لونك المفضل

المنتديات الثقافية - Powered by vBulletin
 

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 38 من 38

الموضوع: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

  1. #21
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة الرابعة عشرة :
    اليوم غيرت في تسلسل الحلقات التي كنت قد أعددتها قبل هذا الشهر الكريم 00 فهذه قدمتها ، وأخرت الأخرى 0
    • معنى الصحة والمرض :
    الصحة والمرض درجات متباينة تختلف في الدوام والشدة ، وتتباين من شخص لآخر ، والصحة هي إحدى متع الحياة ، بينما المرض من عوامل شقاء الحياة وقساوتها 0 وليس الصحة Health مجرد خلو الجسم من المرض والاضطراب ، ولكنها يتكامل فيها الشعور بالكفاية والسعادة الجسمية والنفسية والاجتماعية 0 إنها حالة من التوافق التام بين الوظائف البدنية والنفسية المختلفة ، والقدرة على مواجهة الصعوبات مع الإحساس الإيجابي بالنشاط والحيوية 0 والصحة باعتبارها الخلو من المرض مع السلامة من كل علة في شعور نفسي بالسعادة هي إحدى متع الحياة وأهدافها المرحلية المتجددة 0
    تعريف منظمة الصحة العالمية ( World Health Organization ( WHO للصحة :
    هي حالة State من الرفاهة والسعادة Well-being والكفاية الجسمية والنفسية والاجتماعية التامة ، وليست مجرد غياب المرض أو العجز أو الضعف 0
    • معنى المرض :
    المرض Disease هو عكس الصحة ، ويُعرف طبياً بأنه أي شرط أو وضع Position Condition جسمي غير سوي 0 إن الاضطراب Disorder هو خلو النظام أو تعطيل له يحدث حالا ، ويؤدي إلى خلل في النظام وسيره الطبيعي 0 إن المرض أو الاضطراب هو : مجموعة أعراض Symptoms وعلامات Signs ( كضغط الدم وارتفاع درجة الحرارة ، والغثيان ، الإقياء والدوخة ) تجتمع معا لتكون ما يُسمى متلازمة Syndrome أو تناذر ، هذه المتلازمة أو التناذر لاجتماع الأعراض معا نطلق عليها اسم مرض أو اضطراب بعد فحصها وتشخيصها 0
    • الصحة والمرض على خط متصل :
    إن الصحة والمرض ليست مفاهيم منفصلة ، ولكنها متداخلة بحيث نتحدث عن درجات متفاوتة من الصحة والمرض 0
    ويرى أرون أنتو فسكي أن معظم الناس ينظرون إلى الصحة والمرض على أنهما نهايات وأطراف عبر متصل Continuum وأن الناس يقعون في درجات على هذين الطرفين وعبر هذا الخط المتصل 0 ويعني ذلك أن الصحة والمرض حالات نسبية تتوزع بشكل كمي على هذا المتصل ولكل فرد درجة ومركز عليه 0 إن الانتقال من المركز ( النقطة الحيادية ) إلى اليسار يعبر عن حالة متزايدة من تدهور الصحة وازدياد الأعراض والمرض 0 في حين التحرك باتجاه اليمين يعبر عن ازدياد درجة الصحة ويمكننا أن ندفع الشخص إلى مزيد من الصحة عن طريق برامج التوعية والتربية والوقاية والنمو المتكامل ( وهذا ما يركز عليه المنهج الوقائي Preventive والمنهج الإنمائي Devlopmental أما المنهج الذي نتبعه في تخفيف الأعراض عند الشخص والتخلص من المرض وإبعاده عن التوجه نحو اليسار فهو المنهج العلاجي Remedial 0
    • الصحة الجسمية والصحة النفسية :
    كل شخص منا قد عانى من الألم خلال حياته ، سواء آلام في الظهر أو صداع أو مغص أو أي ألم آخر ، وتعود الناس منذ القدم الاهتمام بصحة أبدانهم ، وهذا الاهتمام يتزايد يوما بعد يوم 0 وبالرغم من ذلك ولكن نلتقي ونواجه في حياتنا ، القلق ، والمنطوي ، والبائس ، والمتردد ، ونشكو مما يصدر من الأطفال والمراهقين من انحرافات وأنواع أخرى من السلوك ، ونسمع ونقرأ عن كثير من الاضطرابات النفسية 0 وأسباب الأمراض الجسمية يمكن اكتشافها وعلاجها ، وقد اهتم الناس منذ القدم بالجانب العضوي للصحة لأنه بالامكان قياسه واكتشافه والتعامل معه بدقة وموضوعية على العكس من الجانب النفسي للصحة ، حيث لا يخضع لمثل هذه الدقة في القياس 0 وبسبب ذلك حقق الطب تقدما كبيرا في فهم أسباب الأمراض الجسمية 0 إلا أن الصحة النفسية لم تلقى مثل هذا الاهتمام حتى وقت متأخر ، حين تطورت ميادين علم النفس واتبع المنهج العلمي والإحصائي ، والمقاييس النفسية لدراسة السلوك بأشكاله المختلفة وخاصة الاضطرابات النفسية وعلاجها 0
    • معنى الصحة الجسمية : Physical Health
    تُعرف الصحة الجسمية بأنها : التوافق التام بين الوظائف الجسمية المختلفة ، مع القدرة على مواجهة الصعوبات والتغيرات المحيطة بالإنسان ، والإحساس الإيجابي بالنشاط والقوة والحيوية 0 إذا حللنا هذا التعريف يتبين لنا أن الشخص الذي يتمتع بالصحة الجسمية لا بد أن تتوافر فيه السمات التالية :
    1ـ السمة الأولى : التوافق التام بين الوظائف الجسمية المختلفة 0 أي أن يقوم كل عضو في الجسم بوظيفته بطريقة سليمة تخدم حاجة الأعضاء الأخرى دون زيادة أو نقصان 0 فعندما يقوم كل من الجهاز التنفسي والجهاز الهضمي ، والبولي ، والقلب والدوراني بدوره بصوره سليمة في الجسم ، أدى هذا إلى صحة الجسم وقوته 0 وكل عضو من هذه الأعضاء يخدم العضو الآخر 0 وهذا هو المقصود بالتوافق بين الوظائف الجسمية 0 أما إذا قام أحد الأعضاء بنشاط أكبر أو أقل مما يتطلبه دوره 0 فسيؤدي هذا إلى المرض 0 فلو قام الجهاز البولي بنشاط أقل مثلا ، سيجعل الجسم غير متمكن من التخلص من الفضلات ، فيصاب بالمرض 0 ولو عجز الجهاز التنفسي عن القيام بدوره السوي ، أثر ذلك على نقاء الدم في الدورة الدموية ، ولو انخفض نشاط الغدة الدرقية أو زاد عن الحد الطبيعي الذي يحتاجه الجسم ، فإنه سيؤدي إلى اضطرابات متنوعة 0 وهكذا فإن التناسق الوظيفي والمتكامل Integration التام بين الوظائف الجسمية يعني أن تعمل جميعها متعاونة متفاعلة لصالح الجسم كله 0
    2ـ السمة الثانية : هي قدرة الجسم على مواجهة الصعوبات العادية المحيطة به ، وقدرته على مقاومة التغيرات المألوفة مثل حرارة الجو مثلا ، مقاومة الأمراض ( المناعة ) 0 والتكيف مع أنواع الأغذية 0 إن أساليب التوافق الجسمي لهذه التغيرات كثيرة ومعروفة مثل : ارتفاع درجة حرارة الجسم حين المرض ( وهذا إنذار للفرد للإسراع بالمعالجة ) 0 أو هجوم كريات الدم البيضاء على جرثومة ما من أجل حماية الجسم ، وكثرة إفراز العرق عند ارتفاع درجة الحرارة لتعيد للجسم تنظيم درجة حرارته 0
    3ـ السمة الثالثة للصحة البدنية : هي الشعور بالنشاط والقوة والحيوية ، وهذه السمة مرتبطة بدرجة وثيقة بالسمتين السابقتين 0 فلا يمكن للشخص أن يكون متمتعا بالصحة الجسمية إذا لم يكن هناك توافق بين وظائف أعضائه وأجهزته الجسمية ، ولم يكن قادرا على مواجهة التغيرات أو الصعوبات العادية التي يتعرض لها الجسم 0
    • معنى الصحة النفسية :
    هناك علاقة بين الصحة الجسمية والصحة النفسية وهي علاقة وثيقة ، فتعريف الصحة النفسية هو تعريف الصحة الجسمية نفسه ، مع إبدال كلمة ( نفسية ) بكلمة ( جسمية ) ، فالصحة النفسية هي : التوافق التام بين الوظائف النفسية المختلفة ، مع القدرة على مواجهة الأزمات والصعوبات العادية المحيطة بالإنسان ، والإحساس الإيجابي بالنشاط والسعادة والرضا 0 وهذا يعني أن الشخص الذي يتمتع بالصحة النفسية لا بد من توافر السمات التالية فيه :
    1ـ التوافق التام بين وظائفه الجسمية المختلفة : أي أن يكون هناك انسجام وتوافق بين كل وظيفة نفسية والوظائف الأخرى بحيث تخدم عملها دون زيادة أو نقصان 0 والوظائف النفسية هي : المقومات المعرفية العقلية ( إدراك ـ انتباه ـ تجريد ـ تخيل ـ تفكير ) والانفعالية ( سلوك اجتماعي وصداقات ، وتعاون ، واتجاهات ) 0 فالانسجام إذا يكون بين هذه المكونات جميعها في شخصيته ، بين ذاته المثالية وذاته الواقعية ، بين قدراته أو إمكاناته ، ومستوى طموحه ، بين حاجاته أو رغبته واتجاهاته 0 فإذا كان مستوى طموحه أعلى من قدرته أو كانت الفجوة كبيرة بين ذاته المثالية ( التي يرغب أن يكون ) وذاته الواقعية ، أو كان خوفا من مثير ما زائد أو أقل عن الحد الطبيعي الذي يتطلبه المثير أو الموقف ، أو كانت ذاكرته أقل أو أكثر من المعتاد عند الإنسان السوي 0 فإن هذه الحالات تؤدي إلى خلل في الصحة النفسية وتزيد من الاضطرابات النفسية 0
    2ـ قدرة الفرد على مواجهة الأزمات والصعوبات العادية المختلفة التي يمر بها : وهي كثيرة جدا هذه الأزمات والضغوطات التي يمر بها الإنسان وخاصة في هذا العصر الذي سُمي ( عصر القلق ) فالشخص المتمتع بالصحة النفسية هو القادر على مواجهة ضغوطات الحياة وأزماتها وحلها بصورة واقعية مثمرة ، وليس أن يتهرب منها 0
    3ـ الإحساس بالسعادة والرضا والحيوية : والمقصود بذلك : أن يكون الفرد متمتعا بعلاقاته مع الآخرين ، راضيا عن نفسه ، وسعيدا وليس متذمرا كارها لها 0 ويرتبط هذا الشعور بالسمتين السابقتين 0 فلا يمكن للفرد أن يكون سعيدا وراضيا ، إلاّ إذا كان هناك توافق بين وظائفه النفسية ، وقادرا على مواجهة الأزمات والصعوبات التي يمر بها 0
    • تعريف الصحة النفسية :
    1ـ تعني أن يكون الإنسان سعيد ، وعلى علاقة طيبة بأسرته ، ومحبوبا من المحيطين به ، وناجحا في عمله ومتفائلا بمستقبله 0 وهذا ما يصعب الوصول إليه 0 فمن الناس من يقترب إلى تمام الصحة النفسية ، ومنهم من يصل إلى درجات قليلة أو كثيرة 0 والعكس من ذلك يكون المرض النفسي 0 ( خليل ، 1982) 0
    2ـ حين نسعى وراء تحديد لمفهوم الصحة النفسية نجد أنفسنا أمام أكثر من تعريف واحد ، وتجاه أكثر من تحفظ ، ولكن نستطيع القول أنها : حالة إيجابية توجد عند الفرد ، وتكون في مستوى قيامه 0 ( الرفاعي ، 1987 ) 0
    3ـ الصحة النفسية : هي حالة دائمة نسبيا يكون فيها الفرد متوافقا نفسيا ( شخصيا وانفعاليا واجتماعيا ، أي مع نفسه ومع بيئته ) ويشعر فيها بالسعادة مع نفسه ومع الآخرين ، ويكون قادرا على تحقيق ذاته واستغلال قدراته وامكاناته إلى أقصى حد ممكن ، ويكون قادرا على مواجهة مطالب الحياة وتكون شخصيته متكاملة سوية ، ويكون سلوكه عاديا بحيث يعيش في سلامة وسلام 0 ( زهران ، 1988 ) 0
    4ـ الصحة النفسية عموما هي : حالة السلامة المتكاملة في النواحي الجسمية والذهنية والانفعالية والاجتماعية ـ فالصحة ليست مجرد الخلو من الأمراض والانحرافات والتشوهات ، كما أنها ليست مجرد الخلو من الأمراض الجسمية وحدها ـ بل هي صحة في جميع جوانب التكوين الإنساني خلوا من مرض مع اللياقة البدنية والقدرات النفسية والذهنية المتوافقة والنشيطة في حياة اجتماعية سليمة منتجة ، ( هذه الصحة عموما ) 0
    أمّا الصحة النفسية فإنها حالة دائمة نسبيا يكون معها الفرد الإنساني متوافقا نفسيا في قرارة ذاته ويشعر معها بالسعادة مع نفسه ومع الآخرين بحيث يكون قادرا على مواجهة مطالب الحياة ومشكلاتها في سلوك عادي 0 ( الهاشمي ، 1986 )
    5ـ الصحة النفسية هي : أعلى مستوى من التكيف السلوكي والانفعالي ، وليس مجرد الخلو من المرض أو الاضطراب 0 ( ( Reben ,19850
    6ـ الصحة النفسية : هي حالة ـ عقلية انفعالية سلوكية ـ إيجابية ، وليست مجرد الخلو من الاضطراب النفسي ، دائمة نسبيا ، تبدو في أعلى مستوى من التكيف النفسي والاجتماعي والبيولوجي حين تفاعل الفرد مع محيطه الداخلي ( ذاته ) ومحيطه الخارجي ( الاجتماعي والفيزيقي الطبيعي ) وحين تقوم وظائفه النفسية بمهماتها بشكل متناسق ومتكامل ضمن وحدة الشخصية 0 ( عبد الله ، 2001 ) 0
    وأرى أن الصحة النفسية هي : قدرة الإنسان على التكيف و التوافق مع المجتمع الذي يعيش فيه وعدم الشذوذ عنه وعدم مخالفته ، مع قدرته على التطور ، وقدرته على الحب وعلى العمل أي ( حب الفرد لنفسه وللآخرين على أن يعمل عملا بناء يستمد منه البقاء لنفسه وللآخرين ) 0
    الإسلام والمرض النفسي :
    سؤال : هل يمرض المسلم ؟
    جواب : نعم المسلم يمرض بالمرض النفسي كغيره من البشر وذلك لجملة أسباب: أ ـ أنه إنسان ، والإنسان معرض للمرض الجسمي والنفسي لأن المرض أحد مخلوقات الله وأسبابه سبحانه وتعالى في تكييف هذا الكون وضبطه 0 فكم خلال المرض يموت بعض البشر ، ومن خلال وجود المرض يرتزق بعض البشر ومن خلال وجود المرض يتعب بعض الأفراد سواء كانوا مرضى أو من أهل المرضى 0 ب ـ أن المرض النفسي كغيره من الأمراض له أسبابه الجسمية البيولوجية وأسبابه النفسية وأسبابه الاجتماعية ويتعرض المسلم لهذه الأسباب كغيره من البشر0 ج ـ أن الوسائل الدفاعية التي تقي من المرض ومن بينها الإيمان بالله لا تكفي وحدها للوقاية تماما من المرض النفسي ولذلك يحدث المرض النفسي للمسلم- فلو نجحت وسائل الوقاية تماما لاختفى المرض من الحياة ولتغير قاموس الكون 0 د ـ أن كثير من الأمراض النفسية في المرض النفسي تتعرض للوظائف النفسية المعرفية والوجدانية والسلوكية وهي في هذا تختلط بالعمليات الإيمانية التي تتعرض لنفس الوظائف وعندما تحدث الأعراض النفسية للمؤمن يتصور أنها نتاج العملية الإيمانية ويصعب على الطيب النفسي أن يحكم في مثل هذه المواقف المتداخلة 0 غير أنه من الممكن أن يعتمد على المؤشرات الآتية للحكم بوجود المرض :
    أـ عدم الرضا عن الظاهرة من الفرد نفسه 0
    ب ـ عدم رضا المجتمع وعدم تقبله لهذه الظاهرة 0
    ج ـ تأثر إنتاجية الفرد تتجه لحدوث الظاهرة 0
    د ـ إن الإيمان عملية قلبية غيبية بالدرجة الأولى ، قال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } 0
    وباعتباره عملية قلبية غيبية فإنه لا يمكن قياسها أو الحكم على حقيقتها وبالتالي يصعب تحديد ما إذا كان الإيمان كافيا لدفع المرض على أساس واقعي أو تجريبي 0

  2. #22
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة الخامسة عشرة
    حاجة الإنسان إلى الصحة النفسية والقوة الروحية :
    وثمة حاجة أخرى إلى الدين : حاجة تقتضيها حياة الإنسان وآماله فيها ، وآلامه بها ، حاجة الإنسان إلى ركن شديد يأوي إليه ، وإلى سند متين يعتمد عليه ، إذا ألمت به الشدائد ، وحلت بساحته الكوارث ، ففقد ما يحب ، أو واجه ما يكره ، أو خاب ما يرجو، أو وقع به ما يخاف ، هنا تأتي العقيدة الدينية ، فتمنحه القوة عند الضعف ، والأمل في ساعة اليأس ، والرجاء في لحظة الخوف ، والصبر في البأساء والضراء ، وحين البأس 0 إن العقيدة في الله وفي عدله ورحمته ، وفي العوض والجزاء عنده في دار الخلود ، تهب الإنسان الصحة النفسية والقوة الروحية ، فتشيع في كيانه البهجة ، ويغمر روحه التفاؤل ، وتتسع في عينه دائرة الوجود ، وينظر إلى الحياة بمنظار مشرق ، ويهون عليه ما يلقى وما يكابد في حياته القصيرة الفانية، ويجد من العزاء والرجاء والسكينة ما لا يقوم مقامه ولا يغنى عنه علم ولا فلسفة ولا مال ولا ولد ولا ملك المشرق والمغرب 0 ورضي الله عن عمر إذ قال : " ما أصبت بمصيبة إلا كان لله علي فيها أربع نعم ، أنها لم تكن في ديني ، وأنها لم تكن أكبر منها ، وأنني لم أحرم الرضا عند نزولها ، وأنني أرجو ثواب الله عليها " 0
    أما الذي يعيش في دنياه بغير دين ، بغير إيمان ، يرجع إليه في أموره كلها وبخاصة إذا ادلهمت الخطوب ، وتتابعت الكروب ، والتبست على الناس المسالك والدروب ، يستفتيه فيفتيه ويسأله فيجيبه ، ويستعينه فيعينه ، ويمنحه المدد الذي لا يغلب ، والعون الذي لا ينقطع 0 إن الذي يعيش بغير هذا الإيمان يعيش مضطرب النفس ، متحير الفكر ، مبلبل الاتجاه ، ممزق الكيان ، شبهه بعض فلاسفة الأخلاق بحال ( راقاياك ) التعس ، الذي يحكون عنه أنه اغتال الملك ، فكان جزاؤه أن يربط من يديه ورجليه إلى أربعة من الجياد ، ثم ألهب ظهر كل منها ، لتتجه مسرعة ، كل واحد منها إلى جهة من الجهات الأربع ، حتى مزق جسمه شر ممزق 0 هذا التمزق الجسمي البشع مثل للتمزق النفسي الذي يعانيه من يحيا بغير دين ، ولعل الثاني أقسى من الأول وأنكى في نظر العارفين المتعمقين ، لأنه تمزق لا ينتهي أثره في لحظات ، بل هو عذاب يطول مداه ، ويلازم من نكب به طول الحياة 0 ولهذا نرى الذين يعيشون بغير عقيدة راسخة يتعرضون أكثر من غيرهم للقلق النفسي ، والتوتر العصبي ، والاضطراب الذهني ، وهم ينهارون بسرعة إذا صدمتهم نكبات الحياة ، فإما انتحروا انتحارا سريعا ، وإما عاشوا مرضى النفوس ، أمواتا كالأحياء 0 وهذا ما يقرره علماء النفس وأطباء العلاج النفسي في العصر الحديث وهو ما سجله المفكرون والنقاد في العالم كله 0 يقول المؤرخ الفيلسوف ( آرنولد توينبى ) : " الدين إحدى الملكات الضرورية الطبيعية البشرية ، وحسبنا القول بأن افتقار المرء للدين يدفعه إلى حالة من اليأس الروحي ، تضطره إلى التماس العزاء الديني على موائد لا تملك منه شيئا " 0 ويقول الدكتور ( كارل بانج ) في كتابه ( الإنسان العصري يبحث عن نفسه ) : " إن كل المرضى الذين استشاروني خلال الثلاثين سنة الماضية ، من كل أنحاء العالم ، كان سبب مرضهم هو نقص إيمانهم ، وتزعزع عقائدهم ولم ينالوا الشفاء إلا بعد أن استعادوا إيمانهم"0 ويقول ( وليم جيمس ) فيلسوف المنفعة والذرائع : " إن أعظم علاج للقلق ـ ولا شك ـ هو الإيمان" 0 ويقول الدكتور ( بريال ) : " إن المرء المتدين حقا لا يعاني قط مرضا نفسيا " 0 ويقول ( ديل كارنيجي ) في كتابه ( دع القلق وابدأ الحياة ) : " إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين ، كفيلان بأن يقهرا القلق ، والتوتر العصبي ، وأن يشفيا من هذه الأمراض " 0 وقد أفاض الدكتور( هنري لنك ) في كتابه ( العودة إلى الإيمان ) في بيان ذلك والتدليل عليه بما لمسه وجربه من وقائع وفيرة ، خلال عمله في العلاج النفسي 0

    الأسرة المستقرة نفسيا :
    ويوصي الإسلام بالأسرة المستقرة وينهي عن الانفصال بين الأزواج، ويضع قواعد الاستقرار ويضيق فرص الطلاق إلى أبعد درجة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبغض الحلال عند الله الطلاق ) 0 وقامت في الأيام الأخيرة علاجات شتى للأسرة وتقدم هذا النوع من العلاج، وأصبح له دوره الهام في العلاج النفسي عن طريق علاج الأسرة 0 ونجد أن القرآن الكريم يوصي عند بدء الشقاق والخوف من استفحاله في الأسرة بتدخل كبار أعضائها بالتوفيق بين الزوجين حفاظاً على كيان الأسرة واستقرارها النفسي الهام 0 ويقول سبحانه وتعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما }.
    ووضع الإسلام للأسرة مسئوليات وحمل كل أعضائها قسطأ من هذه المسئوليات وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته 000 الحديث ) 0 وحمل الأبناء مسئولية احترام الآباء والعطف عليهم ، وقرن عبادة الله عز وجل بالإحسان للوالدين في قوله تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً }وتبلغ التوصية بإكرام الوالدين أ قصاها من قوله تعالى حاضاً على استمرارية الاحترام والمعروف في علاقة الأبناء بالآباء : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً } وهذا هو قمة الحفاظ على العلاقات الأسرية لما لها من أهمية في ميدان الصحة النفسية.

    الإسلام والعمل: حث الإسلام على العمل ووضع له آداباً وقوانين عديدة ، وفضل العاملين على غير العاملين وأجزل الثواب للعاملين المحسنين، وحذر المتهاونين الكسالى قال تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } 0 وقال تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } 0 وحث على استمرارية الصبر في العمل وبين بجلاء أن الصبر كفيل بتحقيق وكفيل النجاح وكفيل بزيادة الإنتاج 0 ومعلوم أن الصبر من مقومات الصحة النفسية كما ينمي الطاقات البشرية ويزيد من رصيدها ومن إفراز المواد التي ، اكتشفت حديثاً والتي تزيل الآلام وتؤدي إلى استقرار الصحة النفسية 0

  3. #23
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة السادسة عشرة :

    كيف يحقق الإسلام الصحة النفسية ؟؟
    لعل في حديثنا السابق ما يبن رعاية الإسلام لصحة الإنسان النفسية ، ويحقق منهج الإسلام الصحة النفسية في بناء شخصية المسلم بتنمية هذه الصفات الأساسية أيضا وهي :ـ
    1ـ قوة الصلة بالله : وهي أمر أساسي في بناء المسلم في المراحل الأولى من عمره حتى تكون حياته خالية من القلق والاضطرابات النفسية 0 وتتم تقوية الصلة بالله بتنفيذ ما جاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال : ( يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلاّ بشيء قد كتبه عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح 0 وفي رواية غير الترمذي ( احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخّاء يعرفك في الشدّة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأنّ الفرج مع الكرب ، وأنّ مع العسر يسرا ) 0
    2ـ الثبات والتوازن الانفعالي : الإيمان بالله يشيع في القلب الطمأنينة والثبات والاتزان ويقي المسلم من عوامل القلق والخوف والاضطراب 0 قال تعالى : { يُثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }0 وقال تعالى : { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }0 وقال تعالى : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم }0
    3ـ الصبر عند الشدائد : يُربي الإسلام في المؤمن روح الصبر عند البلاء عندما يتذكر قوله تعالى : { والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون }0
    وقول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) 0
    4ـ المرونة في مواجهة الواقع : وهي من أهم ما يحصن الإنسان من القلق أو الاضطراب حين يتدبر قوله تعالى : { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبُّوا شيئا وهو شرٌّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } 0
    5ـ التفاؤل وعدم اليأس : فالمؤمن متفائل دائما لا يتطرق اليأس إلى نفسه فقد قال تعالى : { ولا تيأسوا من رّوح الله إنّه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون }0
    ويطمئن الله المؤمنين بأنه معهم ، إذا سألوه فإنه قريب منهم ويجيبهم إذا دعوه 0 قال تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } ، وهذه قمة الأمن النفسي للإنسان 0
    6ـ توافق المسلم مع نفسه : حيث انفرد الإسلام بأن جعل سن التكليف هو سن البلوغ للمسلم وهذه السن تأتي في الغالب مبكرة عن سن الرشد الاجتماعي الذي تقرره النظم الوضعية ، وبذلك يبدأ المسلم حياته العملية وهو يحمل رصيدا مناسبا من الأسس النفسية السليمة التي تمكنه من التحكم والسيطرة على نزعاته وغرائزه ، وتمنحه درجة عالية من الرضا عن نفسه بفضل الإيمان بالله والتربية الدينية الصحيحة التي توقظ ضميره وتقوي صلته بالله 0
    7ـ توافق المسلم مع الآخرين : الحياة بين المسلمين حياة تعاون على البر والتقوى ، والتسامح هو الطريق الذي يزيد المودة بينهم ويبعد البغضاء ، وكظم الغيظ والعفو عن الناس دليل على تقوى الله وقوة التوازن النفسي
    قال تعالى : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم () وما يُلقاها إلاّ الذين صبروا وما يُلقاها إلاّ ذو حظ عظيم }0

    • الصحة النفسية عند المسلمين :
    تتميز العصور الإسلامية عن العصور الإغريقية وغيرها باعتمادها الدين الإسلامي مصدرا للهداية والتشريع وإدارة شؤون الحياة ، في حين كانت العصور الإغريقية عصورا وثنية ازدهرت فيها الفلسفة التي تعلمها المسلمون في عصور ازدهارهم الحضاري ، لتعيش جنبا إلى جنب مع علم الكلام ، والعلوم الدينية الأخرى 0 وعمدوا إلى تطويع المعطيات الفلسفية الإغريقية للمفاهيم الدينية ، أو ما عُرف آنذاك بحركة التوفيق بين الفلسفة والدين 0 وما يهمنا هنا أن نبين الرؤية الإسلامية للصحة النفسية ، كما وردت في القرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة ، وما قدمه بعض المفكرين المسلمين في هذا الميدان 0 فقد أشار القرآن الكريم صراحة إلى مرض القلوب في أكثر من موضع 0 يقول الله تعالى : { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } سورة البقرة 0 وقوله تعالى : { وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا } سورة المدثر 0 ويقول الله تعالى : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض } سورة الأحزاب 0 واستنادا إلى هذه الإشارات في هذه الآيات ، صار طب القلوب في تراثنا الفكري الإسلامي مرادفا لعلم الأمراض النفسية ، وأصبحت سلامة القلب من أمراض الشبهة والشك وأمراض الشهوة والغي ضرورة لازمة لسلامة العقيدة الإيمانية ، وبقاء الإنسان على فطرته السوية الخيّرة 0 وتحدث القرآن الكريم عن أحوال النفس الإنسانية ، فأشار بوضوح إلى النفس الأمارة بالسوء التي تزين لصاحبها التي ذكرت في قوله تعالى : { زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } سورة آل عمران 0 وتحدث القرآن الكريم أيضا عن النفس اللوامة ، عندما تكون مغالية تعنف صاحبها ، وتهدده بالعقاب ، وتُدخل في روعه أن ما يحل به من أحداث حياتية ، ما هي إلا عقاب له على ما ارتكبه من موبقات 0قال تعالى : { لا أُقسم بيوم القيامة () ولا أُقسم بالنفس اللوامة } سورة القيامة 0 وشيئا فشيئا يبدأ الإنسان بطرح السؤال : لماذا يعاقبني الله بتلك الطريقة غير العادلة ويثقلني بالأعباء ؟ وهذه هي البداية الخاطئة التي ستقود إلى الشك وتكوين أفكار سلبية عن الذات 0 وتحدث القرآن الكريم أيضا عن النفس المطمئنة التي تخاف ربها وتمتثل لأوامره وتجتنب نواهيه ، والتي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى : { وأمّا من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى () فإن الجنة هي المأوى } سورة النازعات ، وهي التي تعتبر الحوادث الحياتية اختبار ومحنة ، وأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وهي التي قال فيها الله تعالى : { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية () فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } سورة الفجر 0 إن النفس المطمئنة هي النموذج الذي يسعى إليه الإنسان المسلم ، وهي الحالة التي لا يعرف فيها الفرد أمراض الشبهة والشك ، والشهوة والغي 0 وهي النموذج الأكمل للصحة النفسية ، والحياة الطيبة التي وعد الله بها عباده المؤمنين الصالحين في قوله تعالى : { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } سورة النحل 0 والإسلام اهتم بالجسد وحث على المحافظة عليه روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يدعو : ( اللهم عافني في بدني ، اللهم عافني في سمعي ، اللهم عافني في بصري ) 0 كما حث الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام على التداوي تخلصا من أمراض الجسم بقوله : ( تداووا فإن الذي خلق الداء خلق الدواء ) 0 وقد كان واضحا أن هناك ترابطا وثيقا بين النفس والجسم 0 وقد روى ابن ماجة في سننه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل ، فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب ) ، أي يطيب نفس المريض 0 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يزور مريضا يسأله عن شكواه وكيف يجدها ، ويسأله عما يشتهيه ، ويضع يده الشريفة على جبهة المريض أو بين ثدييه ، ويدعو له ، ويصف له ما ينفعه في علته ، ويدخل السرور على قلبه 0 إن سلامة الجسد من العلل ، وسلامة النفس من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل والقهر ، شرطان ضروريان للصحة النفسية ، أشار إليهما القرآن الكريم والسنة النبوية 0 والإنسان في نظر الإسلام يولد على الفطرة ، ويعايش ما حوله ومن حوله ، ويتلقف تجاربهم ، ويختزن خبراتهم 0 وكل إنسان له قدراته العقلية ، والنفسية ، والاقتصادية 0 ويمضي في رحلته في هذه الحياة الطويلة 0 وحتى يعيش الإنسان حياة هادئة مطمئنة يتمتع فيها بصحة نفسية جيدة لا بد له من زاد ، وزاده في رحلته هو الإيمان بالله جلّ وعلا ، والاطمئنان لقوله ، والرضى بقضائه وقدره ، والصبر على بلائه ، والثقة في عونه ورحمته وحفظه ، والقناعة برزقه ، والعمل من أجل الكسب والطاعة ، والحرص على أداء ما فرضه الله عليه من عبادات ومعاملات 0
    والإنسان أيضا كائن اجتماعي ، وليس نفسا وجسدا فقط ، ولذا فقد حرص الإسلام على تنظيم علاقته بالآخرين ، فقد دعاه إلى تحمل مسؤولياته الاجتماعية ، واحترام إرادة الجماعة والالتزام بما اتفقت عليه ، ومشاركتها آلامها وأحزانها وأفراحها 0 وهذا يستنبط من قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ) 0 إنه القول الفصل في طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تربط الفرد بالآخر ، العلاقة القائمة على المحبة والتكامل والتضامن 0 ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام أيضا : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) 0 ويذكرنا النبي عليه الصلاة والسلام بأن جبريل عليه السلام ظل يوصيه بالجار حتى أنه سيورثه 0 والأوامر الإلهية بإيفاء الكيل والميزان ، ورد الأمانات إلى أهلها ، والحكم بالعدل ، وإخراج الزكاة ، كلها تنظم العلاقات الاجتماعية ، وتقيم المجتمع المسلم الذي يحس فيه كل فرد بالراحة والطمأنينة والمودة والرحمة 0 ونلاحظ أن معظم المفكرين المسلمين قد صدروا أساسا عن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة فيما كتبوه من كتب ومقالات عن السلوك ، والدوافع ، والعواطف ، والميول ، والسعادة ، والشقاء ، والهم والخوف ، والغضب ، والحب والكره ، والتوكل ، والرجاء ، والإيمان ، وغيرها من الموضوعات ذات العلاقة الوثيقة بالصحة النفسية 0 كما أن علماء المسلمين استفادوا مما كتبهم من سبقهم من العلماء سواء الإغريق أو غيرهم ، واستفادوا من مناهجهم وفكرهم ، ولكنهم صبغوه بالصبغة الإسلامية ، وتبنوا النظرة الإسلامية للإنسان واعتبروه كلا متكاملا مكونا من ثلاث قوى وهي : النفس والجسم والروح ، ممتزجة متداخلة لا يمكن الفصل بينها في الواقع ، ولا يوجد ما يدعو إلى هذا الفصل 0

  4. #24
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة السابعة عشرة :
    • مستويات الصحة النفسية هي :
    1ـ المستوى الراقي ( العالي ) : وهم أصحاب الأنا القوية والسلوك السوي والتكيف الجيد ، وهم الأفراد الذين يفهمون ذواتهم ويحققونها 0 وتبلغ نسبة هؤلاء 2،5% تقريبا ( يقعون على أقصى الطرف الإيجابي في البُعد والمنحنى الاعتدالي ) 0
    2ـ المستوى فوق المتوسط : وهم أقل من المستوى السابق ، سلوكهم طبيعي وجيد ، ونسبتهم 13,5% تقريبا 0
    3ـ المستوى العادي ( الطبيعي والمتوسط ) : وهم في موقع وسط بين الصحة النفسية المرتفعة والمنخفضة 0 لديهم جوانب قدرة وجوانب ضعف 0 يظهر أحدهما أحيانا مكانه للآخر أحيانا أخرى ، وتبلغ نسبتهم في المجتمع حوالي 68%0
    4ـ المستوى أقل من المتوسط : أدنى من السابقين من حيث مستوى صحتهم النفسية وأكثر ميلا للاضطراب وسوء التكيف ، فاشلون في فهم ذواتهم وتحقيقها 0 يقع في هذا المستوى أشكال الانحرافات النفسية والاضطرابات السلوكية غير الحادة 0 وتبلغ نسبة هؤلاء 13,5% تقريبا 0
    5ـ المستوى المنخفض : ودرجتهم في الصحة النفسية قليلة جدا ، وعندهم أعلى درجة من الاضطرابات والشذوذ النفسي 0 إنهم يمثلون خطرا على أنفسهم وعلى الآخرين ، ويتطلبون العزل في مؤسسات خاصة ، وتبلغ نسبتهم 2,5% تقريبا 0

    • مناهج علم الصحة النفسية :
    لعلم الصحة النفسية ثلاثة مناهج رئيسية وهامة وهي :
    1ـ المنهج الوقائي Preventive : وهو مجموعة من الجهود المبذولة للوقاية من الاضطرابات النفسية ، والتحكم بها للتقليل من حدوثها 0 لذلك يهتم هذا المنهج بالأسوياء ، والأصحاء ( قبل اهتمامه بالمرضى ) لكي يقيهم ويبعدهم عن أسباب الاضطرابات وعواملها وتهيئة الظروف التي تحقق لهم الصحة النفسية 0
    ولهذا المنهج ثلاثة مستويات :
    الأول ـ الوقاية الأولية Primary Prevention : وهي الإجراءات الأولية والمسبقة لمنع حدوث الاضطراب النفسي مثل : ( التشجيع ، والنصح ، والإرشاد ، وتأكيد الذات ، والدعم الانفعالي والاجتماعي ، والبيئة الصحية 00 ) 0
    الثاني ـ الوقاية الثانوية Secondary Prevention : وهي الإجراءات المتبعة من أجل التشخيص Diagnosis المبكر للاضطراب لمنع تطوره ، والتقليل منه مع الاهتمام بالرعاية والعلاج لإيقاف الاضطراب وهو في مراحله المبكرة الأولى 0
    الثالث ـ الوقاية من الدرجة الثالثة Tertiary Prevention : ويهدف إلى خفض حالات العجز الناتج عن الاضطرابات وإيقاف حالة إزمانه Chronic أي منعه من أن يصبح مزمنا ، مثل : صعوبة وجود عمل والتكيف معه ، والتقليل من المشكلات الأسرية الناتجة عن الاضطراب ، وتأهيل المريض لمنع الانتكاسة 0
    والإجراءات تكون متنوعة مثل :
    أ ـ إجراءات وقائية حيوية ، متعلقة بالصحة العامة ، والنواحي التناسلية مثل رعاية الأم ، والفحص الدوري 0
    ب ـ إجراءات وقائية نفسية ، تركز على النمو النفسي السوي ، وتحقيق التكيف الانفعالي عن طريق الإرشاد الزواجي ، والأسري ، والتنشئة الاجتماعية 0
    ج ـ إجراءات وقائية اجتماعية ، ترتبط برفع مستوى المعيشة وتيسير الخدمات ، وبرامج التوعية والإعلام 0
    2ـ المنهج العلاجي Remedial : إن لعلم الصحة النفسية غرض علاجي ، وهو علاج المشكلات والاضطرابات النفسية بمختلف أشكالها حين حدوثها ، وذلك بهدف العودة بالصحة النفسية إلى حالتها السوية 0 ومن إجراءات هذا المنهج : الفحص Examination ، والتشخيص Diagnosis ، وبحث أسباب الاضطراب Ethiology ، وطرق العلاج Treatment 0
    3ـ المنهج الإنمائي ( البنائي ) Devlopmental ( Constructive ) : يركز هذا المنهج على الأفراد الأسوياء وصولا بهم إلى أقصى درجة ممكنة من الصحة النفسية والتكيف 0 إنه يدرس مثلا : قدرات الأفراد وإمكاناتهم وتطويرها وتوجيهها لتحقيق الفعالية والكفاية والسعادة إن للمؤسسات التربوية والاجتماعية دورا هاما في حسن رعاية أطفالها وتنشئتهم التنشئة الاجتماعية السوية ، حتى يتم تنمية طاقاتهم وقدراتهم واستثمارها وتحقيقها ، وهذا ما يسمى ( تحقيق الذات ) 0

    الصحة النفسية والتكيف :
    • معنى التكيف وعناصره :
    الكائنات الحية تميل إلى تغيير سلوكها استجابة لتغيرات البيئة ، فعندما يطرأ تغير على البيئة التي يعيش فيها الكائن ، فإنه يعدل سلوكه وفقا لهذا التغيير مثال ذلك : ( تغيير الإنسان لباسه ليناسب الفصل والمناخ ) ويبحث عن وسائل جديدة لإشباع حاجاته ، وإذا لم يجد إشباعا لهذه الحاجات في بيئته ، فإما أن يعمل على تعديلها أو تعديل حاجاته 0 وهذا السلوك أو الإجراء يسمى بالتكيف Adjustment إن مفهوم التكيف أصلا هو مفهوم بيولوجي ، كان حجر الزاوية في نظرية ( داروين ) عن الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح ( 1859 ) 0 فالحيوانات التي استطاعت التلاؤم مع بيئتها الطبيعية أستمرت في البقاء كالحرباء التي تغير لونها ليتناسب مع البيئة الطبيعية ، وهجرة أسماك السلمون ، ونوم الدببة في الشتاء 0 إن الإنسان يعمل باستمرار على التكيف مع بيئة الطبيعة عن طريق ارتداء اللباس المناسب وشكل البناء ونوع الطعام 0 وقد استعار علم النفس المفهوم البيولوجي للتكيف والذي أطلق عليه علماء البيولوجيا مصطلح تلاؤم أو توافق Adaptation ، واستخدم في المجال النفسي الاجتماعي تحت مصطلح تكيف Adjustment وحيث أن الإنسان يتلاءم مع بيئته النفسية والاجتماعية مثلما يتلاءم مع بيئته الطبيعية ، من هنا شدد علماء النفس على ما يسمى البقاء السيكولوجي Psychological Survival والاجتماعي ، مثلما شدد علماء البيولوجيا على البقاء الطبيعي الفيزيولوجي أو البيولوجي 0
    • تعريف التكيف :
    في اللغة ، تعني كلمة التآلف والتقارب ، فهي نقيض التخالف والتنافر أو التصادم0
    فيما يعرفه ( فهمي ، 1987 ) بأنه : العملية الديناميكية المستمرة التي يهدف بها الشخص إلى أن يغير سلوكه ليحدث علاقة أكثر توافقا بينه وبين بيئته 0
    أما ( الرفاعي ، 1987 ) يعرفه بأنه : مجموعة من ردود الأفعال التي يعدل بها الفرد بناءه النفسي ، وسلوكه ليستجيب إلى شروط محيطة محدودة ، أو خبرة جديدة 0
    أما ( عبد الله ، 2001 ) فيعرفه بأنه : مجموعة من الاستجابات وردود الأفعال التي يعدل بها الفرد سلوكه وتكوينه النفسي أو بيئته الخارجية لكي يحدث الانسجام المطلوب ، بحيث يشبع حاجاته ويلبي متطلبات بيئته الاجتماعية والطبيعية 0
    ويذكر ( الهاشمي ، 1986 ) التكيف في الدراسات النفسية فيقول : " هو تلك العملية المتفاعلة والمستمرة ( ديناميكية ) يمارسها الفرد الإنساني شعوريا أو لا شعوريا ، والتي تهدف إلى تغيير السلوك ليصبح أكثر توافقا مع بيئته ومع متطلبات دوافعه 0
    ونلاحظ من هذا التعريف النقاط التالية :
    1ـ إن التكيف إجراء أوسلوك Behavior يقوم به الفرد في سعيه لإشباع حاجاته والتلازم مع ظروف معينة 0
    2ـ إن هذا الإجراء أو السلوك يشمل إحداث تغيير في بيئتي الفرد ، الذاتية ( بناؤه النفسي ) والخارجية ( الطبيعة والاجتماعية ) 0
    3ـ المحيط الذي يتكيف الفرد معه ، يقسم إلى ثلاثة أنواع وهي :
    أ ـ المحيط الذاتي ( الداخلي ) وهو البناء النفسي للفرد ( شخصيته ـ حاجاته ـ دوافعه ـ اتجاهاته ) 0
    ب ـ المحيط الخارجي بقسميه : الاجتماعي ( الأسرة ، المدرسة ، شبكة العلاقات والتفاعل الاجتماعي في المجتمع ) 0 والطبيعي المادي ( المناخ ، الوديان ، التضاريس ، الأدوات )
    ويكون الغلبة في المحيط الذاتي أو النفسي ، للتكيف النفسي Psychological Adjustment في حين تكون الغلبة في المحيط الخارجي للتوافق الطبيعي البيولوجي Biological Adaptation إن أبعاد البيئة الثلاثة متداخلة في الواقع وتؤثر جميعها في حياة الفرد وتحدد أسلوب تكيفه معها ويمكننا أن ننظر إلى التكيف من زاويتين ، من حيث هو عملية ، ومن حيث هو إنجاز ( نتيجة ) 0
    أولا ـ التكيف باعتباره عملية Process :
    حيث يحمل كل فرد حاجات متعددة ، ويعمل باستمرار على إشباعها 0 ولو تم إشباعها كلها بطريقة سهلة ، لما كان هناك داع لعملية التكيف 0 إن هذه الحاجات والدوافع في الواقع دينامية وحركية ، إنها تحرك السلوك باستمرار ومن الصعب للفرد إشباعها ، وقد يعترضه في ذلك عقبات شتى بعضها ذاتي ( داخل الفرد ) وبعضها خارجي( من المجتمع والمحيط الطبيعي ) 0 وإذا استطاع الفرد إشباع حاجاته فإن حالة التوتر تنتفي عنده ويشعر بالرضا والطمأنينة ، وإذا فشل فإنه يبذل محاولات أخرى وأساليب أخرى مثل : الانسحاب ، والتبرير ، واليأس ، أو إتباع أي أسلوب غير سوي ( مرضي ) 0 وفي هذه الحالة الأخيرة يكون التكيف السيئ دليل اعتلال الصحة النفسية ، ودليل اضطراب الشخصية 0
    ثانيا ـ التكيف كنتيجة أو إنجاز ( Result ) Achievement : في أولا كانت نظرتنا للتكيف كعملية ، أي السلوكيات وردود الأفعال المتكررة التي تصدر عن الشخص ليحقق الانسجام المطلوب ، ولكن الآن ننظر إلى التكيف من حيث أنه نتيجة أيضا فهل هو جيد أم سيئ ؟ هل هو حسن أم غير ذلك ؟ ، فإذا كان التكيف حسنا وحقق الانسجام والتآلف المطلوب فإنه دليل على الصحة النفسية ، أما إذا كان سيئا ولم يحقق التآلف المطلوب فإنه دليل على الشذوذ النفسي واعتلال الصحة النفسية 0
    • أبعاد التكيف ومجالاته :
    يمكن النظر إلى التكيف من حيث أبعاده ومجالاته المتنوعة ، كما يلي :
    1ـ التكيف الشخصي ( الانفعالي ) : ويشمل السعادة مع النفس والرضا عنها ، وإشباع الدوافع الأولية ( الجوع والعطش والجنس والراحة والأمومة ) والثانوية المكتسبة ( الأمن والحب والتقدير والاستقلال ) وانسجامها وحل صراعاتها ، وتناسب قدرات الفرد وامكاناته مع مستوى طموحه وأهدافه 0
    2ـ التكيف الاجتماعي : ويشمل السعادة مع الآخرين والالتزام بقوانين المجتمع وقيمه والتفاعل الاجتماعي السوي ، والعمل للخير والسعادة الزوجية ، والراحة المهنية ، ويظهر هذا النوع من التكيف في المجالات التالية :
    أ ـ في الدراسة : ويطلق عليه اسم التكيف الدراسي ، أي نجاح الفرد في المؤسسات التعليمية والنمو السوي معرفيا واجتماعيا ، وكذلك التحصيل المناسب ، وحل المشكلات الدراسية مثل : ضعف التحصيل الدراسي 0
    ب ـ في الأسرة : ويطلق عليه اسم التكيف الأسري ، وهو أن يسود الوفاق بين الزوجين ، وأن تكون العلاقات قائمة على المودة والمحبة والتعاون ، ويتضمن هذا التكيف منذ البداية ما يسمى بالتكيف الزواجي Marriage Adjustment المتعلقة أساسا باختيار الشريك ، وتجانس مستوياتهما الفكرية والثقافية والاجتماعية والعمرية 0
    ج ـ في العمل : ويطلق عليه اسم التكيف المهني Voacational Adjustment : ويتضمن اختيار الشخص للمهنة أو العمل الذي يناسب قدراته واستعداداته ، وتقبلها ، ورضاه عنها ، ومحاولاته المستمرة لتطويرها والإبداع فيها وشعوره بالسعادة والرضا أيضا 0

  5. #25
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية الشفق
    مجلس الإدارة

    أبومحمد
    تاريخ التسجيل
    01 2005
    المشاركات
    26,319

    رد: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    والله العظيم رائع ومفيد ما نقرأه هنا في هذا الموضوع الجميل
    لنا كل الفخر والاعتزاز بتواجد الدكتور ( ضيف الله مهدي ) معنا في المنتدى
    وما يقوم به من جهد مبارك من اجل نفع وفائدة الجميع
    فلك من الجميع خالص الشكر والدعاء

  6. #26
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة الثامنة عشرة :

    • العوامل الأساسية في التكيف :
    هناك عدد كبير من العوامل المتداخلة في عملية التكيف والمؤثرة فيها ، بعضها ذاتي متعلق بالحياة النفسية والبيولوجية والجسمية للفرد ، وبعضها الآخر خارجي ، من البيئتين ، الطبيعية والاجتماعية 0
    1ـ المهمات النمائية Developmental : وهي الأشياء التي يتطلبها النمو النفسي للفرد والتي يتعلمها حتى يعيش بسعادة واطمئنان ، ويعبر مرحلة النمو بسلام 0 ولكل مرحلة من مراحل النمو ( الطفولة الأولى ، والمتوسطة ، والأخيرة ، والمراهقة ، والرشد ، والشيخوخة ) مطالب خاصة بها 0 وكلما حقق الفرد مطالب المرحلة الأولى السابقة سهل عليه تحقيق مطالب الثانية وهكذا 0 إن عدم تحقيق مطالب النمو التي سنذكرها الآن يؤدي إلى سوء التكيف 0
    *ـ المهمات النمائية في مرحلة الطفولة : المحافظة على الحياة ، تعلم المشي ، تعلم الكلام
    وضبط الإخراج ، واللعب ، وتعلم القراءة والكتابة والحساب ، والمهارات الإدراكية والعقلية اللازمة للحياة وقواعد السلامة ، وتكوين علاقات اجتماعية ، والتمييز بين الصواب والخطأ 0
    * ـ المهمات النمائية في مرحلة المراهقة :
    نمو مفهوم سوي للجسم ، وتقبل الجسم والدور الجنسي ، وتكوين المفاهيم العقلية الضرورية ، وتحمل المسؤولية ، والاختيار للمهنة المناسبة وتحقيق الاستقلال والاستعداد للزواج 0
    *ـ المهمات النمائية في مرحلة الرشد : تقبل التغيرات الجسمية ، واختيار شريك الحياة ، وتكوين الأسرة ، وتربية الأطفال ، وممارسة مهنة والرضا عنها ، وتكوين علاقات اجتماعية ومناشط 0
    *ــ المهمات النمائية في مرحلة الشيخوخة : تقبل الضعف الجنسي ، ومواجهة المتاعب التي يمر بها ، والقيام بالمناشط المناسبة ، والتكيف مع التقاعد ، والاستقلال عن الأولاد ، وتكوين علاقات اجتماعية مع رفاق السن 0
    2ـ الدوافع الأولية والثانوية Primary And Secondary Motives : والدافع هو : حالة جسمية ونفسية داخلية يوافقها توتر داخلي يوجه الكائن الحي نحو أهداف معينة تشبع الدافع وتسد النقص ( الحاجة ) لكي يعود لحالة السوية 0
    والدوافع لا يمكن ملاحظتها ، وإنما نلاحظها من خلال أثارها ومظاهرها في السلوك ، لذلك نسمي الدافع ( تكوين فرضي ) والدوافع نوعان وهما :
    أ ـ دوافع أولية وتسمى عضوية Organic : وهي التي يولد الفرد وهو مزود بها ، وإشباعها ضروري للحفاظ على البقاء وهي مشتركة بين الإنسان والحيوان ، ومنها : دافع الجوع ، والعطش ، والجنس ، والراحة 0
    ب ـ دوافع ثانوية وتسمى ( نفسية اجتماعية ) وهي : التي تكتسب من البيئة الاجتماعية ، وضرورية للتكيف النفسي ، ومن هذه الدوافع : الحاجة للحب والتقدير ، الانتماء ، المعرفة ، الاستقلال 0 وبشكل عام يمكن القول : أن إشباع هذه الدوافع له دور هام في عملية التكيف ، فإذا فشل الفرد في ذلك كان عرضة للتوتر وعدم الاتزان ، وهذا يؤدي مع التكرار إلى اضطرابات نفسية متنوعة ، واعتلال الشخصية 0 فعندما لا يشبع الفرد الجوع مثلا ، وتطول مدة إعاقته فإن ذلك يؤدي إلى سلوك عدواني لفظي أو جسدي ، كما أن عدم إشباع حاجة الطفل للحنان والحب قد يدفعه إلى مرافقة رفاق السوء ، أو الانزواء 00 وهكذا 0
    3ـ العوامل الفسيولوجية : وهي كثيرة بعضها متعلق ببنية الجسم وما يحمله من استعدادات وأمراض ، وبعضها ما يطرأ على الفرد من حوادث تؤثر فيه 0 فالوراثة تلعب دورا هاما في ذلك ، فقد يحمل الأب استعدادا مرضيا من والديه أو استعدادا للإصابة بعاهة معينة 0 وتنتج العيوب والصفات الوراثية غير المرغوب فيها نتيجة التغيرات التي تحدث في الجينات والكروموسومات مما يؤثر في عملية التكيف ويؤدي لظهور أمراض وراثية0 وهناك عوامل فسيولوجية متدخلة في التكيف وتعود إلى الغدد ذات الإفراز الداخلي التي تعمل في نمو الفرد وحساسيته وتطور مزاجه ، ومنها ما يعود إلى نشاط الجسم وتعبه مما يغلب عليه ، أو مما يكون طارئا 0 ثم إن من بين العوامل ما يعود إلى صدمات أو إصابات تنال الرأس وما يضمه ، أو تنال جهازا من أجهزة الجسم المتعددة 0 ولعل من اللازم الإشارة هنا إلى ما يحتمل أن ينال الجنين من إصابة أو مرض مما تبقى أثاره إلى فترة الحياة بعد الولادة ، وكذلك إلى ما يصيب الأطفال في مطلع حياتهم من أمراض تبقى آثارها في السمع أو البصر أو الجهاز العصبي أو العضلي أو غير ذلك 0 وعن المجرم بالولادة ذكر ( سيزار لومبروزو Cesare Lombroso ) فيما كتبه أن هناك أمثلة متعددة تدعم القول بوجود من يولد مجرما ، أي من يحمل بناءً جسميا منحرفا يدعو إلى أن يكون مجرما 0 وإذا كان الاتجاه المعاصر يذهب في موقفه من هذه النظرية إلى أنها لا تعتمد على أساس علمي كاف ولا تؤيدها الوقائع ، فإن التأكيد ما يزال قائما على وجود مكانة مهمة في التكيف لمجموعة العوامل التي تأتي مع المولود من مرحلة ما قبل الولادة 0 وفي نظريات الأنماط المنطلقة من بناء الجسم في تحديد طبيعة الشخصية وقائع متعددة تدعم مثل هذا التأكيد 0
    4ـ مرحلة الطفولة وخبراتها : تعتبر مرحلة الطفولة من المراحل الهامة لأنها مرحلة تكوين الشخصية 0 وكل ما يمر به الطفل من خبرات وتعلم ستظهر أثاره في سلوكه وشخصيته 0 لذلك يرجع علماء النفس ، والمعالجون النفسانيون إلى هذه المرحلة بالبحث والاستقصاء حين مواجهتهم حالة سريرية 0 فكثير من الاضطرابات النفسية يمكن إرجاعها لمرحلة الطفولة 0 فقد يعاني الطفل حالة من الحرمان من رعاية الأم ، سواء كان حرمانا كاملا أم جزئيا ، أو حالة خوف مبكر أو أسلوبا سيئا في الأوضاع مثل : ( أخذه من السرير بقسوة وقوة حين يبكي ، أو عدم احتضانه أو إطعامه بسرعة ) فهذه كلها تخلف أثارا سيئة في تكيفه اللاحق 0 إن الكثير من حالات الجنوح والتخلف العقلي والدراسي والإدماني تثبت أهمية مرحلة الطفولة في التكيف وتحديد نوعيته أو نتيجته ( سيئ أم حسن ) 0
    5ـ المظاهر الجسمية والشخصية : وهي المرتبطة بمظهر الجسم وصفاته وما فيه من إعاقات أو أمراض غير مألوفة أو غير مستحبة ، مثل الطول المفرط أو القصر المفرط ، أو عاهة بالأطراف ، أو قبح الوجه ، إن كل هذه المظاهر تخلف أثارا واضحة في تكيف الشخص ، أبرزها شعوره بالنقص 0إن هذه المظاهر والعوامل تؤثر بطريقة غير مباشرة لأن العامل المباشر فيها هو تقييم الناس لذلك ، أي إدراك الفرد لما يؤثره الآخرون ويفضلونه وما يكرهونه ، وإدراكه أن ما يفضله الناس غير موجود عنده 0 ويدخل في هذه العوامل القدرات العقلية ، والسمات المزاجية عند الفرد 0 فانخفاض نسبة الذكاء مثلا يؤدي عند الفرد إلى الكثير من حالات سوء التكيف مثل : الانعزال والعدوان ، كما أن السمات المزاجية المتعلقة بدرجة التنشيط والكف في الجهاز العصبي وخاصة التكوين الشبكي تلعب دورا هاما في أشكال السلوك التكيفية عند الفرد 0 ولا بد أن نذكر أثر العوامل الاجتماعية ، وخاصة المستوى الاجتماعي والثقافي ودور السينما والتلفزيون ووسائل الإعلام عموما وخاصة في العصر الذي نعيشه ( عصر المعلومات والمعلوماتية ) 0

    *التكيف في علم الاجتماع :
    كثيرا ما تستعمل كلمة التكيف في علم الاجتماع حين دراسة تكون العصابات والزمر ، وعلاقات الأفراد مع الجماعة ، أو علاقات الجماعات الصغيرة مع بعضها أو مع الجماعة الكبيرة 0 فقبول الأفراد أو الجماعات ( قبول الراضي أو قبول الخاضع ) ما تقول به الجماعة الكبيرة أو تشير به هو عملية تكيف 0 وقبول الطفل تدريجيا ما يطلب منه في المدرسة أو في البيت عملية تكيف ، وكذلك الأمر في تكيف المهاجر من بيئة اجتماعية إلى بيئة اجتماعية أخرى جديدة عليه وإن عددا غير قليل من الدراسات الاجتماعية قد جعل من هذا التكيف موضوعا له حين اهتم بدراسة اللاجئين ، أو دراسة التمييز العنصري ، أو دراسة الكتل الغريبة التي تعيش ضمن مجتمع كبير مختلف عنها في عدد من النواحي 0
    * التكيف في علم النفس :
    ينظر علم النفس بصورة عامة إلى موضوعه من زاويتين أساسيتين وهما :
    الأولى ـ دراسة الوظائف النفسية المختلفة التي تظهر لدى الإنسان ، وهو ها هنا يدرس مثلا ، الإحساسات ، والدوافع ، والعواطف ، والمحاكمات ، والتعلم ، والتخيل ، والإدراك ، يدرسها دراسة تحليلية ويقصد منها الوصول إلى القوانين أو المبادئ العامة التي تضبط تفسير سير كل منها 0 وهكذا يكون الإنسان مجموعة من الوظائف أو المظاهر أمام هذا النوع من دراسة السلوك 0
    الثانية ـ دراسة الإنسان من حيث هو كل يعمل 0 إنها دراسة الإنسان من حيث هو شخصية فريدة تعمل في شروط محيطية ، ولا تكون دراسة العناصر التي ينطوي عليها شخصه إلا نوعا من التجريد أو العزل المقصود يذهب إليه الباحث بغية الكشف عن جوانب الإنسان المختلفة ، علما بأن هذه العناصر لا توجد أبدا وحدها ، وإنما تكون دائما في تعاون مستمر فيما بينها ضمن وحدة الشخصية 0
    فإذا أخذنا الأمر من الزاوية الثانية ، ولاحظنا سلوك الشخصية ، رأينا أنها تعمل باستمرار وراء التلاؤم مع شروط العالم الطبيعي ، والتكيف مع مطالب الدوافع الشخصية ومطالب العالم الاجتماعي 0 فالإنسان يسعى وراء لباس خاص أمام البرد ، ووراء سلوك خاص حين يداهمه الهواء الشديد أو تفاجئه الرياح ، أو الأمطار 0 ثم إنه يسعى وراء إشباع عدد من الدوافع التي تظهر لديه على شكل حاجات شخصية ، وليست محبة المطالعة إلا واحدة منها ، ويسعى كذلك بقوة وراء التكيف فيما يتعلق بما تطلبه الجماعة 0

  7. #27
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة التاسعة عشرة :
    • معايير الصحة النفسية :
    هناك أربعة محكات أساسية نستطيع الاعتماد عليها في الحكم على تحقق الصحة النفسية ووجودها عند الأشخاص ، وهي :
    1ـ الخلو من الاضطراب النفسي The absence of disorder : وهو المعيار الأول الضروري لتوافر الصحة النفسية 0 ولكن مجرد غياب المرض النفسي لا يعني توافر الصحة النفسية ، لأن هناك معايير وشروط أخرى يجب توافرها ( هي الثلاث التالية ) 0
    2ـ التكيف بأبعاده وأشكاله المختلفة : التكيف النفسي الذاتي Psychological Adaptation من حيث التوفيق بين الحاجات والدوافع والتحكم بها وحل صراعاتها 0 والتكيف الاجتماعي Social Adaptation بأشكاله المختلفة ، المدرسي ، والمهني ، والزواجي ، والأسري 0
    3ـ تفاعل الشخص مع محيطه الداخلي والخارجي ( الإدراك الصحيح للواقع ) : ويتداخل هذا المعيار مع سابقه ، لأن عملية التكيف تجري حين يتفاعل الشخص مع بيئته الداخلية والخارجية 0 فالتفاعل مع المحيط الداخلي يتضمن :
    4ــ فهم الشخص ذاته ومعرفة قدراته ودوافعه واتجاهاته 0 والعمل على تنميتها وتطويرها وتحقيقها 0 أما التفاعل مع المحيط الخارجي فيتضمن : فهم الواقع وشروطه ( ومتغيرات البيئة وظروفها ) ، والعمل على التوافق معه لإبعاد الخطر عن الذات وتعديل السلوك ليحدث الانسجام المطلوب ، وأخيرا العمل المنتج خلال سعي الفرد لتحقيق ذاته 0
    5ـ تكامل الشخصية Personality Integration : والتكامل بالمعنى العام هو انسجام الوحدات الصغيرة في وحدة أكبر ، أي اندماج عناصر متمايزة لما بينها من علاقات ، ويُقصد بتكامل الشخصية ( التناسق والتكامل ضمن وحدة الشخصية كما في التعريف ) هو : انتظام مقوماتها ، وسماتها المختلفة وائتلافها في صيغة وخضوع هذه المكونات والسمات لهذه الصيغة 0 فالشخصية المتكاملة هي الشخصية السوية ( دليل الصحة النفسية ) ، أما تفكك الشخصية وعدم تكاملها فهي الشخصية المضطربة ( دليل اختلال الصحة النفسية ) 0

    • ما هي علامات الصحة النفسية ومظاهرها :
    جميع علماء الصحة النفسية يتفقون على المظاهر والعلامات التالية :
    1ـ التكيف بأشكاله المختلفة : النفسي والبيولوجي ، والاجتماعي ( الزواجي ، والأسري ، المدرسي ، المهني 0
    2ـ الشعور بالسعادة مع الآخرين : ودليل ذلك ، حب الآخرين والثقة بهم واحترامهم ، وتكوين علاقات اجتماعية مُرضية ، والسعادة الأسرية ، والاستقلال الاجتماعي ، وتحمل المسؤولية 0
    3ـ فهم الذات وتحققها : لكل فرد منا قدرات وامكانات وسمات معينة ، وعليه أن يعي هذه القدرات والسمات بصورة واقعية كما هي 0 وأن يُدرك نواحي القوة والضعف فيه بحيث يتيح له ذلك استثمار نواحي القوة وتقبل نواحي الضعف 0 إن من أهم مظاهر اختلال الصحة النفسية ووجود الاضطراب عدم معرفة الشخص لقدراته ، إمّا تضخيمها ، أو تبخيسها ( إمّا مبالغة في تقديرها أو التهوين من شأنها ) 0 فمن مظاهر الصحة النفسية تناسب وتجانس مستوى الطموح مع قدرات الفرد وإمكاناته الذاتية ، والعمل على استثمارها وتحقيقها عن قناعة ورضا
    4ـ مواجهة مطالب الحياة وأزماتها وإحباطاتها : فالحياة لا تخلو من مطالب وصعوبات وأزمات يجب على الفرد مواجهتها والتغلب عليها 0 فكلما كان معدل تحمل الإحباط عاليا ، كان ذلك دليلا على درجة عالية من الصحة النفسية 0
    5ـ النجاح في العمل : إن نجاح الفرد في عمله ورضاه عنه دليل توافر الصحة النفسية ومظاهر ذلك : رضا الفرد عن عمله ونجاحه فيه ، وميله له 0 ويركز علماء النفس المهني والصناعي على هذا الجانب من خلال الاهتمام بعمليتي الاختيار المهني والتوجيه المهني اللذين يهدفان إلى وضع الرجل المناسب في مكانه المناسب 0
    6ـ الاتزان الانفعالي والحفاظ على مستوى مناسب من الحساسية الانفعالية : أي النضج الانفعالي ، وتكافئ انفعالات الشخص مع مثيراتها 0 فعندما يفرح أو يحزن يجب أن يتناسب ذلك المثير أو الموقف المفرح أو المحزن ومثيراته ، وأن لا يكون الانفعال جامدا متلبدا ، ولا جامحا أو مسيطرا ، فضلا عن التناسب بين نوع المثير أو الموقف والاستجابة الانفعالية المناسبة 0 أي إذا كان الموقف والمثير محزن أو مزعج يجب أن تكون الاستجابة الانفعالية حزنا أو انزعاجا 0 وإذا كان مفرحا يجب أن يستدعي عنده الفرح ويفرح 0إن عدم التجانس أو الاتزان هذا من أهم مظاهر اختلال الصحة النفسية وهي من أهم مظاهر بعض الاضطرابات النفسية ، وخاصة الانفعالية الوجدانية منها 0
    7ـ الإقبال على الحياة والمشاركة المناسبة في حياة المجتمع وتقدمه : فبما أن الفرد عضو في مجتمع ، فعليه أن يشارك ويعمل من أجله في أشكال من التعاون 0 يرافق ذلك الإقبال على الحياة والاستمتاع بالجمال 0 فمن علامات اعتلال الصحة النفسية أو اضطرابها الاحجام عن الحياة ، والتشاؤم واليأس ، كما في الاكتئاب مثلا 0
    8ـ التكامل النفسي : ودلائل ذلك : الأداء الوظيفي الكامل المتكامل المتناسق للشخصية ككل ( جسميا وعقليا وانفعاليا واجتماعيا ) ، والتمتع بالصحة ومظاهر النمو العادي 0
    9ـ السلوك العادي : ودلائل ذلك : السلوك السوي العادي المعتدل ، المألوف الغالب على حياة غالبية الناس العاديين 0 والعمل على تحسين مستوى التوافق النفسي ، والقدرة على التحكم في الذات وضبط النفس 0
    10ـ العيش في سلامة وسلام : ودلائل ذلك : التمتع بالصحة النفسية والصحة الجسمية والصحة الاجتماعية ، والسلم الداخلي والخارجي ، والإقبال على الحياة بوجه عام والتمتع بها ، والتخطيط للمستقبل بثقة وأمل 0

    • نسبية الصحة النفسية :
    في التعريف السابق للصحة النفسية أنها : " حالة إيجابية دائمة نسبيا " 0 فهي نسبية إذن 0 وليست مطلقة أي ( إمّا أن تتحقق أو لا تتحقق ) ، بل إنها نشطة متحركة ونسبية وتتغير من فرد إلى آخر ، ومن وقت إلى آخر عند الفرد نفسه ، كما تتغير بتغير المجتمعات 0 وهذا هو المقصود بنسبيتها 0
    1ـ نسبية الصحة النفسية من فرد إلى آخر : حيث يختلف الأفراد في درجة صحتهم النفسية ، كما يختلفون من حيث الطول والوزن والذكاء والقلق 0 فالصحة النفسية نسبية غير مطلقة ، ولا تخضع لقانون ( الكل أو لا شيء ) 0 فكمالها التام غير موجود ، وانتفاؤها الكلي غير موجود إلاّ قليلا جدا 0 فلا يوجد شخص كامل في صحته النفسية ، كما هو الحال في الصحة الجسمية 0 وأيضا لا يكاد يكون هناك شخص تنتفي لديه علامات الصحة النفسية ومظاهرها 0 فمن الممكن أن نجد بعض الجوانب السوية ( الإيجابية ) لدى أشد الناس اضطرابا 0
    2ـ نسبية الصحة النفسية لدى الفرد الواحد من وقت إلى آخر : لا يوجد شخص يشعر في كل لحظة من لحظات حياته بالسعادة والسرور 0 كما أن الفرد الذي يشعر بالتعاسة والحزن طول حياته غير موجود أيضا 0 فالشخص يمر بمواقف سارة وأخرى غير سارة وتستخدم الاختبارات والمقاييس النفسية لتحديد درجة الفرد ومركزه على بُعد متدرج Continuum ( سلم تقدير ذي بعدين ) ، الصحة النفسية مقابل الشذوذ ، ولكن يجب أن نذكر أن الشخص الذي يتمتع بدرجة مرتفعة من الصحة النفسية يتميز بأن لديه درجة مرتفعة من الثبات النسبي أيضا ، في حين أن الدرجة المنخفضة من الصحة النفسية تتميز بالتغير والتذبذب من وقت إلى آخر0
    3ـ نسبية الصحة النفسية تبعا لمراحل النمو : إن مفهوم السلوك السوي Normal Behavior الذي يدل على الصحة النفسية هو مفهوم نسبي أيضا مرتبط بمراحل النمو التي يمر بها الفرد 0 فقد يُعد سلوك ما سويا في مرحلة عمرية معينة مثل : ( رضاعة ثدي الأم حتى السنة الثانية ) ولكنه غير سوي إذا حدث إذا حدث في سن الخامسة 0 كما أن مص الإصبع سلوك سوي طبيعي في الأشهر الأولى من عمر الطفل ولكنه مشكلة سلوكية إذا حدث بعد السادسة ، ومثله أيضا التبول اللاإرادي فهو سلوك سوي في العام الأول ، ولكنه مشكلة سلوكية بعد الخامسة 00 وهكذا
    4ـ نسبية الصحة النفسية تبعا لتغير الزمان : السلوك السوي الذي هو دليل الصحة النفسية ، يعتمد على الزمان أو الحقبة التاريخية الذي حدث فيه هذا السلوك 0 فقد كان اللص لا يعاقب في أسبارطة بل كل سلوكه هذا دليل ذكاء وفطنة 0وفي العصر الإسلامي ( وخاصة العباسي ) سوّغ بعضهم سرقة الكتب لأن الشخص إنما يسرق شيئا شريفا 0 فالحكم على السلوك الدال على الصحة النفسية يختلف إذن عبر العصور والأزمان 0
    5ـ نسبية الصحة النفسية تبعا لتغير المجتمعات : لأن السلوك الذي يدل على الصحة النفسية يختلف باختلاف عادات وتقاليد المجتمعات 0 فهناك قبائل تربي أفرادها على سلوك الاعتداء والعنف ودحر الآخرين ، والكسب 0 في حين أن هناك قبائل تربي أفرادها على كظم الانفعال وإظهار التسامح 0 وعموما فالحكم على الصحة النفسية يختلف تبعا لعوامل : الزمان والمكان والمجتمعات ، ومراحل النمو عند الإنسان 0 ويجب أخذ كل هذه المتغيرات بعين الاعتبار عند إطلاقنا الحكم على الصحة النفسية 0 ولذلك نقول : إنها نسبية 0
    • النظرة الكمية والفروق الفردية في الصحة النفسية :
    من المتفق عليه أن الصحة النفسية تقابل الشذوذ والمرض النفسي أو سوء التكيف والأفضل لنا أن ننظر إلى الصحة النفسية نظرة كمية 0 ونقول إنها تتوزع بدرجات على طول خط متصل أو ( بعد ) ( Dimension ) Continuum بحيث نتحدث عن درجة مرتفعة من الصحة النفسية على الطرف الأول ( الإيجابي ) ، ودرجة منخفضة منها على الطرف الثاني ( السلبي ) وأن هناك درجات مختلفة منها بين هذين الطرفين ، فالنظرة الكمية البعدية Dimensional للصحة النفسية تؤكد على التوزيع المستمر لجميع الحالات في تصنيف واحد ليس فيه ثغرات أو فواصل ، ويتبع المنحنى الإعتدالي 0 وهكذا فإن الدرجات المتوسطة تقع في المنتصف 0 والأفراد ذوو الدرجات المنخفضة جدا يقعون على أقصى قطب الشذوذ النفسي أو اعتلال الصحة النفسية ( السالب أقصى اليسار ) 0 أما ذوو الدرجات المرتفعة جدا ، فتكون في أقصى قطب الصحة النفسية ( الموجب على اليمين ) وهكذا تتحد درجات الأفراد وتوزعهم وفقا لفئات متدرجة مستمرة ، ويمكن تحديد ذلك باستخدام المقاييس والاختبارات النفسية 0 وهكذا فإن الصحة النفسية تتوزع وفقا للمنحنى الاعتدالي حيث أن 68% يقعون في المنتصف ، في حين أقصى اليمين يدل على درجة مرتفعة من الصحة النفسية ، وأقصى اليسار درجة مرتفعة من اعتلال الصحة النفسية أو الشذوذ والاضطراب 0 وبينهما فئات ( درجات متفاوتة ) تشير إلى مدى تكيف الفرد ودرجة صحته النفسية 0

  8. #28
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة العشرون :

    المؤمن يعيش في معية الله :
    والمؤمن لا يعتريه ذلك المرض النفسي الوبيل، الذي يفتك بالمحرومين من الإيمان، ذلك هو مرض الشعور بالوحدة المقلقة، فيحس صاحبه أن الدنيا مقفلة عليه، وأنه يعيش فريداً منعزلاً؛ كأنه بقية غرقى سفينة ابتلعها اليم، ورمت به الأمواج في جزيرة صغيرة موحشة يسكنها وحده، لا يرى إلا زرقة البحر وزرقة السماء، ولا يسمع إلا صفير الرياح، وهدير الأمواج.
    وأي عالم أشد على النفس من هذا العالم، وأي إحساس أمر من هذا الإحساس؟ إن أقص ما يصنعه السجان بالسجين أن يحبسه في سجن انفرادي (زنزانة) ليحرمه من لذة الاجتماع، وأنس المشاركة والاختلاط، فما بالنا بمن وضع نفسه دائماً في تلك الزنزانة، وعاش فيها بمشاعره وتصوره وحده، وإن كانت الدنيا تضج من حوله بخلق الله من بني الإنسان؟!
    والمختصون متفقون على أن هذا المرض من أخطر أمراض النفس، لما يجلبه على صاحبه من عزلة وفقدان للثقة بمن يتعاملون معه، إذ يعتقد أن كل من حوله دونه، وأنهم يخالفونه في كل مقومات الحياة، وأينما التفت لا يجد غير نفسه، وقد مثل بعضهم حالة هذا المريض بإنسان قد سجن في غرفة جميع جدرانها مراء (مرايا) فأينما ينظر لا يجد إلا نفسه، وأن هذه الغرفة التي سجن فيها لا أبواب لها، ولا منافذ بها، فأين السبيل إلى الهرب منها؟فهل يستطيع مثل هذا الإنسان أن يعمل أو ينتج، أو أن يظل محتفظاً بوعيه وقدرته على الفهم والتركيز؟ وهل يمكن لمثله أن يظفر بالسكينة والاطمئنان؟ الجواب طبعاً: لا.بل قال المختصون في علاج هذه الأمراض: إن لهذا المرض النفسي آثاراً عضوية تظهر على جسم صاحبه، كما تظهر في حركاته وتصرفاته. فقد يصيبه الدوار ويتصبب عرقه، وتسرع نبضات قلبه، كأنه خائف من عدو قاهر، أو مقدم على موقف عصيب وقد يتخبط في حركاته ومشيه كأنه يريد الهرب.ويقول الدكتور «موريس جوبتهيل» مدير إدارة الصحة العقلية بنيويورك: "إن مرض إحساس الإنسان بوحدته لمن أهم العوامل الأساسية للاضطرابات العقلية".ولم يدخر الأطباء وعلماء النفس وسعاً في البحث عن علاج ناجع لهذا المرض، وبذلوا في ذلك جهوداً جمة، وأجروا تجارب كثيرة، وحاولوا محاولات مخلصة حتى انتهى رأي المنصفين منهم أخيراً إلى أن العلاج الأمثل لهذا المرض هو اللجوء إلى الدين، والاعتصام بعروة الإيمان الوثقى، وإشعار المريض بمعية الله والأنس به.فهذا الإيمان القوي هو خير دواء لعلاج هذا المرض الخطير، كما أنه خير وقاية من شره.قال الدكتور «فرانك لوباخ» العالم النفسي الألماني: مهما بلغ شعورك بوحدة نفسك فاعلم أنك لست بمفردك أبداً. فإذا كنت على جانب من الطريق فسر وأنت على يقين من أن الله يسير على الجانب الآخر (من مقال للأستاذ عبد الرزاق نوفل).واعتقاد المسلم أكبر من هذا وأعمق. إنه يؤمن أن الله معه حيثما كان، وليس على الجانب الآخر من الطريق، إن الله سبحانه يقول في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني" ويقول في كتابه العزيز: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم وإن يتركم أعمالكم) (محمد: 35).ويقول أديب غربي من كلمة يستقبل بها عاماً جديداً: قلت للرجل الواقف على باب العام: أعطني نوراً أستضيء به في ظلمات الطريق، قال: ضع يدك في يد الله فإنه يهديك سواء السبيل.إن شعور المؤمن بأن يد الله في يده، وأن عنايته تسير بجانبه، وأنه ملحوظ بعينه التي لا تنام، وأنه معه حيث كان، يطرد عنه شبح الوحدة المخيف، ويزيح عن نفسه كابوسها المزعج.كيف يشعر بالوحدة من يقرأ في كتاب ربه (ولله المشرق والمغرب، فأينما تولوا فثم وجه الله، إن الله واسع عليم) (البقرة: 115) (وهو معكم أينما كنتم، والله بما تعملون بصير) (الحديد: 4)؟ إنه لا يشعر إلا بما شعر به موسى حين قال لبني إسرائيل (إن معي ربي سيدين) (الشعراء: 62) وما شعر به محمد في الغار حين قال لصاحبه: (لا تحزن إن الله معنا) (التوبة: 40).إن شعور المؤمن بمعية الله وصحبته دائماً يجعله في أنس دائم بربه، ونعيم موصول بقربه، يحس أبداً بالنور يغمر قلبه، ولو أنه في ظلمة الليل البهيم. ويشعر بالأنس يملأ عليه حياته وإن كان في وحشة من الخلطاء والمعاشرين، ينشد ما قاله العبد الصالح يناجي ربه:
    إن قلبا أنت ساكنه
    غير محتاج إلى السرج
    وجهك المأمول حجتنا
    يوم يأتي الناس بالحجج

    بناء المجتمع الصالح :
    ويهدف الإسلام إلى تكوين المجتمع الصالح، كما هدف إلى الفرد الصالح، والأسرة الصالحة، وهما ـ لا شك ـ أساس متين لصلاح المجتمع المنشود 0والمجتمع الصالح هو الذي يرتبط أفراده وأسره بقيم الإسلام العليا، ومبادئه المثلى، ويجعلها رسالة حياته، ومحور وجوده.
    وأهم القيم الإسلامية في هذا المقام هي :
    1ـ التجمع على العقيدة: فالمجتمع الإسلامي ليس مجتمعا قوميا أو إقليميا، وإنما هو مجتمع عقائدي، مجتمع فكرة وعقيدة، وعقيدته هي الإسلام، فهو الأساس "الأيديولوجي" لهذا المجتمع 0قد يكون أبناء هذا المجتمع من أجناس مختلفة، أو ألوان مختلفة، أو أوطان مختلفة، أو ألسنة مختلفة، أو طبقات مختلفة، ولكن هذا الاختلاف كله يذوب وينصهر أمام وحدة العقيدة، أمام "لا إله إلا الله ـ محمد رسول الله"، أمام الإيمان المشترك الذي يضم الجميع في رحاب أخوته: { إنما المؤمنون إخوة } 0
    فإذا أردنا أن نصف هذا المجتمع بصفة فذة تميزه عما سواه، لم نجد إلا أن نقول: إنه "مجتمع مؤمن"، أو هو "مجتمع المؤمنين" أولئك الذين وصفهم الله تعالى في مطلع سورة البقرة: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون).
    والإيمان الإسلامي ليس مجرد شعار أو دعوى، أو تعصب على الآخرين، وإنما هو حقيقة تستقر في النفس، ينبثق عنها سلوك، ويصدقها عمل إيجابي، ومن ثم جسد القرآن الإيمان أبدا في أعمال وأخلاق، كما في أوائل سورة الأنفال، وسورة المؤمنين، وأواخر سورة الحجرات، وغيرها 0
    2ـ ومن هنا جاء الاهتمام بقيمة أخرى من القيم التي يقوم عليها المجتمع الصالح الذي يهدف الإسلام إلى تحقيقه، وهي: "احترام العمل الصالح" بل تقديسه، سواء كانت صيغته دينية كالصلاة والصيام والحج والعمرة، والذكر والتلاوة والدعاء، أم دنيوية، كالسعي في طلب الرزق، وعمارة الأرض بالزراعة والصناعة والاحتراف، وكل ما فيه منفعة الناس، والإحسان إليهم. فهذا أصل مقرر معروف، اعتبره القرآن ركنا في كل دين، مقرونا بالله واليوم الآخر. قال تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } 0
    وقرن القرآن العمل بالإيمان في أكثر من سبعين آية، في مثل قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } 0
    ولا ريب أن إقامة شعائر الله، وأداء فرائضه الكبرى ـ من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت هي أول ما ينطبق عليه معنى العمل الصالح، فليس هناك عمل أصلح للمخلوق من معرفة خالقه، وعبادة ربه، وإخلاص الدين له، شكرا لنعمته، ووفاء بحق ربوبيته، ولكننا رأينا في حديثنا عن "العبادة" في "مقومات الإسلام" أنها تسع الحياة كلها، وتشمل كيان الإنسان كله، فكل عمل نافع عبادة 0
    3ـ والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أصل بين من أصول هذا الدين، فليس يكفي ـ في منطق الإسلام ـ أن يكون المرء صالحا في خاصة نفسه، غافلا عن فساد غيره، بل الصالح عنده حقا، من أصلح نفسه، وحاول إصلاح غيره، ولو بالدعوة والأمر والنهي ، كما قال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون } 0 وبهذه الخصيصة ترجحت الأمة المسلمة على سائر الأمم: قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله } 0
    ومن هنا سجل القرآن لعنة الله لبني إسرائيل ـ على لسان داود وعيسى ابن مريم ـ لسكوتهم عن المنكر ـ وعدم تناهيهم عنه ، قال تعالى : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون } 0
    4ـ والجهاد في سبيل الله ـ حماية للحق، وتثبيتا للخير، وتأمينا للدعوة، ومنعا للفتنة، وصدا للمغيرين، وتأديبا للناكثين، وإنقاذا للمستضعفين ـ أصل إسلامي لا ينكره مسلم، ولا يجهل منزلته وفضله، وما أعد الله لأهله، فضلا عن مشروعيته، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا، والله على كل شيء قدير } ، وقال تعالى : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها } 0
    5ـ وتثبيت الفضائل الخلقية كلها في شتى جوانب الحياة، ونشرها وحمايتها، من العدل، والإحسان، والبر، والصلة، والتعاون على البر والتقوى، واحترام النظام، والصدق والعفاف، ورعاية الأمانة والوفاء بالعهد، والإخلاص في السر والعلانية، وقول الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، وكف اليدين واللسان عن إيذاء الناس، وطهارة القلب من الغل والحسد، والرياء، والنفاق، وحب الدنيا، وسائر أمراض النفوس ـ كلها من الركائز المعنوية التي لا يقوم مجتمع مسلم إلا عليها 0

  9. #29
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة الحادية والعشرون :
    أخلاقيات لا بد منها تزيد من مستوى الصحة النفسية :
    الإخاء والمحبة :
    والإخاء والمحبة من دعائم المجتمع المسلم، وهذا مقتضى الإيمان الذي يربط بين أهله برباط العقيدة الوثيق : { إنما المؤمنون إخوة } 0
    وقد أثبت التاريخ والواقع أنه لا رباط أقوى من العقيدة، وأن لا عقيدة أقوى من الإسلام 0
    وأدنى مراتب هذا الإخاء: سلامة الصدور من الحسد والبغضاء، التي اعتبرها الحديث النبوي: "داء الأمم" وسماها "الحالقة"، ليست حالقة الشعر ولكن حالقة الدين، وقد مدح الله تعالى أجيال التابعين للصحابة بإحسان بقوله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا } 0
    وكلما عمقت جذور الإيمان ، امتدت فروع الإخاء وظلاله وثماره في النفس والحياة ، وتحررت الأنفس من الأنانية المقيتة، وتطلعت إلى العطاء لا الأخذ، وإلى التضحية لا الغنيمة، وفي الحديث الشريف : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) 0
    وقد يرتقي ذلك إلى درجة الإيثار الذي وصف الله به مجتمع الصحابة بقوله تعالى : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } 0
    التعاطف والتراحم:
    التعاطف والتراحم ، وهذا من ثمرات الإخاء الحق ، وهو ما صوره الحديث الشريف أبلغ تصوير حين قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء، بالحمى والسهر ) 0
    وفي الحديث الآخر : ( الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) 0
    وأوجب ما يكون العطف والرحمة ، للضعفاء من الناس من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل والخدم والمعوقين من البشر، ولهذا اعتبر القرآن من مظاهر الكفر والتكذيب بالدين القسوة على هؤلاء وتركهم يهلكون جوعا وعريا وضياعا 0قال تعالى : { أرأيت الذي يكذب بالدين() فذلك الذي يدع اليتيم ()ولا يحض على طعام المسكين } ، وذم المجتمع الجاهلي بقوله تعالى : { كلا بل لا تكرمون اليتيم ()ولا تحاضون على طعام المسكين } 0
    ويعرض علينا القرآن مشهدا من مشاهد يوم القيامة، وإذا الذي يأخذ كتابه بشماله، لم يغن عنه ماله، أو يمنعه سلطانه، ينادي عليه على رؤوس الإشهاد ، قال تعالى : { خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين }، فرق بين عدم الإيمان وعدم الحض ، ليدل على عظم جريمة القسوة على المساكين 0
    التساند والتعاون:
    التساند والتعاون، وهو المظهر العملي للإخاء والتراحم، والتعاون الإسلامي مجاله البر والتقوى وليس الإثم والعدوان، كما بين ذلك القرآن الكريم: (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، ولهذا حرم الإسلام الربا والاحتكار لما فيهما من استغلال القوي للضعيف، واعتصار الغني للفقير 0
    وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك أصابعه ) 0
    وهو يشمل التعاون بين أفراد الشعب وفئاته بعضهم بعض، أو بين الشعب والحاكم، كما ذكر القرآن التعاون بين ( ذي القرنين ) ، وتلك الجماعة المهددة من (يأجوج ومأجوج ) قال تعالى : { ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما } 0
    التكافل والتضامن:
    التكافل والتضامن : بحيث ينهض القوي بالضعيف، ويعود الغني على الفقير، ولا يضيع عاجز ولا مسكين في هذا المجتمع، والحد الأدنى في ذلك هو فريضة الزكاة ـ الركن الثالث في الإسلام ـ والتي يقوم عليها حراس ثلاثة: حارس من داخل ضمير الفرد المسلم، وهو الإيمان وحارس من داخل المجتمع ، وهو الرأي العام المسلم ، وحارس من قبل الدولة، وهو القانون والسلطان ، قال تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } 0
    وفي المال حقوق أخرى سوى الزكاة، وبخاصة حق الجار على جاره، بحيث يتكافل المجتمع له في السراء والضراء 0
    وفي الحديث الشريف : ( ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع ) 0
    والتكافل الإسلامي يستوعب كل جوانب الحياة ـ مادية، ومعنوية ـ فهو تكافل معيشي وعلمي وأدبي وعسكري إلى غير ذلك من المجالات 0
    التواصي والتناصح:
    التواصي والتناصح ، وهذا من التكافل الأدبي ، الذي يجعل كل مسلم مسئولا عمن حوله من أبناء المجتمع، ينصح لهم وينصحون له، ويوصيهم بالحق والصبر، ويتقبل الوصية منهم كذلك.وليس في المسلمين أحد أكبر من أن ينصح، ولا أحد أصغر من أن ينصح 0 وهذا من أساسيات الدين ، وموجبات الإيمان، وشروط النجاة من الخسران ، قال تعالى : { والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}0
    وقال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر }0
    وفي الحديث الشريف : ( الدين النصيحة لله ، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم )0
    التطهر والترقي:
    التطهر والترقي ، فالمجتمع المسلم مجتمع نظيف يربي أبناءه على الطهارة والعفة والإحصان، ويحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويعتبر الخمر والميسر، رجسا من عمل الشيطان، ويأمر المؤمنين والمؤمنات أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، وينهى عن التبرج والإغراء بالقول أو بالمشي أو بالحركة، حتى لا يطمع الذين في قلوبهم مرض، وحتى لا يثير الغرائز الهاجعة، فتنطلق تعيث وتعربد، بلا قيود من خلق ولا دين 0
    والمجتمع المسلم ليس مجتمع ملائكة مطهرين ، ولكن من ابتلي منهم ، بارتكاب معصية، استتر بها، ولم يتبجح بفعلها، أو بالإعلان عنها، وبذلك ينحصر أثرها، ولا يتطاير شررها، ثم يرجى منه بعد ذلك أن يتوب منها ، قال تعالى : { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين }0
    العدالة:
    العدالة ، وتشمل عدالة التعامل بين الناس في شئون الحياة، فإن العدل فريضة، والظلم حرام، كما في الحديث القدسي : ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا ) 0
    وتشمل العدالة الاقتصادية أو الاجتماعية التي تقف في وجه الأقوياء حتى لا يمتصوا دماء الضعفاء، بل تعمل على الحد من طغيان الأغنياء، بقدر ما ترفع من مستوى الفقراء، وما تفرض لهم من حقوق المال، الزكاة، أولها وليست آخرها.
    وتشمل العدالة القانونية والقضائية، بحيث يصل لكل إنسان حقه، وإن كان عند خليفة المسلمين، وأن يستوفي عقوبته على جرمه، وإن كان ابن أمير المؤمنين 0
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وايم الله ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )0

  10. #30
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة الثانية والعشرون :
    المفهوم الإسلامي للشفاء
    حقيقة أنه من الصعب بالنسبة للكثيرين من الأطباء المسلمين أن يدركوا معنى المفهوم الإسلامي للصحة والمرض والشفاء ، حيث أنهم قد تدربوا على المنهج الطبي الغربي فهم غالبا ما يشعرون أنهم يعيدون عن جذور دينهم ( برودي ، مدرسي ، وآخرين ـ 1976 ) ، ومع ذلك فإن القرآن الكريم والحديث قد قدما تعليمات واضحة للأطباء . قال تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } 0
    إن فهم هذا الإرشاد يعتبر حاسما لهؤلاء الذين يقومون على علاج الأمراض العقلية خاصة إذا كان المريض طفلا 0 وسنتفحص هنا في هذا الموضوع المفهوم الإسلامي للشفاء واستخدامه في علاج الأطفال والكبار الذين يعانون من الأمراض العقلية الخطيرة 0 كما سيتعرض الموضوع فيما بعد لتصور الإسلام بالنسبة لوحدة الإله ووحدة النواميس الكونية وكيف تؤثر الوحدة على مفهومها عن المرض والشفاء ، ولعلني أضيف أن فكرة الوحدة هذه سارية في مجال الطب عموما وأن أثرها ليس مقصورا على الصحة النفسية والعقلية 0
    إن الاتجاه الحالي للطب النفسي في الغرب وخاصة في أمريكا لا يؤكد فقط على الأساس البيولوجي والتكويني والوراثي للمرض العقلي ولكنه كذلك يركز على العوامل النفسية والعاطفية والإدراكية ، وبالرغم من الجهود الحديثة للابتعاد عن المفهوم الديكارتي الذي يفصل العقل عن الجسد فلا زالت هناك بعض بقايا الطريقة الديكارتية في التفكير بين العديد من الأطباء والباحثين وليس غريبا بالنسبة للمرض العقلي أن نسمع تعبير ( عاطفي ) في مقابل تعبير ( عضوي ) أو أن نرى نقاشا بين هؤلاء الذين يعزون وجود المرض العقلي إلى عوامل بيولوجية وهؤلاء الذين يؤكدون على إرجاع وجوده إلى العوامل البيئية 0 هذا النمط من التشتت والتجزئة العلمية تختلف عن المفهوم الإسلامي الذي يحثنا على الكشف وإلقاء الضوء على الاعتبارات التي ترتكز عليها تلك الوحدة من الانسجام في خلق الله 0 قال تعالى :{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } 0
    وحتى يمكننا أن نعرض بوضوح للمفهوم الإسلامي للمرض والشفاء قد تلزمنا بعض المعلومات والآراء التي ذكرت في هذا الصدد في الأديان الأخرى ، وكيفية شرح الأديان الأخرى لمعنى المرض وكيفية تصورها للعلاج ، وإلى أي مدى تتشابه أو تختلف هذه المفاهيم مع المفهوم الإسلامي 0
    لمعنى المرض والشفاء ، فهناك أيضا اختلافات هامة ، وفيما يلي موجز مبسط لتلك المفاهيم . إن العهد القديم لا يفرق بين الكاهن والطبيب ، فالبرص كان يقوم الكاهن بفحصه لتحديد حالته الصحية ، وذلك على خلاف العقيدة الإسلامية التي تضع حدا واضحا بين الطبيب ورجل الدين فبالنسبة لعلم اللاهوت تبعا للعهد القديم فإن الكاهن يدرس بالتفصيل كيفية التعرف على خصائص البقع الجلدية غير النظيفة دينيا ، فهو يجب أن يحدد إذا كان الجرح عميقا عن سطح الجلد وإذا ما كان الشعر في منطقة الجرح قد أصبح أبيض أو محمرا 00 الخ ، فالعهد القديم يضعها صريحة في أن المرض هو عقاب على خيانة الإنسان لخالقه حيث نقض عهده مع الإله وأطاع وعبد معبودات غريبة ، وتؤكد الطقوس الخاصة بتطهير الأبرص خطيئة الإنسان 0 وعلى الكاهن أن يأخذ حملا ذكرا ويقدمه مع بعض الزيت من أجل الذنب الذي وقع ، وعليه أن يلوح بهم أمام الإله ثم يذبح الحمل في المكان الذي يقتلون فيه الخطيئة الواقعة والفعل المحروق في المكان المقدس ، حيث أن الذنب الواقع مثل الخطيئة الواقعة من اختصاص الكاهن ، وأن الشيء أعظم قدسية 0 وقد ذكروا في كتبهم أن الإله يقول لموسى : " لا أحد من آل هارون خلال الأجيال المتعاقبة تكون به وصمة فإنه قد يقترب بتقديم خبز للإله ، وقد يأكل من خبز الإله ، فكلاهما أعظم قدسية من الأشياء المقدسة ، ولكنه لا يجب أن يقترب من الحجاب أو المذبح لأن به وصمة قد تدنس معابدي لأنني أنا الرب الذي يقدسهم " 0 ( ناجي مدرسي ، أنترنت ) 0
    و تبعا للعهد القديم فالشفاء عملية يبرأ بها المريض ثانية وهي مرتبطة ارتباطا كبيرا بالسلطة الدينية ، فالمرض إذن رمز للذنب وفي نفس الوقت رمز للعقاب ، إن الشفاء هو أن يستعيد المريض اكتماله الأخلاقي والبدني ، وربما يكون مأمونا أن نستنبط هذا أن المريض يكون مدركا لخطيئته وأنه عالم بعدم طاعته للإله وبالتالي يستحق العقاب ، وبصورة أخرى فإن رأي العقد القديم بالنسبة للمرض والشفاء هو أساس علة ومعلول ومأخوذ من قانون القصاص : العين بالعين والسن بالسن ، بمعنى أن المرض ينظر إليه كشكل من أشكال العقاب الإلهي 0 وفي الحقيقة أن الأجزاء الخارجية للجسم تعتبر تبعا للعهد القديم مكان المرض ، فهذه الأجزاء هي رموز لفضيحة الإنسان وعاره ونقضه لوعوده 0 إن نظرة العهد الجديد إلى الإنسان المريض هي نظرة رحيمة متسامحة وهي تقوم إلى حد كبير على نهج وعقيدة سيدنا عيسى عليه السلام ، فهو يعتبر في نظر المسيحيين والمسلمين على السواء معالجا ومعبدا للحياة وطبيبا روحيا ، فهو يعطي اهتماما خاصا للمصاب والمريض أي للحالة البشرية ، إن عقيدة الشفاء بواسطة الطقوس الروحية كاللمس وأن يلمسه عيسى معيد الحياة الحي الخالد تجلب في الذهن صورا هامة تعد أساسية للمهنة الطبية 0 إن المذهب المسيحي يعتبر الأمراض ملكا للشياطين وأنها تعتبر فسادا روحيا ، وتبدو فكرة أن الشيطان يسكن الروح البشرية من خلال انغماس الإنسان في المتع الحسية ، وقدم المسيح جسده فداء لجشع الإنسان وطمعه ، وعلى ذلك يصبح المرض نوعا من الموت ، فهو فقدان لمسة من جسد عيسى 0 إن أي شخص يأكل ويشرب دون تمييز الصالح لجسده ، فالأكل والشرب حكم إلهي واقع عليه ، وهذا هو السبب في أن العديد من الناس ضعاف ومرضى وأن بعضهم قد مات 0 إن جسد عيسى هو الشفاء والموحد ، وهكذا فإن الموت الجسدي أن يعزي إلى تناول مواد طبية ولكن دون مراعاة لما يلائم جسد المسيح عيسى ، فالموت الطبيعي " جزاء الخطيئة " وعملية فداء المسيح هي تغلب على الموت بإعادة الحياة
    " ابتلع الموت إلى غلبه "
    وفي رأيهم فإن حياة المسيحي تعتبر حياة الخلود ، والنقيض لذلك هو الموى الأبدي ، وبالطبع فإن الروح القدس هي القوة التي وراء هذه الحياة الأبدية ، تلك الروح القدس التي تحرك من خلال طقوس الشفاء والأدعية باسم المسيح عيسى التي تطرد الأرواح الشريرة .
    أما في الإسلام فنجد في القرآن الكريم والحديث إشارات تعرض مفاهيم المرض والشفاء ، ففي النص التالي من القرآن ما ويوضح أن الشفاء يعادل تغيرا في القلب ، وأن الإنسان حين يتوب إلى الله يجد الأمن والشفاء 0 قال تعالى :{ قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب}0 قال تعالى : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } 0إن ذكر الله هو الطريق للرضا والأمان ، وهناك إشارات كثيرة في القرآن إلى ذكر الله ، قال تعالى : { واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } 0 وذكر الله يكون بترديد أسمائه العديدة واستشعار معناه ومن خلال الشهادة : ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) ورغم أن القرآن يحذر المؤمن من ضرر الشيطان في إيجاد الفساد والمرض في الأرض ، فإنه يتخطى المذهب المسيحي مضيفا أمرين هامين ، الأمر الأول إشراك الإنسان نفسه ومسئوليته بالنسبة للصحة والمرض ، والأمر الثاني بحث الإنسان عن الفهم والمعرفة في خلق الله كي يعطي لوجوده معنى 0 وحيث إن الإنسان مسئول عن حياته على الأرض ويعتبر المرض صورة من صور الجهل بالصحة والشفاء ، والعمل الأساسي للمؤمن هو في التعرف إلى الله وعلى خلقه 0 إن الخلق في ذاته هو توضيح رمزي لله ، وأن القرآن يتحدث بوضوح عن الطريق والاتجاه الذي يجب أن يسلكه الذين يؤمنون حتى يقفوا على معرفة الله 0 إن الخلق كامل ، أما جهل الإنسان ورفضه النظر فيما حوله فهذا هو غير الكامل والمؤلم (مثال المرض) ، وهذا هو السبب في أن القرآن يحدثنا عن المنافقين فيقول : { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب اليم بما كانوا يكذبون } ، فالوصول إلى الحقيقة الإلهية واكتشاف ما هو حقيقي وما هو زائف هو الخلاص بالنسبة للمسلم وهو الأداة التي ستشفيه ، وهكذا فإن الإسلام يوفر صلة مباشرة بين الله والإنسان ، هذه العلاقة هي علاقة شاملة فيها دعوة للإنسان ليتعلم حقيقة نفسه والخلق 0 والله برحمته يهدي من يشاء أن يعرف قال تعالى : { الرحمن () علم القرآن () خلق الإنسان () علمه البيان } 0
    ومن خلال هذا السياق يتبين ، أن المفهوم الإسلامي للمرض والشفاء فريد بين تعاليم الديانات الأخرى ، فهو يعتبر المرض شكلا من أشكال الجهل بالمخلوقات 0 أن علمية الشفاء هي أن ندرس خلق الله والحقيقة إن الانحراف والتزييف والفساد في خلق الله هي من عمل الشيطان ، على أساس المبدأ الشيطاني للعصيان والتغطرس ضد خلق الله 0 ( ناجي مدرسي ، أنترنت )0

  11. #31
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة الثالثة والعشرون :


    بناء الإنسان الصالح يزيد من صحته النفسية :
    أول ما يهدف إليه الإسلام هو بناء "الإنسان الصالح" الجدير بأن يكون خليفة الله في الأرض، والذي كرمه الله أفضل تكريم، وخلقه في أحسن تقويم، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا، فهو إنسان اكتملت فيه خصائص الإنسانية، وارتفع عن حضيض الحيوانية البهيمية أو السبعية، وهذا الإنسان الصالح هو أساس الأسرة الصالحة، والمجتمع الصالح، والأمة الصالحة 0
    الإنسان إيمان وعقيدة:
    وإنسان الإسلام هو ـ قبل أي اعتبار ـ إنسان إيمان وعقيدة، قد اتضحت فكرته عن نفسه، وعن العالم من حوله، فهو ليس نباتا شيطانيا) كنبات البرية ) ، ظهر وحده من غير زارع زرعه، ولا الكون من حوله برز وحده من غير خالق خلقه ومدبر دبره، بل هو يؤمن أن له ربا خلقه فسواه فعدله، وعلمه البيان، ومنحه العقل والإرادة، وأرسل إليه الرسل، وأنزل له الكتب، وأقام عليه الحجة، وعرفه الغاية، والطريق . كما أن هذا العالم البديع وراءه خالق عظيم، خلق كل شيء فقدره تقديرا، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ولكن الذي خلقه سيفنيه، ويبدل به عالما آخر، هو عالم الخلود، فيه توفى كل نفس ما كسبت، وتجزى بما عملت، وهم لا يظلمون 0 قال تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } 0 وقال تعالى : { ليس بأمانيكم ولا بأماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجزى به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا } 0
    وبهذا عاش الإنسان المسلم مؤمنا بالله تعالى ، مؤمنا برسالاته ، بجميع كتبه ورسله ، وآخرها رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مؤمنا بلقائه تعالى وحسابه وعدالة جزائه، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم 0 إن هذا الإيمان هو أول ما يميز الإنسان المسلم ، فهو مؤمن بعقيدة جوهرها التوحيد 0
    ومعنى التوحيد: أنه لا خالق إلا الله، ولا معبود إلا الله ، فهو يعني توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، ولا يغني أحدهما عن الآخر، فقد كان مشركوا العرب يؤمنون بأن الله هو وحده خالق السموات والأرض ، كما ذكر القرآن الكريم ذلك ، قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } 0 ومع هذا الإقرار بتوحيد الربوبية، رأيناهم يعبدون مع الله آلهة أخرى، بغير سلطان ولا برهان، إلا دعاوى فارغة، قال تعالى : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } 0 وقال تعالى : { وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } 0
    والإسلام جاء دعوة تحريرية كبرى ، لتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله تعالى ، من عبوديته للطبيعة، وللأشياء، في الأرض كانت أو في السماء، ومن عبوديته للحيوان، ومن عبوديته للشيطان، ومن عبوديته للإنسان، سواء كان ملكا أم كاهنا، بل من عبوديته لنفسه وهواه، فلا يعبد إلا الله، ولا يشرك به شيئا 0 ولهذا كان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم برسائله إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام ويختم رسائله إليهم بهذه الآية الكريمة: { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينك ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } 0

    الإنسان نسك وعبادة:
    وإنسان الإسلام كذلك، إنسان نسك وعبادة، فهو يعلم أن الكون من حوله خلق له، أما هو فخلق لله وحده، وبهذا أدرك غاية حياته، وسر وجوده 0 فعبادة الله وحده لا شريك له، هي غاية غاياته، فلها خلق، ومن أجلها سخر له ما في السموات وما في الأرض. يقول الله تعالى : { وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرازق ذو القوة المتين } 0
    إن المخلوقات يخدم بعضها بعضا ـ كل جنس يخدم ما كان أعلى منه مرتبة، فالجماد يخدم النبات، والنبات يخدم الحيوان، والحيوان يخدم الإنسان، فمن يخدم الإنسان؟ الإنسان لم يخلق إلا لخدمة ربه وبارئه، أي لعبادته، وعبادته وحده، دون إشراك أحد أو شيء من خلقه في الأرض، أو في السماء 0 بهذا بعث الله الرسل على مختلف العصور والأزمان: قال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } 0 وقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } 0
    ومن هنا يحب الإنسان المسلم متعبدا لله تعالى ، مؤتمرا بأمره ، منتهيا عما نهى عنه ، جاعلا خشيته وتقواه نصب عينه 0 قال تعالى : { إنما يتقبل الله من المتقين } 0
    وتتمثل العبادة أول ما تتمثل في إقامة الشعائر الكبرى التي فرضها الإسلام وجعلها من أركانه العظام، من الصلاة والصيام والزكاة والحج، ثم ما يكملها من الذكر والدعاء وتلاوة القرآن، والتسبيح والتهليل والتكبير. فالمسلم يذكر ربه في كل حين، وعلى أية حال، في أكله وشربه، وعند نومه وعند يقظته، وفي إصباحه وإمسائه، ولدى مدخله ومخرجه، ويوم سفره وأوبته، وعند لبسه ثوبه، أو ركوبه مركبته، حتى عند ممارسته الغريزية مع أهله لا ينسى في هذه المواقف وغيرها أن يذكر الله تعالى شأن أولى الألباب 0 قال تعالى : { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } 0
    وإذا كان أكثر أتباع الأديان لا يعبدون ربهم إلا مرة في كل أسبوع، فإن المسلم على موعد مع الله كل يوم خمس مرات، في صلواته المفروضة، ثم هو مع الله دائما بالنوافل والذكر والدعاء والاستغفار ( قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا }0 على أن المسلم يستطيع أن يجعل حياته كلها عبادة إذا التزم منهج الله، وقصد بعمله ـ حتى الدنيوي ـ وجه الله تعالى 0
    الإنسان خلق وفضيلة:
    والإنسان المسلم ـ إلى جوار كونه إنسان إيمان وعقيدة، وإنسان نسك وعبادة ـ هو أيضا إنسان خلق وفضيلة، تتجسم فيه الطهارة بكل معانيها، وتتمثل فيه فضائل العدل والرحمة والإيثار، قد اتخذ من رسول الله أسوة حسنة وقد بعثه الله ليتمم مكارم الأخلاق ، ووصفه بأنه على خلق عظيم ، فهو يقتبس من نوره ويهتدي بهداه، ويتخلق بخلقه، ليكون أقرب إليه يوم القيامة ، فهو إنسان قد انتصر على نوازعه وشهواته ، حين زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والمراقبة، حتى انتقلت من النفس الأمارة بالسوء) إلى (النفس اللوامة، وبهذا استحقت الفلاح حين انتصرت فيها التقوى على الفجور، كما قال تعالى : { ونفس وما سواها () فألهمها فجورها وتقواها ()قد أفلح من زكاها () وقد خاب من دساها } 0
    لقد علمنا الإسلام أن الخلق والفضيلة من لوازم العقيدة، وتمام الإيمان، كما أنهما ثمرة لازمة للعبادة الحقة، وإذا لم تثمر العبادة في الخلق والسلوك دل ذلك على أنها عبادة مدخولة 0 ( القرضاوي ، انترنت ) 0
    والقرآن الكريم يحدثنا عن الإيمان مجسدا في أخلاق وفضائل ، كما في قوله تعالى : { قد أفلح المؤمنون () الذين هم في صلاتهم خاشعون ()والذين هم عن اللغو معرضون ()والذين هم للزكاة فاعلون () والذين هم لفروجهم حافظون00} 0
    والرسول الكريم يحدثنا عن الإيمان كذلك في صورة أخلاق وأعمال وفضائل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليصل رحمه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) 0
    وقال عليه الصلاة والسلام : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى من الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ) 0
    وقد ألف الإمام البيهقي كتاب كبيرا سماه ( الجامع لشعب الإيمان ) 0
    يشمل كل الفضائل وأعمال الخير التي دعا إليها الإسلام، واعتبرها كلها من شعب الإيمان، كما دل على ذلك الحديث 0
    والعبادات الشعائرية المفروضة من شأنها أن تثمر زكاة النفس، بالفضائل، وطهارتها من الرذائل، كما أشار إلى ذلك القرآن، إذ يقول في شأن الصلاة : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } وفي شأن الزكاة يقول تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } ، وفي شأن الصيام ، يقول تعالى : { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } 0
    وفي الحديث عند البخاري ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) 0
    ويقول عليه الصلاة والسلام أيضا : ( رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ) 0
    وخلق المسلم لا يتجزأ، فهو ليس كخلق اليهودي الذي يحرم الربا في تعامله مع مثله، ويستحله في تعامله مع الآخرين ، وليس كخلق إنسان الغرب الاستعماري الذي يتعامل داخل أوطانه بأخلاق وفضائل مثالية، فإذا تعامل مع البلاد الأخرى سرق وظلم ، وطغى واستكبر0
    المسلم يعدل مع من يحب ومن يكره، مع القريب الأقرب، ومع العدو الأبعد ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين }0
    وقال تعالى : { ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله }0
    وكل ما ذكرته سابقا يزيد من مستوى الصحة النفسية عند الفرد ، ويجعله متمتعا بصحة نفسية قوية 0

  12. #32
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة الرابعة والعشرون :
    القلق واللجوء إلى الله :
    إذا تكلمنا عن القلق فكثيراً ما نتحدث عن التفسيرات الغربية اللادينية والتي تفسر أسباب حالات القلق على أسس مادية بحتة فمن قائل أنها بسبب دوافع ورغبات كامنة في النفس وتحاول أن تجد لها مخرجاً إلى أرض الواقع ويحاول الضمير اليقظ كبتها ومنعها من الظهور أو على الأقل تلبية رغباتها بشكل مقبول اجتماعياً . ومن قائل أن السبب الرئيسي هو وجود شخص مهم في حياة الإنسان ( خصوصاً الأبوين ) يعاني من مشكلة القلق ، تعلم منه الطفل المسكين - بالاقتداء به وبشكل غير مباشر – كيف يتعامل مع جميع أمور الحياة من حوله والتي ينتج عنها الشعور بالتوتر والقلق . والبعض يرجعها إلى أسباب عضوية بحتة منها اضطراب النواقل العصبية في المخ أو الأسباب الوراثية 0 ولكن كثيراً ما ننسى سبباً مهماً ورئيسياً أخبرنا به الله عز وجل من فوق سبع سموات ، الله الذي خلق هذه النفس البشرية فأبدع خلقها وأودعها هذه المشاعر والأحاسيس وأقسم بها تعظيماً لشأنها حيث قال تعالى : { ونفس وما سواها } 0
    يبين الله عز وجل لنا في أمر الخوف والخشية 0والقلق ما هو إلا خوف من خطر ، خطر واضح ومحدد أو خطر مجهول ومرتقب 0 يقول الله سبحانه : { الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } 0
    فمن جعل الناس والدنيا همه خشيهم وخاف على دنياه وأما من جعل الله حسبه وتوكل عليه زاده الله أيماناً ويقيناً وشرح صدره كما قال عز وجل : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } 0 فأي نور أعظم من نور الله وأي راحة نفسية وطمأنينة ينشدها الإنسان كتلك التي يشرح الله بها صدر الإنسان ، قال تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } 0 فمن توكل على الله كفاه ومن لجأ إلى ربه أواه ، كيف لا وهو الحي القيوم ،قيوم السموات والأرض ، إليه تلجأ الخلائق كلها ، الأنس والجن ، وكل ما يمكن أن يقلق عليه الإنسان أو يخاف منه إلا وجهه الكريم سبحانه ، قال تعالى : { وتوكل على الحي القيوم } ، وقال تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } 0 فكيف وعلام يقلق الذي هو دائم الذكر له عز وجل ، دائم الاستحضار لعظمة سلطانة ورحمته وعطفه على عباده المؤمنين 0 قال تعالى : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } 0 فمن ذكر الله حقاً بلسانه وقلبه وجوارحه رزقه الله طمأنينة القلب وراحة النفس وكفاه القلق والخوف على دنيا لا تساوي عنده سبحانه جناح بعوضة وأما من أعرض عن ذكر الله تعالى ، فقد قال تعالى : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً } ، ومهما حصل له من أسباب النعيم الدنيوي ومهما جمع من أسباب الراحة الزائلة ( فإن له معيشة ضنكاً ) فأيهما تختار : القلق أم اللجوء إلى الله0

    الوقاية الدينية من المرض النفسي :
    ومن ذلك كله يتجلى أن الإيمان كثيرا ما يكون العقيدة المثلي والسلوك الصالح لاستقرار الأنا واطمئنان النفس ، لكن السلوك الذي يخرج عن الدين أو بالعكس الذي يأخذ شكل العبادة المفرطة يصل أحيانا أمرا خطيرا قد يؤدي إلى الشذوذ والانحراف وإلى مشتبكات نفسية معقدة ومن ذلك ينبغي أن تتضمن الوقاية من المرض النفسي في البيئة العربية الإسلامية الاهتمام بالتربية الأخلاقية، وبتركيز القيم الدينية كدعامة للسلوك السوي وكشرط أساسي للتوافق النفسي والاجتماعي والمعروف، أن الدين الإسلامي يوحي بالاهتمام بالحياة الدنيا والآخرة، وبإحداث توازن بين الملذات والماديات والأخلاقيات والروحانيات كي يتم التوافق النفسي 0 يقول الشيخ الرئيس ابن سينا الذي أشار إلى أن : " أنفع البر هي الصدقة وأزكى السر هو الاحتمال ، وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما صدر عن الحكمة والفضائل وعن معرفة الله أول الأوائل " 0
    المتدين والمرض النفسي :
    التدين كما قدمنا أحد العوامل الدفاعية ضد المرض النفسي 0 إلا أن التدين قي ذاته عبء نفسي شديد 0كما أن بعض المرضى قد يلجأون إلى التدين على تصور أنه هو العلاج 00 غير أن الدين الصحيح لا يقبل به إلا مسلم صحيح ومن هناك يظهر المرض رغم التدين ومظاهره 0
    ما هو موقف الدين من العلاج :
    العلاج فضيلة مندوبة لكل سقم من واقع حديث رسول الله صلى الله عليه وسم : ( تداووا عباد الله فإن الله ما خلق داء إلا وخلق له دواء ) 0 ولا يختلف على هذه القاعدة مسلم أو كافر0 ولا يختلف أو يمتنع تناولنا للمرض بالتداوي منه بسبب أن المرض عضوي أو نفسي 0 وكما نعلم فإن لكل داء دواء يستطب به والأمراض النفسية لها علاجها الذي يمكن أن نجمله بأنه يقع على ثلاثة محاور ، وهي :
    1ـ العلاج العضوي البيولوجي : فمع التقدم العلمي ثبتت العلاقة بين التغيرات البيولوجية والتغيرات النفسية سواء في مرحلة السواء أو مرحلة المرض 0
    2ـ العلاج النفسي بأنواعه المختلفة : ومن بينها العلاج المعرفي والسلوكي والإسلام يركز في قواعده على هذا الاتجاه لتصحيح مفاهيم البشر وتعديل عاداتهم وسلوكياتهم 0 وأعتقد أن استخدام هذا الاتجاه يتمشى مع الفلسفة العامة للإسلام0 بل إن الاتجاه إلى العلاج المعرفي الجماعي بدأ مع الإسلام في حلقات الدروس في المساجد وغيرها 0
    3ـ العلاج الاجتماعي لتطوير الظروف البيئية والاجتماعية لتكون أكثر مناسبة للمريض الأمر الذي يساعد على عودته إلى السواء وأعتقد أن العقيدة الصحيحة لا تمنع أيا من هذه العلاجات ثم إننا نلاحظ في قضية العلاج النفسي تطورا جديدا يهتم بتعديل المفاهيم الدينية الخاطئة لدى المرضى وإعدادهم لتقبل قضاء الله وقدره وتحفيزهم على العمل المنتج في الدنيا لتحصيل خير الدنيا والآخرة وهذا ما نسميه العلاج الديني 0 والعلاج الديني كغيره من أنواع العلاجات يستخدم مع مرضى معينين ولا يستخدم مع كل المرضى 0 ولهذا فإننا في تحقيق العلاج0 لأن العلاج في المرض النفسي لا يقوم به فرد واحد وإنما تقوم به مجموعة من الأفراد ذوي تخصصات مختلفة 0 في فريق العلاج لا يمنع من وجود الداعية الديني على أن يقوم بدور محدد يعاون على الشفاء 0 ويحدده له الطبيب النفسي الذي يقوم بقيادة الفريق 0

    الدور النفسي للداعية المسلم :
    إن الإسلام دين الجميع والمسلمون كأسنان المشط وتميز فرد مسلم بالعلم يلقى عليه كمسئولية الخشوع لله وخشيته ، قال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } 0والداعية المسلم عليه دوره التعليمي المعرفي إلا أن له دورا نفسيا مؤكدا في كل ما يعلم به ويأتيه من عمل 0 وهذا الدور يمكن أن إيجازه في دورين مهمين ، أو رئيسيين ، وهما :
    الدور الوقائي :
    وفيه ما يلي :
    1ـ مساعدة المسلم على حل مشاكله الاجتماعية والأسرية ويساعد على ذلك موقف الاحترام الذي يكون من المسلم للعلم والعلماء وخضوعه لهم مهما كان انفعاله وعصبيته 0
    2ـ مساعدة المسلم على تقبل الحياة وتحقيق الرضا النفسي من خلال الإيمان بالقضاء والقدر والموقف التفاؤلي الإسلامي للحياة 0
    3ـ مساعدة المسلم على تقوية الوازع الديني والقوى الروحية في نفسه وهكذا يساعد على بناء الضمير الفردي الذي يقود معركة الصراع الإنساني ضد غرائز الفرد ورغباته غير المشروعة ،التي تهدم الفرد ثم المجتمع ، كما يساعد على بناء الضمير الجماعي للمجتمع الذي يشكل قوانين المجتمع وعاداته وتقاليده 0
    4ـ مساعدة المسلم على فهم الحياة بنوازعها المختلفة والمؤثرة وتحقيق الاتزان في هذا الفهم مما يعدل المفاهيم والقيم ويصل بالفرد إلى الاطمئنان النفسي 0
    5ـ الاهتمام بالمسلم كإنسان في مجتمع ومحاولة التأكيـد على الروابط الاجتماعية للإنسان الأمر الذي يساعد الفرد على الانتماء للمجتمع ويزيد من صلابة المجتمع 0
    6ـ التمييز بين التغيرات الوجدانية والنفسية التي تطرأ على الفرد من ناحية وقد يساعد على إعادتها إلى السواء الوسائل الدينية المختلفة وبين الاضطرابات النفسية التي تستدعي تدخل الطبيب النفسي 0
    وهذه النقاط تستدعي إعادة تدريب الدعاة في المعارف النفسية ليتمكنوا من القيام بكل هذه الواجبات 0
    الدور العلاجي :
    المشاركة في فريق العلاج طبقا لخطة مرسومة محددة يحددها الطبيب النفسي 0

  13. #33
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة الخامسة والعشرون :
    ما هو موقف الدين من العلاج ؟
    العلاج فضيلة مندوبة لكل سقم من واقع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تداووا عباد الله فإن الله ما خلق داء إلا وخلق له دواء ) 0 ولا يختلف على هذه القاعدة مسلم أو كافر0 ولا يختلف أو يمتنع تناولنا للمرض بالتداوي منه بسبب أن المرض عضوي أو نفسي 0
    وكما نعلم فإن لكل داء دواء يستطب به والأمراض النفسية لها علاجها الذي يمكن أن نجمله بأنه يقع على ثلاثة محاور :
    1ـ العلاج العضوي البيولوجي ، ولا غرابة في هذا فمع التقدم العلمي ثبتت العلاقة بين التغيرات البيولوجية والتغيرات النفسية سواء في مرحلة السواء أو مرحلة المرض 0
    2- العلاج النفسي بأنواعه المختلفة ، ومن بينها العلاج المعرفي والسلوكي و الإسلام يركز في قواعده على هذا الاتجاه لتصحيح مفاهيم البشر وتعديل عاداتهم وسلوكياتهم 0 وأعتقد أن استخدام هذا الاتجاه يتمشى مع الفلسفة العامة للإسلام ، بل إن الاتجاه إلى العلاج المعرفي الجماعي بدأ مع الإسلام في حلقات الدرس في المساجد وغيرها 0 ومن بين أنواع العلاج النفسي العلاج التحليلي والإيحاء الجمعي وغيرها 0
    3- العلاج الاجتماعي لتطوير الظروف البيئية والاجتماعية لتكون أكثر مناسبة للمريض الأمر الذي يساعد على عودته إلى السواء وأعتقد أن العقيدة الصحيحة لا تمنع أيا من هذه العلاجات 0
    ثم إننا نلاحظ في قضية العلاج النفسي تطورا جديدا يهتم بتعديل المفاهيم الدينية الخاطئة لدى المرضى وإعدادهم لتقبل قضاء الله وقدره وتحفيزهم على العمل المنتج في الدنيا لتحصيل خير الدنيا والآخرة وهذا ما نسميه العلاج الديني 0 والعلاج الديني كغيره من أنواع العلاجات يستخدم مع مرضى معينين ولا يستخدم مع كل المرضى 0
    و العلاج في المرض النفسي لا يقوم به فرد واحد وإنما تقوم به مجموعة من الأفراد ذوي تخصصات مختلفة ، في فريق العلاج لا نرى مانعا من وجود الداعية الديني على أن يقوم بدور محدد يعاون على الشفاء 0 ويحدده له الطبيب النفسي الذي يقوم بقيادة الفريق 0

    العوارض النفسية 00 وكيف نتقبلها
    لقد تنوعت أساليب العيش كثيرا وأصبحت متطلباتها واسعة على الفرد ، فلذا يكون الفرد عرضة إلى الإصابة بالمشاكل النفسية ، التي قد تأتي إلى كل واحد منا على وجه هذه الأرض ، وهنا يظهر السؤال التالي :
    س ـ كيف نتقبلها ونتحمل مسؤولياتنا وتجاه الآخرين الذين نعيش معهم ؟
    فهناك نوعان من الأشخاص شخص عنده القدرة على تحمل المشاكل النفسية 0 وشخص قد تكون قدرته غير كافية لتحمل هذه العوارض 0 ومن الطبيعي أن نرجع إلى الطفولة في الثلاث سنوات الأولى ، وكذلك مرحلة المراهقة ، حيث فيها يتطور الفرد وتنمو أبعاد شخصيته 0 فلذلك يظهر هنا دور الأبوين الفعال والواسع في تنمية شخصية أطفالهم ، علما أن هناك الكثير من الآباء لا يهتمون بذلك مطلقا ، وهذا نابع عن جهلهم بأصول التربية النفسية الصحيحة والتطورات التي يمر بها كل طفل خلال مراحل نموه وتقدمه في الحياة 0 والنتيجة تكون : إمّا يظهر لنا شخص رقيق ضعيف لا يستطيع أن يتحمل العوارض النفسية التي قد تعترضه وتعتريه في حياته اليومية 0أو شخص ذو صلابة نفسية يستطيع أن يتعامل مع هذه العوارض بصورة فعّالة 0
    وهنا لا بد أن نرى كيف يمكن للفرد أن يتقبل ويتحمل هذه العوارض ويستطيع التعامل معها بأسلوب شجاع وفعّال حتى لا يرضخ تحت وطأتها ويكون ذلك بالنقاط التالية :ـ
    1ـ يجب أن نضع نصب أعيننا بأن كل فرد معرض لمشاكل نفسية ، وهنا لا بد أن نقوم بإظهار الجانب القوي في شخصيتنا ، ونقول ما هي إلا غمامة أو سوف تنقشع ولا بد أن يأتي بعدها المطر 0 وبعبارة أخرى يجب أن نعيش في أمل أن هذه العوارض عابرة ولا يجب أن نصرف وقتنا في التفكير فيها ونقول لأنفسنا عدة مرات في اليوم : لا لا ولن أستسلم إليك أيها الزائر الغير مرغوب فيك 0 ونبدأ بالتفكير بالجانب القوي عندنا ، فمثلا إذا كانت لنا قدرة على الرسم أو كتابة الشعر أو الخط أو الموسيقى ، أو المطالعة ، أو كتابة الرسائل ، فنقوم بممارستها وبصورة مستمرة ، حتى نبعد أنفسنا عن هذه العوارض 0
    2ـ أن نقوم بتقليص التفكير فيها ، ولا يجب أن نركز عليها ، لأن التركيز معناه تصعيد هذه العوارض إلى مرحلة خطيرة قد تقودنا إلى أشياء لا تحمد عقباها 0 بل محاولة تجاهل التفكير فيها وتركيز تفكيرنا على شيء آخر يجلب إلينا الفرح والسرور ، مثل محاولة : التخطيط إلى رحلة ، أو القيام بالعمل في مزرعة ، أو القيام بأعمال بيتية مبهجة ، أو زيارة أصدقاء محببين إلى أنفسنا 0
    3ـ شغل الوقت بصورة فعّالة ، أي أن يقوم الشخص بإشغال وقته في أمور تتطلب جهدا ، ولا يجلس فارغا من العمل ، أو يترك عمله المعتاد ، ويقول لنفسه : إنني ذو مشاكل نفسية ولا أستطيع الذهاب إلى العمل 0 بل يواصل عمله ويتسلح بروح الصبر والإيمان ، ولا يدع لهذه العوارض مكان للسيطرة عليه أو التلاعب به 0
    4ـ القيام بتمارين رياضية يومية حيث وجد بأنها ذات تأثير فعّال على تبديد العوارض النفسية ، أو حتى التجول في الحدائق ، واستنشاق الهواء النقي وإجراء عملية التنفس العميق ، أي الشهيق والزفير بمد الرئة 0
    5ـ التحدث مع الأصدقاء أو الأقرباء الذين يتمتعون بمستوى ثقافي معين حول هذه العوارض النفسية ، وعدم الإحجام في الكلام عنها 0 حيث يعتبر التكلم عن المشكلة هو بمثابة التنفيس عنها وكذلك يعطي الفرد رؤية معينة حولها ، فلربما هو قد قام بخداع نفسه في حجم هذه المشكلة ، أو أنه قد بالغ فيها كثيرا ، علما بأنها لا تتطلب ذلك الانتباه الذي يصرف عليها 0
    6ـ الانصراف إلى قراءة الكتب التي تتكلم حول هذه العوارض النفسية التي حدثت لك ، ومحاولة معرفة الحقيقة عنها أو حتى الكتابة إلى أي شخص مختص تستطيع أن تحصل على الرأي الصائب في كيفية التعامل معها وعدم التخبط أو الافتراض الذي قد يقود إلى نتائج غير محمودة أو حميدة 0
    7ـ وأخيرا عندما ترى بأنك قد استنفدت كافة الطرق في التغلب عليها 0 فهنا تبرز الحاجة إلى أن تذهب إلى المرشد النفسي وتجلس معه ، علما بأن كافة مناطق المملكة ودول الخليج والدول العربية فيها مراكز للإرشاد والعلاج النفسي 0 ثم تسرد كل ما في خاطرك حول العرض النفسي أو المشكلة التي تنتابك 0 فعندها تحصل على المشورة الصائبة في كيفية التعامل معها وتتسلح بالمهارة التي تتطلب منك أن تتخطى هذه العوارض بدون أن يكون لها تأثير سلبي في تغيير حياتك ، أو ربّما قد يحدث من جرائها تأثير طيب يمكن أن يسهم في تغييرك وتطويرك للأفضل ويكون من المهم أن لا تفزع عندما تشعر بهذه العوارض لأن كل واحد منا معرض للإصابة بها مهما بلغت درجته الثقافية والعلمية 0 ولكن المهم هو كيفية مواجهتها بالصبر والشجاعة والجلوس مع الأخصائي النفسي الذي قد يساعدك في أن تتعرف على كوامن هذه العوارض 0 وبعد أن تضع أصابعك على الجذور فتتعامل معها بشكل مؤثر وفعّال حتى تمر الأمور بسلام وبالتالي تقف وتقول : إنني قد تغلبت عليها وسوف أتغلب على أي عرض نفسي قد يأتي في المستقبل 0 لأنني إنسان أعيش في هذا الكون الواسع ولست أعيش في فراغ ، لأن الذي يعيش في الكون يكون معرضا للإصابة بالعوارض النفسية 0 ولكن المهم هو تقبلها والتعامل معها بشكل فعّال ونافع 0

  14. #34
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة السادسة والعشرون :
    علماء المسلمين والعلاج النفسي :

    بينما كان أطباء الإسلام، بحسب طريقهم، يجتهدون في التوصل إلى الصحة البدنية والنفسية كان بعض علماء الدين من ذوي الاهتمام بالأخلاق وتزكية النفس يجتهدون في علاج الطبيعة البشرية ويتكلمون كما تكلم الأطباء والفلاسفة عن نزعات النفوس والعوارض النفسية. وهم كانوا في أولى الأمر زهادا يشتغلون بالعبادة والتحقق بفضائل الدين، وكان منهم قوم برزوا من أول عهد الإسلام ، ثم تتابعوا منذ الحسن البصري (ت 115 هـ) الذي كان مجلسه ملتقى كثير من المفكرين، وكانت له مواعظ تدعو إلى التفكر في الدنيا ليتبين الإنسان أنها لا تستحق أن يبيع بها نفسه، وإلى محاسبة النفس وإمساك عنانها عما يمكن أن تقول أو تفعل. وهو ينبه الإنسان إلى أهم ما يصيبه في الدنيا المرض والفقر والموت، وأن الأمر ينتهي بأنه يموت وحده ويبعث وحده ويحاسب وحده ، فعليه أن يعني بنفسه ومصيره وأن لا يفقد نفسه في الدنيا التي هي دار ابتلاء 0
    وبعد كتابات وأقوال متفرقة لتلاميذ الحسن وكتاب لعبدالله بن المبارك (ت 181 هـ) في " الزهد والرقائق " الذي تضمن لطائف دينية روحانية في تهذيب النفس، نجد طفرة في دراسة النفس وتزكيتها عند الحارث بن أسد المحاسبي (ت 243 هـ) صاحب التأليف في تربية النفس لتصل إلى كمالها وصحتها 0 ولا يتسع المقام لتفصيل ذلك، فلنكتف بالإشارة إلى أن طريقته تعتمد على المعرفة بالنفس ومحاسبتها ـ ولقبه مشتق من هذه الطريقة ـ وعلى العلم والفهم، وهو في كتاب " الرعاية لحقوق الله " يتكلم في بعض العوارض النفسية المرضية وفي علاجها مبتدئا بالتحذير من هوى النفس ، ثم يعالج العجب والكبر والغرور والحسد، ويرسم للمهتم بتزكية نفسه ، وهو المريد، سيرته اليومية فيما يقول ويفعل ويحس به 0
    أما أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) فهو أيضا في كتابه " أدب الدنيا والدين " يريد تربية الإنسان على أساس استعمال العقل والعلم في تزكية النفس ، فيري في العلم مثلا أنه " عوض عن كل لذة ومغن عن كل شهوة ، ومن كان صادق النية فيه لم يكن له همة فيما يجد بدا منه ـ يقصد عدم الالتفاف إلى ما يمكنه الاستغناء عنه ـ ومن تفرد بالعلم لم توحشه خلوة، ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوى " (أدب، ص 97، بيروت، 1981) 0 والمهم هنا هو أن الماوردي يتكلم في بعض العوارض النفسية وعلاجها ، فيبدأ بأول ما يجب على من يريد رياضة نفسه ، وهو " النقد الذاتي " ، بمعنى أن يعرف صفات نفسه ، لكن بالعدل ، فلا يحسن الظن بنفسه بحيث تخفى عليه مساوئ أخلاقه ولا يسيء الظن بها إلى حد أن لا يرى محاسن أخلاقه ، ثم يتكلم في الكبر وإعجاب المرء بنفسه ، والحياء ، والغضب ، والكذب ، والحسد والمنافسة ، وفي الكلام والصمت ، والصبر والجزع ، والمزاح والضحك ، والطيرة والفأل (التشاؤم) ، وهو في كل ذلك يحلل ويشرح ويعرف ويوجه ويعالج ، ويختم ذلك بالكلام في " المروءة " ، وهي المفهوم الأساسي في الأخلاق العربية الإسلامية، فيذكر أنها " حلية النفوس وزينة الهمم " ، وهي مكتسبة بالاجتهاد والمعاناة ، وليست سهلة إلا مع " علو الهمة " و " شرت النفس " والأنفة من الخمول " ، وهي تتجلى في أمور لا يمكن حصرها، ولذلك فهو يقول إن كل ما اشتمل عليه كتابه فهو من " حقوق المروءة وشروطها " 0 ثم يشرح مروءة الإنسان مع نفسه بأن يراعي العفة والنزاهة والصيانة لها ، ومع غيره بالمؤازرة لهم وإسعافهم في النوائب والإفضال عليهم جودا وتألفا لهم 0 وينتهي بأن يرسم لقارئه أسلوب حياة في كل أموره على أساس الاعتدال 0
    ونحب أن نلاحظ بالنسبة للماوردي أنه يتبع الأسلوب التربوي الذي يقوم على الترغيب في الفضائل بالإقناع ومخاطبة الفكر والشعور معا ، بحيث يمكن القول إن علاجه عقلي ـ نفسي وهو ، من غير أن يشير إلى الطب ، طبيب أخلاقي 0
    إن كل من تكلمنا عنهم كانوا من مشرق العالم الإسلامي ، وفي المغرب كان هناك عالم جليل هو علي بن أحمد بن حزم (ت 456 هـ)، من أكبر علماء الأندلس 0 وقد ألف كتابا يسمى " الأخلاق والسير في مداواة النفوس "، وهو مجموعة من الآراء والأقوال الحكيمة المكتسبة من القراءة والتجربة وتأمل أحوال البشر، والغرض منها تخليص النفوس من آلام الرذائل وأحاسيس الشر باعتبارها أمراضاً نفسية ، لكي تصل النفس إلى الراحة ، فالكتاب نوع من التربية النفسية الأخلاقية 0
    والفكرة الأساسية فيه هي " الهم "، وهو ما يصيب الإنسان من " فكر " وضيق وألم بسبب كثرة ما يحتاج إليه، فهو من خوف الفقر في هم، ولذلك فهو يطلب المال ومن حاجته إلى اللذات مهموم، وسعيه للحصول عليها هو لطرد الهم، وحتى من يحب سماع الأخبار ومحادثة الناس فهو إنما يريد أن يبعد عن نفسه هم التوحد والوحشة، فالحياة بكل ما فيها سعي للحصول على أسباب لطرد الهموم، ولا خلاص من هموم الحياة إلا بالإيمان والعمل للآخرة وعدم الاهتمام بأمور الدنيا 0 ويذهب ابن حزم إلى أن المؤمن العامل للآخرة لا يأبه لما يفوته، وهو قد يسر إذا أصابته مصيبة أو قصده أحد بسوء أو لم ينل ما يريد 0 ومن الواضح أن ابن حزم في هذا الكتاب ينزع نحو الزهد في أنواع السعادة الدنيوية ، وهو وإن كان يحاول إقناع القارئ بأن يقدم له نصائح وأنواعا من الآيات والحديث ومن الأقوال الحكيمة ، لكنه لا يقدم علاجا عمليا للهموم 0
    من ذلك قوله مثلا : "السعيد من أنست نفسه بالفضائل والطاعات ونفرت من الرذائل والمعاصي ، والشقي من أنست نفسه بالرذائل والمعاصي ونفرت من الفضائل والطاعات ، طالب الآخرة متشبه بالملائكة ، وطالب الشر متشبه بالشياطين 00 وطالب اللذات متشبه بالبهائم 00العاقل لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد ، وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله بها عن السباع والبهائم والجمادات ، وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة " 0
    وقول الله تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} جامع لكل فضيلة ، لأن نهي النفس عن الهوى هو ردعها عن الطبع الغضبي وعن الطبع الشهواني ، لأن كليهما واقع تحت موجب الهوى " 0
    قول رسول صلى الله عليه وسلم للذي استوصاه : ( لا تغضب ) ، وأمره عليه السلام أن يحب المرء لغيره ما يجب لنفسه ، جامعان لكل فضيلة ، " من أساء إلى أهله وجيرانه فهو أسقطهم، ومن كافأ من أساء إليه منهم ( بمثل فعله) فهو مثلهم ، ومن لم يكافئهم بإساءتهم (بمثلها) ، فهو سيدهم وخيرهم وأفضلهم 0
    والطمع مصدر للهم والفكرة والغيظ الذي ربما يؤدي إلى تلف الإنسان وتلف دنياه وآخرته ، وهو " أصل لكل ذل ولكل هم 00 وضده نزاهة النفس ، وهذه صفة فاضلة متركبة من النجدة والجود والعدد " (النصوص مأخوذة من طبعة بيروت (اليونسكو 1961 ص 18، 19، 20، 49) 0
    على أن ابن حزم يعقد فصلا طويلا (ص 63ـ 82) في " مداواة ذوي الأخلاق الفاسدة "، فيه تكلم طويلاً عن العجب وأسبابه وعلاجه، وهو في هذا الفصل يعيب الضعفاء الذين يمتدحون الولد أو الأهل، كما يعيب من يتفاقر أو يصف نفسه باليسار، ويتكلم نظر العين إلى العين يصلح القلوب، فلا يسوؤك لقاء صديقك بعدوك، فإن ذلك يفتر أمره عنك " 0
    ويعقد ابن حزم فصلا قصيرا في " غرائب أخلاق النفس "، من ذلك أن البعض قد يبكي شاكيا مسترحما، وهو أظلم الناس، على حين أن البعض يكون مظلوما لكنه يكون ساكنا قليل الشكوى كأنه لا يبالي ، وهذا يوجب على الناظر في أحوال الناس أن لا يحكم بحسب المظاهر بل يتثبت من الحقيقة 0
    كما أنه يعقد فصلا نفسيا أقصر في " صباحة الصور "، تكلم فيه عن مختلف ملامح الجمال، وأن " الحسن هو شيء ليس له في اللغة اسم يعبر به غيره، ولكنه محسوس في النفوس باتفاق كل من رآه، وهو برد مكسو على الوجه وإشراق يستميل القلوب نحوه فتجتمع الآراء على استحسانه " ( ص 53) 0
    ويظهر أن المؤلف ، وهو صاحب نظرية في الجمال نجدها في كتابه " طوق الحمامة "، وتتلخص في أن النفس تعجب بالجمال لأنها هي في ذاتها جميلة ، أراد من هذا الفصل النفيس أن ينبه القارئ إلى أمر يستحق أن يهتم به ليجد شيئا يسمو بنفسه عن نقائص النفس التي تحتاج إلى مداواة 0
    الغزالي طبيب النفوس :
    أما أكبر أطباء النفوس في الإسلام ، فهو حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ)، ففي كتابه العظيم " إحياء علوم الدين "، بعد أن خصص القسم الأول للعبادات وأسرارها والثاني للعادات ـ بمعنى أنواع الآداب بحسب العلاقات والأحوال ـ خصص القسم الثالث للأخلاق " المهلكة "، وهي الأمراض النفسية ، بحسب مفهومها عند أطباء الإسلام وعلمائه ، وهو، كما يقوله ، يعرف كل خلق ويبين حقيقته والسبب الذي يتولد منه والآفات التي تترتب عليه وعلاماته ، ثم يصف ( طرق المعالجة ) للتخلص منه 0
    ثم إنه في القسم الرابع يتناول الأخلاق ( المنجية ) على المنهج نفسه ، من التعريف وبيان كيفية اكتساب الخلق الحميد وثمرته وقيمته التي تجعله مرغوباً فيه 0
    ومع أن الغزالي يستشهد بالقرآن والحديث وكلام العلماء إلا أن علاجه يستند إلى التحليل الدقيق للأحاسيس والبواعث والأعمال ، وهو مستوف لدراسة النفس البشرية في جميع نوازعها ، فضلا عن أنه بين الأساس التي يقوم عليها العلاج للأخلاق ودافع عن إمكان التربية الخلقية ضد من سدوا أبواب الأمل مدعين أنه توجد نفوس سيئة بالطبع ، ثم إن العلاج يقتضي قمع الشهوات ، وهو غير ممكن ، فشرح إمكان العلاج وبين المطلوب في الأخلاق ، وهو ليس اقتلاع جذور الشهوات بل التحكم فيها وصولا إلى صحة النفس والبدن معا 0
    وأساس كل تربية وسلامة للإنسان هو سلامة القلب ، بمعنى الحقيقة الإنسانية التي هي ( لطيفة ربانية ) ، صحتها في معرفة الله ومحبته ، ومرضها في إنكاره والبعد عنه 0
    ولا يتسع المقام لأكثر من الإشارة إلى الكنز العظيم الذي اشتمل عليه كتاب ( الإحياء ) في مداواة النفوس المريضة والمحافظة على صحة النفوس السليمة ، والدراسة والتعمق في ذلك بلا حدود 0 ولا يمكن أن يقرأ أحد كتاب ( إحياء علوم ) ، إلا ويدرك عمق تجربة حجة الإسلام والفائدة التي يجنيها القارئ من تلك التجربة 0

  15. #35
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة السابعة والعشرون :
    تابع علماء المسلمين والعلاج النفسي :
    يعقوب بن إسحاق الكندي (ت حوالي 252 هـ) الذي يسمى ( فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها ) ، في مداواة الحزن ، وهي بعنوان : ( رسالة في الحيلة لدفع الأحزان ) ، التي عرفها واستفاد منها من جاء بعده مثل ابن مسكويه في كتابه ( تهذيب الأخلاق ) ونشرها لأول مرة ومعها ترجمة إيطالية R. Walzer, H, Ritter في الكراسة الأولى من نشرات أكاديمية لينشى الملكية في روما عام 938 1 (Reale Accademila Nationale dei Lincei ، ثم تم تلخص محتواها في مقدمة النشرة الأولى لرسائل الكندي الفلسفية (القاهرة 1950)، ثم نشرها بعد ذلك كل، من الدكتور عبد الرحمن بدوي في مجموعة " رسائل فلسفية " والدكتور ماجد فخري في مجموعة كتب ونصوص بعنوان ( الفكر الأخلاقي العربي )0
    يعرف الكندي فيلسوف العرب الحزن بأنه : ألم نفساني يعرض لفقد المحبوبات أو فوت المطلوبات 0 ويقول إنه لا يسلم منه أحد في هذه الحياة التي لا ثبات لما فيها من خيرات، ولا سبيل فيها إلى وصول الإنسان لكل ما يريد 0 والحزن ينشأ من أن الإنسان يعتمد في سعادته على أنواع المقتنيات المادية التي لا يمكن تحصينها من عوادي التغير والتي هي بطبيعتها مقبلة مدبرة ومبذولة لكل متغلب 0 وذلك بدلا من أن يوجه إرادته إلى الممتلكات العقلية التي هي ملك لصاحبها حقيقي باق ولا يستطيع أن يغلبه عليها غالب أو يغصبه إياها غاصب، والحكيم في نظر فيلسوفنا هو الذي يكون بالنسبة لأنواع القنية المادية كالملك الجليل المتعزز بنفسه الذي لا يتلقى مقبلا ولا يشيع ظاعناً 0
    ولما كان الإنسان في حقيقته هو النفس الباقية لا الجسد الداثر ، ولما كانت النفس أيضا هي السائس والبدن هو المسوس والآلة فإن الواجب على الإنسان أن يتعهد نفسه وأن يتحمل في سبيل ذلك من المعاناة أكثر مما يحتمل من الألم لإصلاح أمور بدنه ، وهو يستطيع ذلك إذا أخذ نفسه بقوة العزم وألزمها في أخلاقها الأمر الأكبر ، وضبطها بالإرادة عن المطالب والانفعالات التي ينشأ عنها الحزن ، ثم يذكر فيلسوف العرب كثيراً من أنواع الحيلة والتبصر والحكايات التي تعين على احتمال الأحزان ، ويدعو القارئ إلى أن لا يستسلم للحزن وأن يدفعه عن نفسه بأن يتذكر كم سلا هو نفسه وسلا غيره عن الأحزان ، وأن يقبل الحياة بحسب طبيعتها وأن لا يطمع في أن يستأثر بالأشياء أو يحسد غيره على ما عنده وأن خيرات الدنيا ( عارية من الله جل ثناؤه يستردها متى شاء وعلى يد من يشاء ) ، بحيث تكون الحزن على ما يفوت من الخيرات خروجا عن أقل الشكر لله وهكذا من وسائل التسلية للمحزون إلى حد إقناعه بأن الحزن شيء طبيعي ملازم للحياة ، بحيث لا يكون هناك معنى للتفكير فيه ، وكل المعول في ذلك على تنبيه الإنسان إلى حقيقة روحه ، وأنها جوهر شريف حصين باقي ، وتربية الشعور بالشخصية الإنسانية حتى تؤمن بقوتها واستغنائها عن الكثير مما يطلبه الإنسان ويقتنيه فيجلب بذلك لنفسه القلق ويعاني متاعب الطلب وآلام الفقد 0
    ويشبه الفيلسوف العربي بني آدم في اجتيازهم هذه الحياة الخادعة الفانية إلى العالم الحق بقوم في سفينة تحملهم إلى غاية ينشدونها ، فترسو بهم حيناً على شاطئ حافل بالأشياء الجميلة ، فمنهم من خرج ولم يأبه لما رأى من مغريات ورجع إلى مكانه ، ومنهم من استهوته الرياض الزاهرة والطيور التي تغني والأحجار الكريمة فبقى حينا ومتع نفسه بلون ورائحة ونغم ، ولم ينسى غايته ، فعاد إلى مكانه ، ومنهم الذين أكبوا على اجتناء الأزهار والثمار ونحو ها ، وعادوا مثقلين بما حملوا، ولم يجدوا لما حملوه مكاناً فسيحاً، وأخذوا يتعهدونه مع القلق والخوف عليه ، وهو يفنى من أيديهم فيحز نون عليه ، حتى ثقلت عليهم مهمة المحافظة عليه ، فقذفوا به في البحر ، وآخرون تولجوا في المروج الكثيفة ، يجمعون ويتمتعون ، بين روعة ونكبة وافتراس سبع أو تلطيخ وحل ، غافلين عن غايتهم ، فلما نادى قائد المركب للمسير كانوا قد توغلوا في الغياض وغرقوا في المتاع ، فلم يبلغهم نداؤه فتركوا للمهالك والتهمتهم لهوات المعاطب 0
    ويخلص ، الكندي من هذا إلى أنه يقبح بالعاقل أن يكون من مخدوعي حصى الأرض ، وأصداف الماء وأزهار الشجر ، كما يحسن به ، إن أراد أن يأسى على شيء ، فليأس على عدم بلوغه مكانا حسناً في العالم الحق الدائم الذي ليس فيه إلا الخيرات الحقيقية التي لا تنالها الآفات ، ويعيش فيه الإنسان فوق الآلام والأحزان 0 ولا ينسى فيلسوفنا أن يعنى بدفع ما يلحق النفوس من غم بسبب الموت الذي لابد من مواجهته في يوم من الأيام ، وهو هنا يعمل 0 إلى المنطق ، فيقول لقارئه إن الموت ليس شراً ، لأنه ( تمام الطبيعة الإنسانية ) ، وهو جزء من مفهوم الإنسان في هذه الدنيا ، لأنه هو ( الحي الناطق المائت ) ، فلا بأس أن يكون الإنسان ما هو في حقيقته ، ومن يرفض الموت فكأنه يرفض الحياة 0
    ويريد فيلسوفنا أن يطمئن قارئه بأن يشرح له كيف جاء وإلى أين سيصير بعد الموت ، ويرشح له باب الأمل ، فيقول له إن الإنسان يتنقل لأطوار الخلقة من طور خلايا غذائية في أعضاء البدن إلى نطفة في مستقرها تصير جنيناً ثم يخرج إلى هذا العالم , وهو في كل مرحلة ينتقل إلى ما هو أرحب وأوسع ، ولو طلب منه أن يعود إلى ما قبلها لحزن كل الحزن ، ولو عرض عليه أن يعود إلى بطن أمه ، وكان يملك كل ما في الأرض ، لافتدى به نفسه 0 فليعلم الإنسان إذن أنه إنما يجزع من مفارقة هذه الحياة لشدة تعلقه بما فيها من ماديات حسية ، هي في الواقع مصدر آلامه ، ولجهـله بما هو فيه من ضيق هذه الدنيا وبما سينفتح له بعد الموت من آفاق فسيحة وملك عريض دائم وخلاص من كل الآلام وخيرات لا تنالها الآفات ، وهو لو أقام أب ذلك العالم الجميل ونعم حيناً بلذاته الخالية من الكدر، ثم أريد منه أن يعود إلى هذه الدنيا، لكان جزعه أضعاف جزعه لو أريد إرجاعه إلى ضيق بطن الأم وظلامه ، فحري بالعاقل أن لا يعطي ، هذه الحياة من قيمة أكثر مما تستحق ، ولتكن عنده هي المرحلة الأخيرة الشاقة قبل بلوغ الغاية العظيمة ، وليصبر على المصائب التي تصيب الخيرات المادية ، لأنها تقلل أحزانه وتخلصه من القلق عليها ، وليعلم أن المصائب تقلل من وقع المصائب ، حتى تصير عند الحكيم كالنعم ، وأن التقلل من المقتنيات فيه إخضاع للشهوات التي هي ينبوع الرذائل والآلام والتي تسترق الملوك ، فمن سيطر عليها استطاع امتلاك ناصية عدوه المقيم معه في حصنه ، وليعلم أن النفس الشهوانية نفس سقيمة وسقامها أعظم من سقام البدن 0 على هذا النحو يجتهد الكندي في علاج الحزن ، وهو في ثنايا كلامه ينحو نحو سقراط ، وأفلاطون ، ويرسم سيرة فلسفية تحرر الروح من المادة وتسري في كلامه روح إسلامية إيمانية بالمصير الإنساني ، وهو يختم رسالته بأن يطلب من قارئه أن يجعل ما قدمه له من وصايا ( مثالا ثابتا ) في نفسه ، لينجو بها من الحزن ويبلغ بهـــــا أفضل وطــــن مــــن دار القــرار ومحل ا لأ برار 0
    ومن الواضح أن فيلسوف العرب يريد من قارئه أن يكون فيلسوفاً مثله ، وهذا ليس بالأمر السهل ، لأنه يحتاج إلى الحكمة الكبيرة وقوة الشخصية واعتزازها بنفسها 0

    النظامي العروضي السمرقندي :
    عمد بعض الإسلام إلى التأثير في البدن من طريق استثارة انفعالات النفسي وتذكر بعض الحكايات في ذلك 0 نجدها في كتاب " جهاز مقالة " (أربع مقالات) للنظامي العروضي السمرقندي (القاهرة 1949 ص 79- .8) 0 فمن ذ لك أن إبرازي أراد علاج الأمير منصور بن نوح السامي من مرض في مفاصل ساقيه أزمن حتى أقعده عن المشي، فجرب كل الأدوية بلا فائدة فعمد، كما يقول، إلى "العلاج النفسي "، وذلك أنه ـ بحسب القصة التي نوجزها هنا ـ أجلس الأمير في وسط حمام نهر جيحون وصب عليه ماء فاترا، سقاه شرابا وانتظر إلى أن يؤثر الشراب في المفاصل ، وكان قد أغلق باب الحمام واستفرد بالأمير، وأخذ يشتمه ويهدده بأنه سيزهق روحه ، فغضب الأمير غاية الغضب ونهض على ركبتيه ، وهو في مكانه فأخرج إبرازي سكينا وأوسعه إهانة ، فنهض الأمير غضباً أو فرقاً " 0 وكان غرض إبرازي ، كما يقول، هو إثارة الغضب عند الأمير لكي تقوى الحرارة الغريزية وتحلل الأخلاط التي في المفاصل 0
    وهناك حكاية أخرى أراد فيها الطبيب أن يلجأ إلى "التدبير النفساني "، وذلك بالنسبة لجارية أصابها ريح منعها، بعد أن انحنت لتقديم الطعام، من أن تنصب، فأراد أن يثير انفعال النفس بأن أمر بكشف موضع الحياء منها، فلما حاول زميلاتها ذلك " نهضت فيها حرارة قوية أتت على الريح الحادثة تحليلا فارتجعت مستقيمة سليمة " 0
    نعم لقد كانوا بارعين وهناك من القصص الكثيرة ما يثبت أن هناك تفوقا لهم في العلاج النفسي 0

  16. #36
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة الثامنة والعشرون :
    علاج الأبدان والأنفس لأبي زيد البلخي:
    كان أبو زيد البلخى معاصرا لبرازي ، لكن يبدو أنه لم يعرف كتابه " الطب الروحاني "، وهو في كتاب" مصالح الأبدان والأنفس " الذي مضى ذكره يقدم من جهة علاجا للأمراض النفسية، بحسب المفهوم الذي سبق بيانه، ويقدم من جهة أخرى شيئا مما يسمى الطب النفسي العضوي Psychosomaties
    وهو يشير في أول كتابه إلى الكيان البدني ـ النفسي للإنسان وما يجب عليه من الاجتهاد في استدامة سلامة نفسه وبدنه ودفع عوارض الأذى والآفات عنهما ، " وأن يقتني كل علم يوصل به إلى صلاح أمرهما "، يقصد أن يحسن بالإنسان أن يكون له حظ من الثقافة الطبية 0
    وهو في المقالة الأولى من الكتاب يتكلم في تدبير مصالح الأبدان ويقدم للقارئ نوعا من الطب الميسر0 فيتكلم بعد المقدمات في أمور كثيرة مثل : " تدبير المساكن والمياه والأهوية " وهذا ما نسميه اليوم: " البيئة "، وأمور الطعام والشراب، ويحارب الشراب، بمعنى الخمر، محاربة شديدة ويبين جنايته الكبيرة على الأنفس والأبدان، ويتحدث عما يسر النفس من الروائح الطيبة وعن أمور النوم والرياضة البدنية والعناية بالبدن " بالغمز والتدليك "
    وهو يهتم بشيء من الثقافة في أمور " الجنس "، ويبين آثار الاعتدال في هذا الباب من " خفة البدن وانشراح النفس وطيب البشرة وذكاء قوى النفوس 0 ولا ينسى الاهتمام بأمر المتعة الجمالية مع الاعتدال ، ويشير إلى ما جرت به العادة من الحكماء والأطباء القدماء من مداواتهم كثيرين من المرضى بإسماعهم أصواتا لذيذة " كانت تقوي متنهم وتطيب أنفسهم وتخفف عليهم آلام العلل والأسقام 0وهذا السماع ، في نظر البلخى، " من أشرف اللذات الإنسانية قدرا وأعظمها خطرا وأولاها بأن لا يدع المستمتع باللذات الأخذ بالحظ منه على سبيل ما يحسن ويجمل 00 " 0 وهو أجل الملاذ المحسوسة وثمرة لعلم من أجل علوم الحكمة، " والسمع والبصر هما الحاستان الشريفتان، وليس شيء أعز على الإنسان منهما "، وبهما ينال الإنسان أفضل اللذات التي لا يلحقه منها السآمة أو الملل الذي يصيبه من اللذات الجسمانية الأخرى0
    ولابد لنا فيما يعنينا هنا من التركيز على اهتمام البلخى بصحة الأنفس ، وهذا ما نجده في المقالة الثانية من كتابه ، في ثمانية أبواب، تناول فيها الصحة النفسية من شتى الجوانب ، فهو يبدأ بذكر ( الأعراض النفسانية ) مثل الغضب والغم والخوف والجزع، ويبين مبلغ حاجة الإنسان إلى علاجها ، لأنها ألزم للإنسان وأكثر الاعتراء له من الأعراض البدنية ، وذلك أن الأعراض البدنية قد يسلم منها الإنسان حتى لا تكاد تعرضت له في أكثر من أيام عمره ، فأما الأعراض النفسانية فإن الإنسان مدفوع في أكثر أوقاته إلى ما يتأذى به منها ، إذ ليس يخلو في أكثر أحواله من استشعار غم أو غضب أو حزن ، قل ذلك أو كثر ، بحسب ظروفه وقوة نفسه ومزاجه وحساسيته ، ومن أجل ذلك لا يستغنى أحد من الناس عن تقديم العناية بمصالح الأنفس والاجتهاد فيما ينفى عنه ما يعتريه منها فيؤديه إلى القلق وتنغص العيش ، وتكون تلك الأعراض نظيرة الأمراض الجسمانية التي تعرض له فتؤلمه وتسقمه وتؤديه إلى الحالة المكروهة 0
    ويعتبر أن هذا الطبيب النفساني بما لأطباء الأبدان من جهود في معالجة الأبدان، لكنه يلاحظ أنهم لم يهتموا بمصالح النفس ، لأن القول في ذلك ليس هو من جنس صناعتهم، ولأن معالجات الأمراض النفسانية ليست من جنس ما يتعاطونه من الفصد وسقي الأدوية وما أشبهها 00 غير أنهم وإن لم يفعلوا ذلك ولم تجر العادة به منهم فإن إضافة تدبير مصالح الأنفس إلى تدبير مصالح الأبدان أمر صواب ، بل هو مما تمس الحاجة إليه ويعظم الانتفاع به لاشتباك أسباب الأبدان بأسباب الأنفس ، فإن الإنسان إنما قوامه بنفسه وبدنه ، وليس يتوهم له بقاء إلا باجتماعهما، لتظهر منه الأفعال الإنسانية، فهما مشتركان في الأحداث النائبة والآلام العارضة ، وببين البلخي كيف أن السقم والألم البدني يعطل في النفس قوى الفهم والمعرفة، وكيف أن الآلام النفسية تؤدي إلى الأمراض البدنية، ولذلك فإن كل إنسان، وخصوصا من تغلب عليه الأعراض النفسية، محتاج إلى أن يعلم كيفية تدبير النفس. فإذا وجد ذلك مضافا إلى المعرفة بمصالح البدن في كتاب واحد فإن قارئه يستطيع أن يداوي نفسه مما يعتريه من تلك الآلام ولا يحتاج إلى طلب ذلك، متفرقاً في كتب الحكماء وأهل الموعظة والتبصير، وتحقيق هذا الهدف هو الذي دعا البلخي إلى تأليف كتابه، شاعر بأنه يقدم شيئا لم يسبق إليه 0
    يتحدث طبيبنا بعد ذلك عن طريقة حفظ الصحة للنفس، وأساس صحة النفس هو: أن تكون قواها ساكنة ، فلا يهيج بالإنسان شيء من الأعراض النفسانية كالغضب أو الجزع أو الفزع، وذلك كما أن صحة البدن في أن توجد أخلاطه ساكنة ولا يهيج منها شيء 0 وأيضا إذا كانت سلامته تتحقق بأن يصان من الآفات الخارجة كالحر والبرد والآفات الداخلة، وهي هياج الأخلاط، فكذلك صحة النفس تكون بصيانتها عن المؤثرات الخارجة التي يسمعها الإنسان أو يبصرها فتقلقه وتضجره وتحرك فيه أعراض الخوف أو الغضب وعن المؤثرات الداخلة ، مثل التفكير فيما يؤدي إلى تلك الأعراض التي تشغل قلبه وتشتت فكره 0 ويذكر البلخي للخلاص من ذلك طريقين:
    أولا:
    على الإنسان أن يشعر قلبه وقت سلامة نفسه وسكون قواها ما أسست عليه وجبلت عليه أحوال الدنيا في أن أحدا لا يصل فيها إلى تحصيل إرادته ونيل شهواته على سبيل ما يتمناه ويهواه من غير أن يشوب كلا من ذلك شائبة تنغص وتكدر ، فلا يطلب من دنياه ما ليس في أصل بنيتها ، ويتغافل عن كثير من الأمور التي ترد عليه بخلاف مراده ، ويعود نفسه على أن لا يضجر لكل صغير من الأمور وعلى احتمال ذلك ليستطيع احتمال ما هو أعظم ويكون كمن يمرن نفسه على احتمال الأذى اليسير من حر أو برد أو ألم ، حتى يصير ذلك عنده طبيعة تعينه على تحمل ما هو أكبر ، فإن هذه هي السبيل في رياضة الأبدان وهي السبيل في رياضة الأنفس0
    ثانيا:
    وعلى الإنسان أن يعرف بنية نفسه ومبلغ ما عندها من الاحتمال للأمور الملمة الواردة عليه، فإن لكل إنسان مقدارا من قوة القلب أو ضعفه وسعة الصدر أو ضيقه 0 فبعض النفوس من القوة بحيث يحتمل الخطوب العظيمة ولا يضعف ، وبعضها من الضعف والانخزال بحيث تنحل قوته أمام ما يصيبه، وتضيق عليه مذاهب التصرف حتى يؤدي به ذلك إلى علة في البدن 0
    فإذا عرف الإنسان طبيعته ومنتهى قوتها ومبلغ استقلالها بالأمور بنى على حسب ذلك تدبيره في مطالبه ومقاصده، ملكا كان أو سوقة 0والإنسان إذا دبر أموره بحسب ما يطيق فإنه يصل إلى سلامة النفس وراحة القلب ، وإن فاته الكثير من الآمال والرغائب التي يركب البعض لأجلها المخاطر ويغرر بنفسه وينتهي إلى ضيق الصدر وقلق النفوس والضرر في البدن 0
    ومتى عمل الإنسان بوصية هذا الطبيب ، استكمل بذلك السعادة الدنيوية، لأن كمال هذه السعادة إنما هو في صحة البدن ،والنفس وراحتهما واندفاع الآفات والمكاره عنهما مدة الحياة في هذه الدنيا، ومتى خالف هذه الطريقة في مطالبة ومقاصده تنغصت عليه حياته وتكدرت عيشته واجتلب إلى نفسه الأمراض النفسانية، كما يجتلب الأمراض البدنية إليه من لا يصون نفسه من الآفات الخارجة ويتناول من أغذية المطاعم والمشارب وغيرها من حاجة الأبدان أكثر مما تحتمله قوته وتستقل به طبيعته 0
    أما عن إعادة الصحة إلى النفس فإن ذلك يكون بتسكين هياجها، وهي بطبيعتها شديدة الحساسية كثيرة الانفعالات و. التغير فيها، وذلك بسبب ( لطف جوهرها )0 والإنسان لا يستطيع أبدا أن يحفظ على نفسه سكونها 0 بحيث لا يهيجها هائج من الأعراض النفسانية لأنها من دنياه في دار هموم وأحزان ومحل نوائب ونكبات، ولا يزال يرد عليها من حوادث الأمور ونوازل الخطوب ما يقع بخلاف محبته وضد إرادته، وذلك كما أنه لا يخلو من أعراض مؤذية قي بدنه، وإن كان ربما الإنسان زماناً طويلا لا يعرض له فيه مرض في أعضائه، أما النفس فلا يكاد يمضي يوم إلا ويرد فيه على الإنسان ما يثير الغضب أو الضجر أو الحزن 0
    ولذلك يجب على المرء في مصالح نفسه أن يتعهدها حتى لا يهيج بها شيء، وإذا هاج منها شيء بادر بتسكينه، وكما أن معالجة البدن إنما تكون بشيء جسماني يجانسه من الأغذية والأدوية 0 كذلك معالجة النفس إنما تكون بشيء روحاني يجانسها ، وكما أن العلاج البدني إما أن يكون بشيء من داخل، كالاحتماء والامتناع مما لا يجب تناوله ، وإما أن يكون بشيء من خارج من الأغذية والأدوية، فكذلك معالجة النفس إما أن تكون بشيء من داخل، وهو فكرة يثيرها الإنسان من نفسه فيقمع بها ذلك العارض ويسكن ذلك الهائج وإما أن تكون بشيء خارج، وهوكلام يعظه به غيره فينجح فيه ويعمل في تسكين الهائج وإصلاح الفاسد من قوى نفسه 0وكما أن طبيب الأبدان قد يعطي المريض من خارج يكون أنفع له من الاحتماء وضبط البدن من الداخل، فكذلك الطب في الأعراض النفسية ، فالدواء من الخارج بالعظة والتذكير والإقناع قد يكون أنجع وأعظم تأثيرا0
    إن الإنسان :
    أولا ــ يقبل من غيره أكثر مما يقبل من نفسه ، وذلك أن رأيه في كل الأحوال مغلوب بهواه، وأحدهما ممتزج بالآخر 0
    ثانيا ــ إن الإنسان في وقت اهتياج عارض من الأعراض النفسانية به مشغول بما يقاسيه من ذلك العارض مقهور على عزمه ورأيه مفتقر إلى من يلي عليه تدبير أمره ، وحتى الطبيب إذا مرض شغله المرض عن التطبيب لنفسه، فاحتاج إلى طبيب غيره يداويه ، ولذلك يحتاج أهل الحزم من الملوك إلى أن يكون عندهم حكماء يداوونهم من الأعراض النفسية كالغضب والضجر بالمواعظ والوصايا، كما يحتاجون إلى أطباء لمداواة ما يعرض للأبدان 0 ومع ذلك لا يستغني الإنسان في مداواة نفسه عن وصايا فكرية مجمعها في نفسه في وقت صحتها وسكوت قواها ويستودعها قوة الحفظ في ذات نفسه ليخطرها على باله ويعظ بها نفسه إذا لم يكن عنده واعظ، وذلك كما يحتفظ المحتاط في الأعراض البدنية بأدوية يودعها في خزائنه ليتناولها إذا عرض له أذى بدني ولم يكن بقربه طبيب 0

  17. #37
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة التاسعة والعشرون :
    ابن مسكويه ومداواة النفوس:
    كان أبو علي أحمد بن مسكويه (ت حوالي 420 هـ) ممن تخصص في دراسة الأخلاق بين فلاسفة الإسلام، وقد دعاه إلى ذلك، باعث شخصي ورغبة في نصح غيره، وكتابه ( تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ) يشتمل على عناصر من الفكر الأخلاقي اليوناني وعلى عناصر إسلامية وهذا إلى جانب تجربته الذاتية ومشاهداته الخاصة لأحوال مختلف الناس في عصره0 تناول فيلسوفا كثيراً من الموضوعات ذات الصلة بما نحن فيه، فتكلم في رتب الفضائل ، أولها نوع من السعادة ينشأ عن ملابسة الشهوات، بقدر معتدل ، لكن يكون الإنسان إلى ما ينبغي من الترفع أقرب منه إلى ما لا ينبغي من القصد إلى الإفراط في الشهوات ، ثم يترفع بإرادته إلى (الأمر الأفضل من صلاح النفس والبدن )، فلا يأخذ من الشهوات إلا ما تدعو إليه الضرورة 0 ثم تزداد رتبة الإنسان بحسب الممارسة والهمة والعلم والمعرفة والمعاناة والتشوق إلى الكمال النفسي حتى يصل إلى ما يسميه فيلسوفا ( الفضيلة الإلهية المحضة ) التي يعلو بها الإنسان فوق الميول والرغبات والحاجات وأحوال الخوف والفزع ، فيكون عقلاً خالصاً 0 ولكن ابن مسكويه يتكلم أيضاً عن الإنسان الواقعي كما يعيش في هذه الدنيا فيقول : " كما أن للحس لذة عرضية على حدة، فكذلك للعقل لذة ذاتية على حدة 0 وللإنسان جانب جسماني يناسب به عالم الحيوان ، وجانب روحاني به يناسب الملائكة 0 فاللذة الحسية مؤقتة مملولة ، لكن الطبع يميل إليها قي أول الأمر لشدة قوتها، فإذا تمكنت منه سيطرت عليه واستحسن فيها كل قبيح. أما اللذة العقلية فهي دائمة ، لكن الطبع لا يميل إليها في أول الأمر ، فإذا راض الإنسان نفسه عليها انكشف له حسانها وبهاؤها وأحبها ، والإنسان بوجه عام إما أن يكون في مرتبة اللذة والسعادة الجسمانية ، لكنه يتشوف إلى اللذة الروحانية ولا يزال يطالعها ، وإما أن يكون في مرتبة اللذة والسعادة الروحانية ، لكنه ينظر إلى اللذات البدنية ويرى فيها مظهراً من مظاهر الحكمة الإلهية 0 والإنسان السعيد حقا تكون لذاته ذاتية لا عرضية ، وعقلية لا حسية وفعلية لا انفعالية ، وإلهية لا بهيمية 0 وأعظم أسباب السعادة على كل حال هي عند فيلسوفا الحكمة0 ومن الطريف عند ابن مسكويه تحليله ووصفه لنفسيات بعض الناس ، فهو مثلا يصور لنا نفسية الملوك وأنهم أفقر الناس لكثرة احتياجهم وأكثرهم قلقاً بسبب كثرة ما يملكونه أو يطمحون إليه ، ويصور لنا نفسية الإنسان ( الشرير ) وما يعانيه من القلق وقلة الاستقراء وخوفه من نفسه بحيث يهرع إلى أمثاله ، وأيضاً نفسية الإنسان الخير الفاضل في سعادته بذاته وبما يفعل وفي إيمانه بقيمة الخير وانسجامه مع نفسه ومع غير 0 وأهم ما في كتاب ابن مسكويه المقالة السادسة والسابعة ، فهو في الأولى يتكلم في ( مداواة النفوس ) فيذكر الأمراض التي تلحق النفس وكيفية علاجها بعد معرفة أسبابها 0
    وهو يقول :
    أولا ــ إن النفس وإن كانت ( قوة إلهية غير جسمانية ) إلا أنها مرتبطة بمزاج خاص ، هو البدن ، رباطا طبيعيا من صنع الله 0 وكل من النفس والبدن يتغير بتغير الآخر 0 فيصح بصحته ويمرض بمرضها ، ويذكر من الشواهد على ذلك فساد أحوال الفكر إذا طرأ فساد ما على (الدماغ ) وتغير أحوال البدن وإصابته بالمرض بسبب الغضب والحزن والخوف 0 وطب النفوس كطب الأبدان قسمان هما :
    1ـ حفظ الصحة 0 2ـ واستردادها إذا فقدت 0وأساسها الاعتدال 0
    ويبتدئ طبيبنا بالكلام في ( اللذة التي تطبقها الشريعة ) وهي التي يقررها العقل 0 وعلى من يريد المحافظة على صحة نفسه أن يلتزم وظيفته من الجزء النظري والجزء العملي في طبيعته ، فلا يقصر في حياة الفكر ، لأن النفس إذا تعطلت عن الفكر تبلدت وتبلهت ، ولا يقصر أيضا في الناحية العملية ، بمعنى ملابسة اللذات، لأنها من أسباب السعادة الخارجية 0 لكن فيلسوفا يوصي طالب الصحة البدنية والنفسية بأن يكون متحليا بصفة القناعة وطلب الكفاية ، كما رأينا ذلك عند ( إبرازي )0وأن لا يشتغل بفضول العيش ، فإن ذلك بلا نهاية ، ومن طلبه وقع في عناء لا نهاية له ، ولا ينبغي للإنسان العاقل أن يقصد لذة البدن بل صحته ، وسيلتذ لا محالة، فإن من طلب بالعلاج اللذة لا الصحة لم تحصل له الصحة ولم تبق له اللذة 0
    ويتناول فيلسوفا في المقالة السابعة ( رد الصحة على النفس ) فيذكر أمراضها ، وهي مضادات الفضائل ومن نوع الأمراض التي ذكرها من قبل ( إبرازي والبلخي )0 ويبني علاجه على معرفة الأسباب كما فعل من قبله 0
    لكن يحسن ذكر مثال أو مثالين وهما : يعالج ابن مسكويه العجب والافتخار، بعد تعريف ذلك بأنه ظن كاذب بالنفس في استحقاق مرتبة لا تستحقها، وذلك بأن يعرف المرء عيوب نفسه، وأن الفضل مقسوم بين البشر، وليس يكمل أحدهم إلا بفضائل غيره، ومن كانت فضيلته عند غيره لا يصح أن يعجب بنفسه 0
    أما الافتخار بالخيرات الخارجية ، أي الماديات والمظاهر، فهو لا يصح، لأنها عرضة للزوال والتغير والآفات 0 وهنا يذكر ابن مسكويه ما أشارت إليه آيات من القرآن الكريم فيها قصة الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتان، كل منهما آتت أكلها، ففاخر صاحبه بما يملك واغتر بنفسه وبما ملك، فجاءت كارثة أهلكت ما عنده، والآية التي تشبه الحياة الدنيا بنبات يظهر ويزدهر ثم يذوي ويصبح هشيما تذروه الرياح 0 أما من يفتخر بأبويه مثلا فهو يفتخر بما ليس له، ويذكر ابن مسكويه هنا قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( لا تأتوني بآبائكم وائتوني بأعمالكم )0 على أن البعض يمتدح الغضب وما فيه من حمية أو شدة الشكيمة 0 هنا يفرق فيلسوفا بين ذلك وبين الشجاعة، فيقول : " إن الشجاع العزيز النفس هو الذي يقهر بحلمه غضبه ويتمكن من التمييز والنظر فيما يدهم، ولا يستفزه ما يرد عليه من المحركات لغضبه، حتى يتروى وينظر كيف ينتقم ممن وعلى أي قدر "0 ويتناول ابن مسكويه علاج الخوف الناشئ عن توقع مكروه، فيقول إنه ربما لا يقع أو ربما كان المتوقع أمرا يسيرا، ثم إن الإنسان ربما كان هو نفسه السبب فيما يتوقعه من معاناة بسوء اختياره، فعليه أن يتجنب ما يخاف عواقبه وألا يقدم على ما لا يأمن نتائجه المضرة 0 ومهما كان ، الأمر فإن الإنسان لا يصح أن يفرط لا الخوف وسوء الظن بالمستقبل ، لأنه إنما يحسن العيش وتطيب الحياة بالظن الجميل والأمل القوي وترك الفكر في كل ما يمكن أن لا يقع من المكاره فكم كـان هناك من أمور ارتاع لها الفؤاد ولم تقع ! 0ويتكلم ابن مسكويه في دفع الخوف من الموت، وهو يقتبس من آراء الكندي ويزيد عليها، ولابد لنا من الاكتفاء بهذه الإشارة التي نختم بها الكلام عن فيلسوفا 0
    ويحسن أن نشير هنا إلى أن ابن سينا أيضا ألف رسالة في ( دفع الغم من الموت ) ، يمكن ضمها إلى ما كتب قبلها للمقارنة بين آراء الشيخ الرئيس ، وهي فلسفية إلى حد كبير، وبين آراء من سبقه الممزوجة بالدين 0
    ابن سينا والعوارض النفسية والنبض :
    تناول ابن سينا في كتاب (القانون ) أحكام نبض ما يعرض للنفس ، وذكر النبض بحسب ذلك: نبض الغضب عظيم شاهق سريع متواتر، ونبض اللذية أقل سرعة وتواترا، أما السرور فنبضه قد يعظم مع لين ويكون إلى إبطاء وتفاوت ، ونبض الغم صغير ضعيف متفاوت باليء، ونبض الفزع سريع مرتعد مختلف غير منتظم 0 لكن الشيخ الرئيس لا يذكر في هذا الموضوع من (القانون ) كيف درس هذه الأنواع 0
    الطاقة النفسية :
    على أساس العلاقة بين النفس وبدنها يتحدث ابن سينا في كتاب ( الإشارات ) النمط العاشر الخاص بما يسميه (أسرار الآيات ) ــ يقصد الأمور غير العادية ــ عن أفعال تصدر عن الذين يسميهم ( العارفين ) ، وهم من الصوفية الروحانيين ، مثل: إمساكهم عن الطعام مدة غير معتادة، والتمكن من الأعمال التي تحتاج إلى قوة غيرعادية ، والاختبار عن الغيب 0
    فالإمساك عن الطعام والاستغناء عنه ناشئ عن أن النفس تتجه أو تنجذب نحو مهماتها، وتكون نفس العارف قد راضت قوى البدن، فتنجذب هذه وراءها وتتوقف أفعالها الطبيعية بسبب السكون البدني لانشغال النفس بما هي فيه، كما يحدث مثل ذلك عند الخوف، وهو عارض نفساني ، أو عند المرض ، لكن مع فرق بالنسبة للعارف ، لأنه لا يكون مريضا بدنيا ولا خائفا 0 أما قدرة العارف على فعل يحتاج لقوة كبيرة فهو ناشئ عن انطلاق طاقته بسبب ابتهاج نفسيه بالله واعتزازه به أو بنوع من ( الحمية الإلهية ) التي تجعله قادرا على ما لا يقدر عليه غيره ، ولهذا أيضا شبيه في أحوال الغضب أو المنافسة ، حيث يفعل الإنسان ما لا يستطيع فعله في الأحوال العادية 0 وأما إخبار العارف بغيب فهو ليس عجيبا، لأن الإنسان في الأحلام قد يرى شيئا يقع بعد ذلك ، وإذا كان هذا أمرا يحدث في النوم فلا مانع من أن يقع في حال اليقظة ، ولكن الفرق واضح بين العارف الذي راض نفسه على تجاوز حدود البدن وبين غيره 0 والمهم أن الشيخ الرئيس إذ يتكلم في هذه الأمور، يقول إن لها نظيراً في ( مذاهب الطبيعة )، وهو يذكر أمورا أخرى كثيرة تبين ما للنفس من قوى نكتفي بالإشارة إليها 0 ويمكن الرجوع إليها في كتاب ( الإشارات )0

  18. #38
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: الإسلام والصحة النفسية ( حلقات )

    الحلقة الثلاثون ( الأخيرة ) :

    الخوف من الموت :
    الموت بداية النهاية ونهاية البداية ، هل قد متنا من قبل ؟ كم حياة مررنا بها ، حتى وصلنا إلى الحياة ؟ وقضينا بها سنوات ثم متنا ؟
    الموت من وجهة نظري ليس البداية وليس النهاية ، منذ أن خلق الله سبحانه أبونا آدم عليه الصلاة والسلام خلقنا ، وأخرجنا وأشهدنا على أنفسنا أنه تعالى ربنا 00 شهدنا على أنفسنا واعترفنا بأنه سبحانه ربنا 00 تنقلنا في الأصلاب حتى جاء الموعد الرسمي لوجودنا كأشخاص حينما التقى الأب والأم على الطهر والعفاف وعلى سنة الله ورسوله ، فكان ثمرة ذلك اللقاء هو وجودنا ، فعشنا حياة ولا أروع مدتها على الأرجح تسعة أشهر ، وتقل أو تزيد عند البعض ، كانت حياة ولا أروع تشبه الحياة في الجنة ، طعامنا يصل إلينا دون عناء ، وشرابنا يأتي إلينا دون عناء ، في سعة وفسحة من العيش لا نبرد ولا نشعر بالحرارة ، لا نور ساطع يتعبنا ولا ظلام يخيفنا ، نأكل ونشرب ولا نعرق ولا نتغوط ولا نتبول 00 ثم متنا ، أقصد خرجنا من تلك الحياة في بطن الأم وجئنا إلى الحياة الدنيا 00 لو قدر لأحد أن يتحدث مع جنين في بطن أمه ، وقال له أول ما تخرج أنت من هنا سوف نضعك على كرسي أو في مكان مثل المكان الذي أنت فيه مئة مرة أو تزيد ما صدق !! ولو كان هناك في بطن الأم توأمان ، وخرج الأول قبل الثاني بثلاث ساعات ، وقدر لنا أن نسأله عن أخيه لأجابنا بأنه مات !!!!
    الموت نقلة من حياة إلى حياة ، غير أن في الحياة الدنيا امتحان واختبار وعمل وجد ، وبعدها يتقرر المصير ، إما النجاح والفوز برضا الله ومغفرته وجنته ، أم المصير الآخر أعاذنا الله وإياكم منه 00
    • الخوف من الموت :
    إن ( كارل ياسبرز ) و ( رولوماي ) 0من أصحاب النظرية الوجودية الظاهرية قالوا : " إن الفرد الموجود هو ( الموضوع ) وأن الإنسان هو محور الوجود ، والقلق عندهم ( خوف من الموت ) ، ومن الناحية الدينية فإنني أود أن أقول : أن الخوف من الموت : مرض يعتري الإنسان من الموت على سبيل العموم ، ومن الظواهر المتفرعة عنه : الخوف من الدفن حيا ، ومن رؤية الدم ، ومن حالات الإغماء ، ومن منظر الأموات والجثث 0 والمصاب بهذا المرض يتحاشى رؤية هذه المخاوف ، ويتجنب المشاركة في الدفن والذهاب مع الجنازات ، بل ويخشى من ذكر الموت لأنها تشترك مع حقيقة الموت ، وتوحي بشيء أليم في النفس الإنسانية 0وقد فرق علماء النفس بين هذا الخوف وبين قلق الموت من جهة العموم والخصوص ، حيث خصصوا قلق الموت بخشية الإنسان من موته هو 0وقد وصف الله سبحانه وتعالى أمثال هؤلاء فقال : { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } ، وقال تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } 0
    أسباب الخوف من الموت : -
    إذا سألت أي إنسان عن سبب خوفه من الموت فلا يخرج جوابه عن الأمور التالية :
    1ـ غموض حقيقة الموت 0
    2ـ الشعور بالخطيئة من الذنوب والمعاصي 0
    3ـ الافتراق عن الأحبة والملذات والآمال 0
    4ـ انحلال الجسد وفقدان القيمة الاجتماعية والمعنوية واستحالته إلى شيء مخيف وكريه 0

    • طرق العلاج :
    تمهيد :
    إن التوصل إلى تخليص المريض من الخوف نهائيا أمر مستحيل لأن الخوف في الإنسان فطري لهذا كان القصد من العلاج إنما التخفيف من الخوف بتجريد الموت من معظم ما فيه من الآلام النفسية 0ولما كانت الأسباب المتقدمة هي أهم المنبهات كان من الضروري اللجوء إلى تحليل هذه الأسباب وتوضيحها وتعليلها لإسقاطها من ذهن المصاب والانتقال إلى مرحلة الإقناع بمجابهة حقيقة الموت بالرضا والقبول 0اسأل نفسك : هل الموت من لوازم الحياة الإنسانية ؟ أو هل يمكن التخلص منه ؟ 0 والجواب بديهي بالطبع ، إذ ليس من عاقل يعترض على كون الموت أمرا حتميا ، وضريبة على كل كائن حي 0قال تعالى : { كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون } ، وقال تعالى : { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل } ، وقال تعالى: { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } مادام الأمر كذلك فلماذا أخاف من الموت ؟ هل لأنه يعني الفناء ؟ أو لأنه يعني الانتقال من حياة دنيا إلى حياة أخرى . الدهريون والماديون يقولون بالفناء قال تعالى على لسانهم : { إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين } ، وهي رؤية قاصرة لاعتمادها الحواس في وضع المقاييس الوجودية ، وأشد ما فيها من الإحباط اعتبار الإنسان كباقي المخلوقات الحية ، وأي فضل في هذا للإنسان ؟ هل أنت من هؤلاء ؟ إن كنت كذلك فلك الحق بخوفك 0 ولكن ليس من دليل عقلي أقوى على كون الموت بداية لحياة أخرى من تفرد الإنسان في تكوينه الجسدي والعقلي والروحي والنفسي عن باقي المخلوقات 0 قال تعالى : { ولقد كرمنا بني آدم } ، وقال تعالى : { وقالوا إن هذا إلا سحر مبين أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون () أو آباؤنا الأولون () قل نعم وأنتم داخرون } ، وقال تعالى : { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون } ، وقال تعالى : { ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون } . فالموت في نظر العقلاء والمؤمنين انتقال من مرحلة مؤقتة إلى حياة أخروية دائمة . وإذا كان كذلك فأي معنى بقي لفكرة انحلال الجسد واستحالته إلى تراب وعظام ؟ 0 إن كثيرا من الناس تشكل أجسادهم عبئا نفسيا عليهم ، فيلجأ بعضهم إلى أطباء التجميل رغم ما يعتوِر أفعالهم من آلام مبرحة تلحق الأجساد ، فكيف يكون شأن من أجريت له عملية تجميل دون أي شعور بألم ؟ ! . وتسألني متى ذلك ؟ نعم يكون ذلك يوم البعث ، يوم يبعث الناس جميعا ، ويخص الله المؤمنين بتحسين الوجه والهيئة ، تبارك الله أحسن الخالقين . قال تعالى واصفا وجوه المؤمنين : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } وقال تعالى : { فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا } ، وقال تعالى : { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } 0 والنضرة حسن يلحق بالوجه . قد يقول قائل : "إن الموت يحمل معه فكرة الفراق والحرمان من مشاهدة الأحبة والالتقاء بهم " ، وهذا يعني فقدان التوازن النفسي للإنسان . أقول : " نعم " ، ولكنه بعد الموت ، ولو سألت ميتا منذ آلاف السنين بعد بعثه كم لبثت ؟ ليقولن يوما أو بعض يوم . فراق هذا شأنه لا ينبغي أن يترك خوفا في النفس من الموت ، بل غاية ما يتركه دمعة حزن تحمل الرحمة وطلب المغفرة . فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن معاذ فقال : (( ألا تسمعون ؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه ، أو يرحـم )) . وبكى النبي صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : وأنت يا رسول الله ؟ فقال : ( يا ابن عوف إنها رحمة ، إن العين تدمع ، والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا و إنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ) . فالفراق يترك الحزن في النفس ولا ينبغي له أن يترك الخوف من الموت . فراق مؤقت يتبعه لقاء يوم القيامة ، لقاء يعقبه محبة ولقاء يعقبه لعنة وفراق أبدي أما لقاء المؤمنين فهو لقاء محبة وأنس ، وأما لقاء الكافرين والفاجرين والفسقة فهو لقاء بغضاء ولعنة وتبرؤ . قال تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } . وقال تعالى : { إذ تبرأ الذين اُتُّبعوا من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} . وإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فلا لقاء بينهم البتة لاختلاف المصير ، أما المنافقون فيحال بينهم وبين المؤمنين بعد بعثهم فتجدهم يتوسلون إلى المؤمنين طمعا للاهتداء بنورهم ولا مجيب لهم . قال الله تعالى : { يوم ترى المؤمنون والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم () يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم () قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب () ينادونهم ألم نكن معكم قالوا : بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغرّكم بالله الغرور } .
    فاحرص على تأسيس بيتك على التقوى وعاشر الأتقياء وتلمس خطاهم حتى تحشر معهم تقول إنك تخاف من الموت لأنك تخاف على عيالك الضيعة 0 فمن حقك أن تخاف ، فقد قال الله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله }0 ولكن هل تركت عيالك لغير الله ؟ لو فعلت ذلك لكنت معك في هذا الخوف ؟ أما وأنك قد تركتهم على الله فإن الله لن يضيعهم ؟ فكم من يتيم أصبح من أغنى الناس ، ألم تسمع بقصة الغلامين اليتيمين في سورة الكهف 0 وكيف أن الله حفظ مال والديهما بعد وفاتهما رحمة منه وفضلا ، وتذكر دائما أن الله هو الرازق ذو القوة المتين وأنه أخذ على نفسه رزق العباد فقال :{ فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون } 0بقي عليك أن تقول : أخاف الموت خوفا من المعاصي التي ارتكبتها ، أقول : إن خوفك هذا مِئَنّةُ على إيمانك ، والمؤمن الحق هو الذي يجمع بين الخوف والرجاء والمحبة ، وما اجتمعت في قلب مؤمن قط إلا أعطاه الله ما يرجوه و آمنه مما يخاف 0 قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وما حفظت حدود الله ومحارمه ووصل الواصلون إلى الله بمثل خوفه ورجائه ومحبته ، ومتى خلا القلب من هذه الثلاث فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا ، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه" 0 وقال أبو حامد الغزالي :" فالخوف والرجاء دواءان يداوى بهما القلوب ، فإن كان الغالب على القلب داء الأمن من مكر الله تعالى والاغترار به أخذ الإنسان بالخوف ، وإن كان الأغلب هو اليأس والقنوط من رحمة الله فالرجاء أفضل وذلك لتحقيق التوازن بينهما " 0 قال تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أن أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } 0

    وهكذا أيها الأخوة عشنا معكم لمدة ثلاثين ليلة ( ثلاثون حلقة ) أتمنى أنكم أستفدتم واستمتعتم 00 وما مليتم 00
    عيدكم مبارك ، وكل عام وأنتم بخير ويتقبل الله من الجميع 00
    ألتقي بكم بعد شهرين إن شاء الله ، بعد أن أستمتع بإجازتي السنوية من الأنترنت والمنتديات ، سأرد على كل التعليقات والاستفسارات وأشكرهم على ذلك ، قد أدخل أقرأ ولكن لن أعلق أو أقدم أي شيء 0
    تمنياتي لكم بالصحة والعافية

    المراجع والمصادر لجميع الحلقات :

    1ـ القرآن الكريم 0
    2ـ معجم آيات القرآن الكريم 0
    3ـ تفسير ابن كثير 0
    4ـ محمد علي الصابوني ، صفوة التفاسير 0
    5ـ محمد علي قطب ، الحب والجنس من منظور إسلامي ، 1983 ، مكتبة القرآن ، القاهرة ، مصر 0
    6ـ إبراهيم محمد الجمل ، الحسد وكيف نتقيه ، 1402، مكتبة القرآن الكريم ،/ القاهرة ، مصر 0
    7ـ محمد عثمان نجاتي ، القرآن وعلم النفس ، 1989 ، دار الشروق ، القاهرة ، مصر 0
    8ـ طالب الخفاجي ، قوتك في ذاتك ، 1986، دار المريخ ، الرياض ، السعودية 0
    9ـ أحمد عكاشة ، علم النفس الفسيولوجي ، 1982 ، دار المعارف ، القاهرة ، مصر0
    10ـ وزارة المعارف ، مبادئ علم النفس ، 1409 ، وزارة المعارف ، السعودية 0
    12ـ عبد الحميد الهاشمي ، علم النفس التكويني ، 1403
    13ـ حامد عبد السلام زهران ، التوجيه والإرشاد النفسي ، الطبعة الثالثة ، ( 1998 ) عالم الكتب ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية 0
    14ـ حامد عبد السلام زهران ، الصحة النفسية والعلاج النفسي ، الطبعة الثالثة ( 1988 ) ، عالم الكتب ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية 0
    15ـ عبد المنعم المليجي وحلمي المليجي ، النمو النفسي ، الطبعة السابعة ( 1989 م ) ، دار الشروق ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية .
    16ـ محمد كمال عبد العزيز ، إعجاز القرآن في خلق الإنسان ( د. ت ) مكتبة القرآن ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية .
    17ـ روبرت سولسو ، علم النفس المعرفي ، ترجمة د. محمد نجيب العبوة وآخرون ، ( 1996 م ) شركة دار الفكر الحديث ، الكويت ، دولة الكويت .
    18ـ عبد الستار إبراهيم ورضوى إبراهيم ، علم النفس أسسه ومعالم دراساته ، الطبعة الثالثة ( 2003 م ) ، دار العلوم للطباعة والنشر ، الرياضي ، المملكة العربية السعودية .
    20ـ محمد محروس الشناوي ، نظريات الإرشاد والعلاج النفسي ، 1989م ، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية 0
    21ـ جيرالد كوري ، الإرشاد والعلاج النفسي بين النظرية والتطبيق ، ترجمة الدكتور / طالب الخفاجي ، الطبعة الأولى ، 1985م ، الفيصلية ، الرياض ، المملكة العربية السعودية 0
    22ـ روبرت ودوث مدارس علم النفس المتعاصرة ، ترجمة الدكتور كمال دسوقي ، دار النهضة العربية للطباعة والنشر ، 1981م ، بيروت ، الجمهورية اللبنانية 0
    23ـ عبـد الحميد محمد الهاشمي ، التوجيه والإرشاد النفسي ( الصحة النفسية الوقائية ) ( 1986 م ) الطبعة الأولى ، دار الشروق ، المملكة العربية السعودية 0
    24ـ يوسف القرضاوي ، نافذة على الإسلام ، ( د0ت ) ( 1995 ) 0
    25ـ وزارة المعارف سابقا ( التربية والتعليم ) ، مباديء علم الاجتماع ، ( 1408 ) الرياض ، المملكة العربية السعودية 0
    27ـ محمد بن يحيى بن حسن النجيمي ، دور الأسرة في انحراف الأولاد ( الأسباب والعلاج ) ، ورقة عمل مقدمة لندوة المجتمع والأمن المنعقدة بكلية الملك فهد الأمنية بالرياض من 21/2ـ 24/2 / 1425هـ الموقع : 0www.minshawi.com
    28ـ محمد قاسم عبد الله ، مدخل إلى الصحة النفسية ( الطبعة الأولى ) ، ( 2001م ) ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، عمان ، المملكة الأردنية الهاشمية 0
    29ـ فائز محمد علي الحاج ، الأمراض النفسية ، المكتب الإسلامي ،
    30ـ فائز محمد علي الحاج ، الصحة النفسية ، المكتب الإسلامي ،
    31ـ محمد عودة و كمال إبراهيم مرسي ، الصحة النفسية في ضوء علم النفس والإسلام ، دار القلم ، الطبعة الأولى ، 1984 ،
    32ـ عبد العلي الجسماني ، القرآن وعلم النفس ، الدار العربية للعلوم ، الطبعة الأولى ، 1999،
    بيروت ، لبنان 0
    33ـ عطوف محمود ياسين، 1988م ( الأمراض السيكوسوماتية ) الطبعة الأولى ، منشورات بحسون الثقافية ، بيروت ، لبنان 0
    34ـ محمد محمد خليل ، 1982م ( الطب النفسي ، معناه 00 أبعاده ) الطبعة الأولى ، مطبوعات تهامة ، جدة ، السعودية 0
    للنشر والتوزيع ، جدة ، السعودية 0
    35ـ محمد رفعت، 1979م ، ( أمراض القلب ) ، الطبعة الثالثة ، دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان 0
    36 ـ مقالات لعدد من العلماء من مواقع على الأنترنت 0
    37ـ مقالات للشيخ القرضاوي 0
    38ـ مقالات وورقات عمل لضيف الله مهدي 0
    39ـ ضيف الله مهدي ، الإنسان وصحته النفسية بين الإسلام وعلم الصحة النفسية ( رسالة دكتوراه ) غير منشورة ، 1426هـ
    40ـ بعض المواقع وليس كلها على الانترنت

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •