراهم تركت الغيبة(37).
الصفة الثالثة: الثقافة والتجربة:
وذلك فيما يتعلق مباشرة بالعمل التربـوي، أو مـا لـــه تعلق غير مباشر به، ونبدأ بالثاني، ونقصد به أمرين:
الأول: الثقافة أو التجربة الواقعية المتعلقة بمعرفة أحوال الناس وطبائعهم وصفاتهم.
ومـصــادر هذا النوع من الثقافة والتجربة متنوعة، يمكن استقاؤها من الأفراد مباشرة، كلٌّ بحسب حـالــه من خلال اغتنام لحظات الحوار العابر، أو توجيه السؤال والاستفسار مع تقوية ملكة جـمــع المعلومات الشفوية، وأيضاً يمكن استقاؤها من البحوث والدراسات التي تتناول هذه الموضــوعات، وفي الجلوس مع الكبراء في السن وفي الخبرة فائدة لا تترك؛ قال المناوي: المجربون لـلأمور المحــافـظــون على تـكـثـيـر الأجور، جالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم(38).
وعــــن أبي جُحيفة - رضي الله عنه - قال: كان يقال: جالس الكبراءَ، وخالِلِ العلماءَ، وخالِطِ الحكماء(39).
وأيضاً يـمـكـن اســتـمــداد هــذه الثقافة والتجربة من الكثير من مراجع التاريخ القريب أو البعيد؛ فإنه كما قال الـسـخــاوي: "من عرفه كمن عاش الدهر كله وجرب الأمور بأسرها وباشر تلك الأحوال بنفسه، فيغزر عقله، ويصير مجرباً غير غر ولا غمر"(40).
الثاني: الثقافة العامة، بمعنى:الاطلاع السريع على العلوم الأساسية الطبيعية أو الإنسانية وأحدث التطورات العامة فيها.
ويمكن جمع الفوائد التي تعود على المربي من هذين المجالين في النقاط الآتية:
1- مـعـرفـة سبل الخير وسبل الشر، وكيف يُسلك كلٌ منها. يصف ابن القيم - رحمه الله - حال المؤمــن المُجرب الذي يعرف الخير والشر كليهما فيقول: "وهذه حال المؤمن: يكون فطناً حاذقاً أعــــرف الناس بالشر وأبعدهم عنه، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته وعرفت طويته رأيته من أبر الناس"(41).
2 - توسيع المدارك وتـعـمـيـق الأفـهام وتنشيط العقول: فهذه الثقافات من شأنها أن تنمي قدرة المربي على التفكير، وعلى الـقـياس المستقيم، وربط الأسباب بمسبباتها، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في فائدة الاطلاع على مختلف العلوم كلاماً نفيساً: "ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم الصحيح والقضايا الصحيحة الصادقة والقياس المستقيم؛ فيكون في ذلك تصحيح الذهن والإدراك"(42).
3 - زيادة قدرة المربي على الـتـحــــدث والحوار الثنائي أو الجماعي؛ فالمربي يتعامل مع عقول مختلفة وثقافات متنوعة يـحـتاج إلى التواصل معها بكفاءة، والمربي محدود الثقافات أشبه شيء بمذياع الشيوعية القديم لـيـس فـيه إلا محطة واحدة: إما أن تسمعها أو تغلقه، بينما المربي متنوع الثقافات: متعدد الموجات؛ فاحتمال غلقه غير وارد.
4 - فهم ظروف المتربين المختلفة اجتماعــيــاً واقتصادياً وثقافياً؛ انطلاقاً من فهمه لأحوال المجتمع الذي يعيشون فيه والتي تمثل الخلفية الدافعة للكثير من أقوالهم وتصرفاتهم.
أما النوع الثاني: - وهي الثقافة والتجربة التـربـويـة - فلا غنى عنها للمربي؛ فهي التي تصبغه بهذه الصبغة بداية وعن طريقها يتعرف مـنـهــج الـتـربـيـة وما يتضمنه من أهداف التربية ووسائلها ومراحلها وأساليبها ومشكلاتها ونحوه، وهو يتعرف على ذلك بوصفه إما كـلامــاً نـظــرياً مجرداً يعرض المفاهيم والمبادئ، وإما وصفاً أو نقداً للمحاولات التطبيقية: ظروفها ونتائجها.
ويمكن استمداد تلك الثقافة والتجربة من مصدرين رئيسين:
الأول: الكتب (المصادر المقروءة): وهي مصدر أساس لتلقي المبادئ والمفاهيم التربوية، وكذا الـتـجـــــارب والخبرات التربوية. وهنا وقفة وهي: أنه قد يتحرَّج بعضٌ من الاستفادة من الكتب الدعوية الكثيرة التي تنقل خبرات وتجارب العديد من الدعوات والدعاة، وهذا أمر غير مـسـتـقـيـم؛ فـالحـكـمــة ضالة المؤمن، ومن العار أن تمنعنا مشاعر التعصب أو أخطاء الآخرين من الاستفادة من تـلـك الـتـجـــارب؛ خاصة أن ذلك لا يعني إعطاءها الصلاحية المطلقة، بل كلا الأمرين وارد، ومفيد أن نعرف تجربة الصواب وتجربة الخطأ.
قال الإمام أحمد - رحمه الله -: سمعت أن قَلَّ رجل يأخذ كتاباً ينظر فيه إلا استفاد منه شيئاً(43).
الثاني: الـسـمـــاع والممارسة: والسماع يعني أن يسعى المربي للاستفادة من تجارب المربين الأقران له والسابقين عليه، مع إعطاء أهمية خاصة لقدامى المربين.
والممارسة تعني: أن ينـتـفـع الـمـربــي من تجربته الذاتية في العمل التربوي، فيستفيد من أخطائه وإصاباته السابقة فيما يُسـتـجـد من أعماله اللاحقة، وكما قيل: من التوفيق حفظ التجربة.
الصفة الرابعة: العمق الإيماني:
ونـعـني به ذلك النور وتلك الجاذبية التي تصدر عن المؤمن مع صلاح باطنه وقربه من الله - عـــز وجــل - فينعكس ذلك على جوارحه وعلى كلامه وأفعاله، والمربي إن كان كذلك فهو لإخوانـه بمثابة البحر العميق تمخر فيه كبار السفن هادئة مستقرة، بينما الماء الضحل لا يسلك فـيـه مركب صغير فضلاً عن كبارها، وقد كان السلف يهتمون بذلك ويُرجعون كل قصور عن بـلـــوغ الكلام مراميَه في القلوب إلى ضعف القلب الصادر عنه قبل اتهام قلــوب السامعين. قال الحسن ـ وقــد سمع متكلماً يعظ فلم تقــع مـوعظته من قلبه ولم يرقَّ لها -: يا هذا! إن بقلبك لشراً أو بقلبي(44).
فتحقيق هذا العمق الإيماني إذن لا يكون بالكلام، أو بالتكلف والتحلي الزائف، بل ليس له إلا طريق واحد هو الإخلاص لله - عز وجل - والتقرب إليه - سبحانه - فإذا اقترب المربي من ربه اقتربت منه قلوب العباد، وإن ابتعد عن ربه بعدت عنه القلوب.
ومن أروع المشاهــد التربوية الإيمانية التي تصور لنا أثر العمق الإيماني على التربية، ذلك المشهد الذي رسـمـــه ابن القيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله - يقول: وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة(45).
الهوامش:
(1) دراسات في النفس الإنسانية، محمد قطب، ص379.
(2) البخاري ، ح/6498، ومسلم، ح/2547.
(3) البداية والنهاية لابن كثير، ج/9/317.
(4) دراسات في النفس الإنسانية، ص382.
(5) حلية الأولياء، ج/6/316.
(6) حلية طالب العلم، بكر أبو زيد، ص45.
(7) المصدر السابق، ص59.
(8) اقتضاء العلم العمل، ص90.
(9) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة،ص28.
(10) النظم التعليمية عند المحدثين، المكي أقلانية، ص93.
(11) المصدر السابق، ص82.
(12) التذكرة، ص16.
(13) سير أعلام النبلاء، ج9، ص201.
(14) الجامع لآداب الراوي والسامع، الخطيب البغدادي، ج/1/336.
(15) صحيح الأدب المفرد، ص294.
(16) القاموس المحيط، ص197.
(17) المصدر السابق، ص1734.
(18) الإعلام، ص139.
(19) يمكن أن يراجع في ذلك كتب كثيرة مثل: (مختصر منهاج القاصدين ربع العبادات، تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة، ورسالة تقرير ميداني، لمحمد الراشد).
(20) القاموس المحيط، ص1706.
(21) فضائح الفتن،ص5.
(22) تفسير ابن كثير، ج4، ص198.
(23) العقلاء لابن أبي الدنيا رقم 742.
(24) سير أعلام النبلاء، ج6،ص366.
(25) رسالة للمحاسبي، ص:60.
(26) سير أعلام النبلاء، ج14، ص394.
(27) لباب الآداب، ص: 227.
(28) البخاري، ح/520، ومسلم، ح/1599.
(29) الأعلام، ص143.
(30) سير أعلام النبلاء، ج 14، ص35.
(31) التذكرة، ص50.
(32) حلية الأولياء، ج14، ص35.
(33) الإعلام، ص206.
(34) شعب الإيمان للبيهقي، ج2/291.
(35) حسن صحيح الجامع للألباني، ص461،ج1.
(36) الفتح الرباني، ص22.
(37) سير أعلام النبلاء، ج/9/228.
(38) فيض القدير للمناوي، ج/3/220.
(39) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، ج/1/126.
(40) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ـ السخاوي.
(41) مفتاح دار السعادة، ج/1/295.
(42) الفتاوي، ج9/128.
(43) صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، عبد الفتاح أبو غدة، ص1.
(44) البيان والتبيين للجاحظ، ص59.
(45) الوابل الصيب، ص 45.