ذكر الطي والنشر
( والطي والنشر والتغيير مع قصر ... للظهر والعظم والأحوال والهمم )
الطي والنشر هو أن تذكر شيئين فصاعدا إما تفصيلا فتنص على كل واحد منهما وإما إجمالا فتأتي بلفظ واحد يشتمل على متعدد وتفوض إلى العقل رد كل واحد إلى ما يليق به لا أنك تحتاج أن تنص على ذلك ثم إن المذكور على التفصيل قسمان قسم يرجع إلى المذكور بعده على الترتيب من غير الأضداد لتخرج المقابلة فيكون الأول للأول والثاني للثاني وهذا هو الأكثر في اللف والنشر والأشهر وقسم على العكس وهو الذي لا يشترط فيه الترتيب ثقة بأن السامع يرد كل شيء إلى موضعه تقدم أو تأخر
أما المذكور على الإجمال فهو قسم واحد لا يتبين فيه ترتيب ولا يمكن عكسه ومثاله أن يقول لي منه ثلاثة بدر وغصن وظبي
فحصل من هذا أن اللف والنشر على ثلاثة أقسام وإذا كان المفصل المرتب في اللف والنشر هو المقدم نبدأ بشواهده
فمنه بين شيئين قوله تعالى ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) فالسكون راجع إلى الليل والابتغاء راجع إلى النهار
ومنه قول الشاعر
( ألست أنت الذي من ورد نعمته ... وورد راحته أجني وأغترف )
وقد جمع هذا البيت مع حشمة الألفاظ بين جناس التحريف والاستعارة واللف والنشر
وما ألطف قول شمس الدين محمد بن دانيال الحكيم
( ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ومن بختي )
( قد بعت عبدي وحماري وقد ... أصبحت لا فوقي ولا تحتي )
ومن غراميات البهاء زهير
( ولي فيك قلب بالغرام مقيد ... له خبر يرويه طرفي مطلقا )
( ومن فرط وجدي في لماه وثغره ... أعلل قلبي بالعذيب وبالنقا )
ومثله قوله
( يا ردفه يا خصره ... من لي بنجد أو تهامه )
ومثله قول ابن نباتة
( له قلب ولي دمع عليه ... فهذا قاسيون وذا يزيد )
ومثله قوله مع زيادة التورية
( لا تخف عيلة ولا تخش فقرا ... يا كثير المحاسن المختاله )
( لك عين وقامة في البرايا ... تلك غزالة وذي فتاله )
ومثله قوله مع زيادة التورية
( سألته عن قومه فانثنى ... يعجب من إسراف دمعي السخي )
( وأبصر المسك وبدر الدجى ... فقال ذا خالي وهذا أخي )
ولابن حيوس بين ثلاثة وثلاثة
( ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كاسه الملأى وعن إبريقه )
( فعل المدام ولونها ومذاقها ... من مقلتيه ووجنتيه وريقه )
ومثله قول ابن الرومي
( آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم )
( منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم )
ومثله قول حميدة الأندلسية وهو
( ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار )
( غزوناهم من ناظريك وأدمعي ... وأنفاسنا بالسيف والسيل والنار )
قال الشيخ شهاب الدين أبو جعفر الأندلسي نزيل حلب وقد أورد هذين البيتين في شرحه على بديعية صاحبه أبي عبد الله محمد بن جابر الأندلسي إن حميدة كانت من ذوي الألباب وفحول أهل الآداب حتى إن بعض المنتحلين تعلق بهذه الأهداب وادعى نظم هذين البيتين لما فيهما من المعاني والألفاظ العذاب وما غره في ذلك إلا بعد ديارها وخلو هذه البلاد من أخبارها وقد تلبس بعضهم بشعارها وادعى هذا من أشعارها وهو قولها
( وقانا لفحة الرمضاء روض ... وقاه مضاعف الطل العميم )
( تظل غصونه تحنو علينا ... حنو الوالدات على الفطيم )
( وأسقانا على ظمإ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم )
( تروع حصاه حالية الغواني ... فتلمس جانب العقد النظيم )
فهذه الأبيات نسبوها إلى المنازي من شعرائهم وركبوا التعصب في جادة إدعائهم وهي أبيات لم يحكها غير لسانها ولا رقم بردها غير حسانها وقد رأيت بعض المؤرخين من أهل بلادنا أثبتوها لها قبل أن يخرج المنازي من العدم إلى الوجود ويتصف بلفظه الموجود
انتهى كلام الشيخ شهاب الدين المذكور
ومنه بين ثلاثة وثلاثة قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى وعفا عنه آمين
( عرج على حرم المحبوب منتصبا ... لقبلة الحسن واعذرني على سهري )
( وانظر إلى الخال فوق الخد تحت لمى ... تجد بلالا يراعي الصبح في السحر )
ومنه بين أربعة وأربعة
( ثغر وخد ونهد واحمرار يد ... كالطلع والورد والرمان والبلح )
ومثله قول شمس الدين بن العفيف رحمه الله تعالى
( رأى جسدي والدمع والقلب والحشا ... فأضنى وأفنى واستمال وتيما )
ومثله قولي من قصيدة
( من محياه والدلال ومسك الخال ... والثغر يا شيوخ البديع )
( انظروا في التكميل واللف والنشر ... وحسن الختام والترصيع )
وللشيخ شهاب الدين أبي جعفر الشارح المذكور بين خمسة وخمسة ولكن لم يخل من التعسف وهو
( ملك يجيء بخمسة من خمسة ... كفى الحسود بها فمات لما به )
( من وجهه ووقاره وجواره ... وحسامه بيديه يوم ضرابه )
( قمر على رضوى تسير به الصبا ... والبرق يلمع من خلال سحابه )
ولابن جابر ناظم البديعية بين ستة وستة
( إن شئت ظبيا أو هلالا أو دجى ... أو زهر غصن في الكثيب الأملد )
( فللحظها ولوجهها ولشعرها ... ولخدها والقد والردف أقصد )
صبرنا على الأملد صفة الكثيب ولكن لم نصبر على دخول القصد فإنها زيادة أجنبية
وقد جمع قاضي القضاة نجم الدين عبد الرحيم بن البارزي بين سبعة وسبعة
( يقطع بالسكين بطيخة ضحى ... على طبق في مجلس لأصاحبه )
( كبدر ببرق قد شمسا أهلة ... لدى هالة في الأفق بين كواكبه )
قال شهاب الدين المذكور في شرح بديعية صاحبه ابن جابر إن اللف والنشر في هذين البيتين غير كامل التفصيل
لأنه نص في اللف على ستة ونص في النشر على سبعة وكل منهما راجع إلى منصوص عليه في اللف إلا الأهلة فإنه راجع إلى الأشطار وهي غير مذكورة في اللف
قلت هذا يفهم من قوله يقطع
قال الشيخ شهاب الدين قوله ضحى في بيت اللف مطرح لا نظير له في النشر
قلت ضحى ليس لها في الحسن نظير فإنه جعل البطيخة شمسا وهي أنور من قول صاحبه في بيته أملد وأقصد
فإنه لم ينص عليهما في اللف وهما أجنبيان مما نحن فيه
ووصلوا في الجمع بين اللف والنشر المفصل المرتب إلى اثني عشر
لكن تكلفوا وتعسفوا وأتوا به في بيتين ولم تسفر لهم وجوه المعاني المسفرة عن بهجة
ولابن بلدتنا الشيخ علاء الدين بن مقاتل مالك أزمة الزجل وقد تقدم ذكره في ما أوردته له من أزجاله على الجناس المقلوب واللفظي الجمع في اللف والنشر بين ثمانية وثمانية مع عدم الحشو والفرار من التعسف وصحة الانسجام
( خدود وأصداغ وقد ومقلة ... وثغر وأرياق ولحن ومعرب )
( فورد وسوسان وبان ونرجس ... وكاس وجريال وجنك ومطرب )
ومما سمعت في هذا النوع وفيه الجمع بين عشرة وعشرة قول بعضهم
( شعر جنين محيا معطف كفل ... صدغ فم وجنات ناظر ثغر )
( ليل صباح هلال بانة ونقا ... آس أقاح شقيق نرجس در )
وجل القصد هنا أن يكون اللف والنشر في بيت واحد خاليا من الحشو وعقادة التركيب جامعا بين سهولة اللفظ والمعاني المخترعة
انتهى الكلام على اللف والنشر المفصل المرتب
وأما القسم الذي هو العكس أعني غير المرتب فكقول الشاعر
( كيف أسلو وأنت حقف وغصن ... وغزال لحظا وقدا وردفا )
فعدم الترتيب ظاهر في البيت وأما القسم المذكور على الإجمال فهو قسم واحد
لا يتبين فيه ترتيب ولا عكس كما تقدم ومثله قول ابن سكرة في بيت الكافات الشتائية
( جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا )
( كن وكيس وكانون وكاس طلا ... مع الكباب وكس ناعم وكسا )
وظريف هنا قول من قال
( جاء الصفاع وعندي من حوائجه ... سبع إذا الصفع في ميدانه وقفا )
( نطع وطرق وزريوك وغاشية ... وركوة وجراب ناعم وقفا )
ففي قوله بعد ما ذكره من آلات الصفع وقفا
غاية في اللطف وقوة في تمكين القافية
انتهى الكلام على اللف والنشر المفصل المرتب وعلى غيره
وأما أصحاب البديعيات فإنهم ما نظموا إلا المفصل المرتب لأنه المقدم عند علماء البديع في هذا الباب ولم يأتوا به إلا في بيت واحد بحيث يكون مثالا شاهدا على هذا النوع وماشيا على سنن الأبيات المفردة المشتملة على أنواع البديع وبيت صفي الدين غاية في هذا الباب لما اشتمل عليه من السهولة والرقة وعدم الحشو وهو قوله
( وجدي حنيني أنيني فكرتي ولهي ... منهم إليهم عليهم فيهم بهم )
والعميان لم يأتوا بهذا النوع إلا في بيتين مع عقادة التركيب
ولقد حبست عنان القلم عن الكلام عليهما لكونهما من جملة مديح النبي وهما
( حيث الذي إن بدا في قومه وحبى ... عفاته ورمى الأعداء بالنقم )
( فالبدر في شبهه والغيث جاد لذي ... محل وليث الشرى قد جال في الغنم ) وبيت عز الدين الموصلي
( نشر ويسر وبشر من شذا وندى ... وأوجه فتعرف طي نشرهم )
قوله فتعرف طي نشرهم ليس له نص في اللف لأنه نص فيه على ثلاثة وعجز عن ترتيب اللف والنشر في نص اللف وعلى كل تقدير فلا بد له من تسمية النوع فسماه ولكن أتى به فضلة ولو التزم الشيخ صفي الدين أن يسمي هذا النوع البديعي في بيته لتجافت عليه تلك الرقة
( فالطي والنشر والتغيير مع قصر ... للظهر والعظم والأحوال والهمم )
فالطي والنشر في نص اللف قبالة الظهر والعظم والتغيير مع القصر قبالة الأحوال والهمم هذا مع زيادة العدة على الشيخ عز الدين وعدم التكلف ولولا الالتزام بتسمية النوع ومراعاة السهولة والانسجام وصلت إلى أكثر من هذه العدة