القدرة الرابعة: الاحتواء النفسي:
وهو أن تنشأ بين المربي والمتربــي علاقة نفسية قلبية قوية من الحب في الله، يكون المربي هو المُوَجِّه فيها بحيث يرتبط المتـربــــي به ارتباطاً نفسياً يرفع من مستوى قبوله وامتثاله لتوجيهات مُربيه ويُيسر عملية التربية.
ويمكن تلخيص كيفية اتصاف المربي بـهـــــذه القدرة في: أن يهتم بالتفعيل القوي لحقوق الأخوة بمعناها الشامل، مع التركيز على الجـــــوانب ذات التأثير النفسي القوي، حتى يكون له تواجد مؤثر على خريطة المتربي النفسية - بدون اقتحام فيما لا يعنيه -.
والمربي يلزمه قبل ذلك أن يتحلى بأمور لها تأثير فعال على تحقق هذا الاحتواء النفسي - وإن كانت غير مباشرة - وهذه الأمور مثل: حرصــه على أن يتصف بسلامة النية وتجنب المسالك الملتوية في التعامل مع الناس. يقول ابن حــــزم: "احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفَّظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون منك"(22).
وأيضاً يتصف بحسن معامـلة الناس، فيعاملهم بمكارم الأخـلاق، والإيثار وترك الاستئثار، والتحلي بالإنصاف وترك الاستنصاف، وشكر التفضل(23)، مع التنزه عن الاستعانة بأحد من تلاميذه في مصلحة خاصـة به، "وقد كان منصور بن الـمـعتمر لا يستعين بأحد يختلف إليه - يعني لطلب العلم - في حاجة"(24) وغيرها من الصفات المشابهة.
وبتأملنا مسلك السلف في التعامــل مع تلاميذهم يتبين لنا أنــــــه كان لهم منهج واضح في مشاركة تلاميذهم مشاكلهم وسعيهم في مساعدتهم؛ بحيث إن الشيخ كان له تأثير عظيم في نفسية تلميذه وهذه بعض ملامح هذا المنهج:
\ كانوا يُظهــرون الاهتمام والإقبال على جلسائهم وتلاميذهم: يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أكرم الناس جليسي الـذي يتخطى رقاب الناس إليَّ، لــــو استطعت أن لا يقع الذباب عليه لفعلت"(25).
\ الاهـتـمـام بالتعرف عليهم وعلى ظروفهم. يقول ابن جماعة: "وينبغي أن يتعلم أسماءهم وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم ويكثر الدعاء لهم بالصلاح"(26).
\ الحنو علـيـه والرفق به، يقول ابن جماعة: "ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنو والشفقة عليه والإحسان إليه"(27).
\ مساعدته في تذليل الصعاب والتغلب على الظروف المعوقة لطلب العلم، ومن ذلك أن أسد بن الفرات كـــان يريد السـمـاع على محمد بن الحسن الشيباني، فحضر إليه وقال: "إني غريب - من القيروان - قليل النفقة والسماع منك نَزْر، والطلبة عندك كثير، فما حيلتي؟ فقال له: اسمع مع العراقيين بالـنـهـــــــار، وقد جعلت لك الليل وحدك، فتبيت عندي وأسمعك، قال أسد: وكنت أبيت عنده ويـنــزل إليَّ، ويجعل بين يديه قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل ونعست، ملأ يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه، حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه. كما كان يتعهده بالنفقة إذا نَفدت نفقته"(28).
ثالثاً: مقومات الاستمرار:
وهذه المقومات يجمعها لفظ الصبر، ويُفَرِّقُها وينوعها مجالاته.
ولأن العمل التربوي هو في مجمله محاولة للتأثير في نفس وسـلـوك الإنسان فإن ذلك يقترن - ولا بد - بكمٍّ من الصعوبات والمعوقات - تـنـبـعــث مـــــن تعقد النفس البشرية وتردِّي الظروف المحيطة - تحتاج من المربي أن يعالج نفسه بالصبر ليقدر على مواصلة الجهد - وبالمستوى نفسه إن لم يكن أرقى - وإن من أهم الوسائل التي تُـعـين المربي على التصبر أن يتذكر دائماً اقتران الأجر الأوفى بالصبر، وكذا اقتران النتائج الكبيرة به أيضاً، كما يتذكر أن الله - سبحانه وتعالى - قد ذكر على لسان نبيه أن أحب العـمــــل إليه ما استمر عليه صاحبه ولم يقطعه وصبر عليه وإن قلَّ؛ لأنه بذلك تزداد احتمالات الــوصـــــول للأهداف الموضوعة لهذا العمل:(( واصبر نفـسـك مـع الـذيـن يـدعــون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم ...)) [الكهف: 28].
ولـيـتـأمل المربي في واقعنا العام والعمل الإسلامي على وجه الخصوص، ليجد هناك ظاهرة فوضويــــة تشوب الكثير من أعمالنا، وهي ظاهرة أحجار الأساس؛ حيث نكتفي في أعمالنا بوضع حجر الأساس ولا بأس بحجر آخر أو حجرين معه - ونعتبر ذلك إنجازاً -.
إنـهـــا ظـاهرة الأعمال المبتورة التي لا تكتمل؛ ولو أجرينا إحصاءاً لمرات البدء في الأعمال المختلفة في مــيـدان العمل الإسلامي ثم أحصينا كم من الأعمال بلغت منتصف الطريق، ثم تفقدنا الأعـمــال الـتي بلـغـت نهايتها المرجوة أو كادت، فكم يا تُرى يكون حجم التفاوت العددي في الحالات الثلاث؟!
فـالمــربي يحتاج إذن إلى الصبر وإلى مجاهدة النفس عليه في مجالات كثيرة، أهمها: الصبر على البذل والتضحية.
والمربي يحـتـاج إلى مداومة البذل والصبر عليه، البذل من وقته وراحته وبيته وماله، وقد سبق كيف كــان السلف ينفقون من أموالهم على تلاميذهم - خاصة النجباء منهم - وعدم تضجرهم من ذلك إن استطاعوا.
وقال محمد بـن ســــلام - شيخ البخاري - "أنفقت في طلب العلم أربعين ألفاً، وأنفقت في نشره أربعين ألفاً"، ومــثـل هذا - ولا شك - يحدث كثيراً في عصرنا ولكن بقلب "أنفقت" إلى "جمعت".
وكـان الـنـبـي صـلـى الله عـلـيه وسلم يجتمع بالصحابة في دار الأرقم لتعليمهم وتربيتهم، وأحياناً بمنزله صلى الله عليه وسـلـم ، ثـم كــان الصحابة يفتحون بيوتهم لتلامذتهم مثل عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - ومن بــعـده مـالـك بن أنس، وقبيصة بن ذؤيب، وأبي غطفان بن طريف المري... وغيرهم كثير(29)، وقد مر كيف فتح محمد بن الحسن بيته لابن الفرات فكان يؤويه ويعلمه وينفق عليه.
والـمـربي أيـضــاً يـحـتـاج إلى الـصبر على تأخر ثمرة العمل التربوي - نسبياً - فضلاً عن احتمالات ضياع بعضها أو تلفها.
ويحـتـاج أيـضــــاً إلى الصبر على جفاء بعض الطباع وخشونة التعامل؛ فهذا نبينا - عليه الصلاة والسلام - وقد أقيمت الصلاة حين يأتي أعرابي فيأخذ بثوبه ويقول: إنما بقي من حاجتي يسيرة وأخــاف أنساها، فيقوم صلى الله عليه وسلم معه حتى يفرغ من حاجته - والصلاة مقامة - ثم أقبل فصلى(30).
وقد ذكر ابن جماعة أن من أدب المعلم مع تلميذه: "الصبر على جفاءٍ ربما وقع منه أذى لا يكاد يخلو الإنسان عنه، وسوء أدب في بعض الأحيان، ويبسط عذره بقدر الإمكان، ويوقفه مع ذلك على ما صـــدر مــنـه بـنـصـــــح وتلطف لا بتعنيف وتعسف، قاصداً بذلك حسن تربيته"(31).
وأخيراً: نختم بذكر الأمر الثاني الذي ينبغي توافره في النموذج المعتدل للمربي، وهو: أن يكون تحقق الصفات والمؤهلات السابقة فيه حدٌّ أدنى لا يتأهل الداعية بالنزول عنه للعمل التربوي.
وهنا ملاحظات غير عابرة:
أولاً: هــذا الحد الأدنى يختلف باختلاف الظروف والأحوال؛ فهو يتغير من بيئة دعوية إلى أخــــرى، وحــسـب تعقُّد العمل وتوفر الكفاءات، كما أنه يتغير بتغير حجم المسؤولية التربوية؛ فالذي يتولـى تربـيـة عدد كبير ليس كمن يعمل مع أشخاص محدودين، كما أن الذي يربي أشخاصاً حديثي عهد بالدعوة، ليس كمن يعمل مع دعاة متمرسين.
ثانياً: لتحقيق قدر من المرونــة والواقعية - ونظراً لضعف عملية التنمية البشرية - قُسمت المقومات وفق ابتداء تأثيرهــا، وهذا يعني أن أهمية تحقق كل قسم منها في بداية العمل في شخص المربي متفاوتة؛ فمقومــات الـبـدء لا مـفـر من تحققها تماماً - وفق البند السابق - ومقومات الإتقان يمكن التجاوز فيها قليلاً، على أن يبدأ سد الخلل فيها بعد البدء مباشرة وإلا ظهر أثر ذلك على العمل التربوي.
وأما مقومات الاستمرار فيمكن العمل على تنميتها وترسيخها أثناء ممارسة العمل التربوي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
(1) التذكرة ، ص 63.
(2) التذكرة ، ص 56.
(3) الأذكياء ، ابن الجوزي ، ص 24.
(4) صفحات من صبر العلماء ، ص 200 الهامش .
(5) التذكرة ، ص 105 الهامش .
(6) القاموس المحيط ، ص 977.
(7) مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والساسي ، د. حسن وجيه ص 28.
(8) المستطرف ، ص 91.
(9) علم التفاوض ، ص 203.
(10) المصدر السابق ، ص 27.
(11) النظم التعليمية ، ص 69.
(12) فتح الباري ، ص 177.
(13) صحيح الأدب المفرد ، البخاري ، بتحقيق الألباني ، ص 237.
(14) صفحات من صبر العلماء ، ص 151.
(15) حلية الأولياء ، ج7/70.
(16) الزهد للإمام أحمد ، ص 289.
(17) البخاري ، ح/59.
(18) فتح الباري ، ص175-176.
(19) المصدر السابق ، ص176.
(20) مسلم ، ح/3520.
(21) الخطيب البغدادي في تاريخه ، ج13/338.
(22) مداواة النفوس ، لابن حزم ، ص71.
(23) التذكرة ، ص23.
(24) التذكرة ، ص19.؟
(25) التذكرة ـ، ص49.
(26) المصدر السابق ، ص60.
(27) المصدر السابق ، 49.
(28) صفحات من صبر العلماء ، ص119.
(29) النظم التعليمية ، ص40.
(30) صحيح الأدب المفرد ، ص120.
(31) التذكرة ، ص49-50.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (143-144 )، رجب - شعبان 1420،نوفمبر - ديسمبر 1999 .