إمارة فخر الدين في أقصى اتساعها
توحيد لبنان
م يحدّ النفي الطويل من مطامح الأمير فخر الدين الثاني في توسيع دولته، بل زاده هذا النفي تصميما على تحقيق فكرته، وخاصة أن توسيع دولته سيخلصه من بعض الأمراء الذين سرّوا بابتعاده عن إمارته، واضطهدوا أنصاره. وفي مقدمة هؤلاء يوسف سيفا أمير
طرابلس و
عكار. وكان آل سيفا قد أغاروا في غياب الأمير، على
دير القمر مقر أسرة الأمير، وهدموا قصره، وأحرقوا
مزارع أنصاره. فعزم الأمير، إثر عودته من أوروبا، على مهاجمة آل سيفا، فحشد الرجال وزحف إلى عكار، حيث قصور آل سيفا، فهدمها ونقل
حجارتها الصفراء الجميلة، من عكار إلى ميناء طرابلس، ومنها نقلتها المراكب إلى
الدامور، ومنها نُقلت إلى دير القمر فأعاد بناء قصره وقصور
آل معن بها. ولا تزال الحجارة الصفراء موجودة في هذه القصور حتى اليوم. اضطر يوسف سيفا عندئذ أن يُصالح الأمير على مبلغ كبير من المال، بعد أن تنازل له عن مقاطعتي
جبيل و
البترون.
وكان ابن سيفا يُماطل
الدولة العثمانية في دفع الديون المطلوبة منه، فعينت الدولة على طرابلس واليا جديدا. ولكن هذا الوالي الجديد لم يتمكن من تسلّم
المدينة إلا بعد أن استنجد بالأمير فخر الدين، فجهز الأمير حملة لمساعدة الوالي العثماني. وما كاد ابن سيفا يعلم بأنباء هذه الحملة حتى تخلّى عن طرابلس. واستغل الأمير ضعف ابن سيفا، فاستولى على منطقة
بشري وضمها إلى إمارته، كما اغتنم عجز الوالي الجديد عن تحصيل الضرائب من أهالي
عكار و
الضنية فتولى الأمير هذه المهمة وضمهما إلى إمارته. ولما توفي يوسف سيفا عام
1625 عرضت الدولة العثمانية ولاية طرابلس على الأمير فخر الدين، فنالها باسم ولده حسن من زوجته "علوة" بنت شقيق يوسف سيفا. وسعى الأمير إلى إنعاش الحياة
التجارية و
الصناعية في طرابلس، فأوعز إلى تجار صيدا بالانتقال إلى طرابلس، فازدهرت أسواقها بعد أن كانت ضعيفة في عهد ابن سيفا
إن تصفية حكم آل سيفا في طرابلس لم تشغل الأمير فخر الدين عن
البقاع وأمرائه من بني حرفوش، الذين كانوا حلفاءه قديما، ثم انقلبوا عليه في غيابه، ولما رجع من
إيطاليا خافوا من انتقامه، فما كان منهم إلا أن وشوا به لدى مصطفى باشا والي دمشق، وبالغ يونس حرفوش أمام الوالي في تصوير الخطر المحدق بالوالي والدولة العثمانية من توسّع الأمير، ومن اتصاله بالدول الأوروبية. وما زال به حتى أقنعه بوجوب التخلص من الأمير، فوعده الوالي بأن يُساعده على خصمه. وما لبثت جموع آل حرفوش وقوات مصطفى باشا، أن احتشدت في البقاع، وكان عددها يبلغ 12 ألف مقاتل من أبناء ولاية
دمشق و
الإنكشارية و
التركمان و
البدو، وكان فخر الدين يُراقب تحركات آل حرفوش وينتظر هذه الفرصة، فأسرع مع حلفائه
آل شهاب، وتصدى لجموع خصومه في قرية
عنجر بجيشه المؤلف من خمسة ألاف مقاتل لبناني، من جميع المناطق اللبنانية الواقعة تحت حكمه، ومن جميع
الطوائف.

معركة عنجر كما تخيلها أحد الرسامين الفرنسيين، ويبدو الأمير فخر الدين في اليمين على صهوة جواده.
بدأت
المعركة عندما تقدم والي دمشق بجيشه مناوشا قوات الاستطلاع بقيادة الشهابيين، ولقد أثار ذلك القلق بن الشهابيين ولكن فخر الدين اصدر أمره للاستطلاع بالانكفاء إلى
مجدل عنجر. فقامت معظم فرق الدمشقيين والانكشاريين باللحاق بهم إلى برج الخراب الواقع بالقرب من مجدل عنجر التي احتلوها. على الأثر بدأ فخر الدين بتنفيذ خطته حيث أرسل مئة خيّال للتحرش بخيالة مصطفى باشا والانكفاء أمامهم ليستدرج كل خيالة مصطفى باشا لتعقب خيالته بحيث ينكشف مشاة والي دمشق امامه في
سهل عنجر. وهذا ما حصل بالضبط، لأن ما أن بدأ خيالة الأمير المئة بالانكفاء حتى تعقبهم الف من خيالة الوالي. وزاد من نجاح المناورة ارسال باقي الخيالة الدمشقيون إلى برج الخراب للقضاء على قوات الاستطلاع. وما أن انكشف مشاة الوالي في سهل عنجر بدون حماية الخيالة، حتى أرسل الامير كل جيشه الباقي من خيّالة ومشاة للقضاء على جيش الوالي وانهاء المعركة. فتقدمت مجموعة مدبر الأمير برجاله من
جبل عامل من وراء التلال بمعية رجال الأمير علي ابن فخر الدين، مهاجمين جيش الوالي. أما رجال الامير يونس فاقفلوا خط الرجعة على جيش الشام. وما أن رأى جيش الوالي أنه أصبح مطوقا، حتى ولّوا الأدبار وأرغم الوالي على إعطاء الأوامر بالانسحاب، فتضعضع جيشه وسقط مئات القتلى وقتل أربعة من كبار قواد جيش الوالي وطورد المنهزمون حتى
الزبداني على الحدود اللبنانية السورية الحالية. بعد هذه المعركة العنيفة بين الطرفين، وقع الوالي مصطفى باشا أسيرا بين يدي الأمير. ولكن الأمير أحاطه بالإكرام والحفاوة، فقابله الوالي بأن اعترف بجميل الأمير وولاّه على
البقاع، وأباح له أملاك آل حرفوش. وهكذا تمّ لفخر الدين ما أراد، فبعد أن كان
لبنان أربع عشرة مقاطعة، أصبح في عام
1623 دولة واحدة، لها أميرها الكبير، ويرفرف فوق شمالها وجنوبها وسواحلها وبقاعها علم المعنيين.
امتداد الإمارة نحو باقي بلاد الشام

المناطق والمدن الشاميّة التي خضعت لفخر الدين الثاني. أدرك فخر الدين تقلّب السياسة العثمانية واضطرابها، فحرص على أن تبقى علاقاته مع الدولة العثمانية متصلة، وقوّى مركزه في
اسطنبول واعتمد على بعض الوزراء وذوي النفوذ، الذين أغدق عليهم الهدايا والأموال، فكان في
الأعياد، وعند الترقيات والتعيينات في مناصب الدولة، يُسرع إلى إرضاء كل من يحتاج إليه أو يتعامل معه. وهكذا ضمن فخر الدين عواطف رجال الحكم في العاصمة. عندما اطمأن الأمير إلى متانة مركزه لدى الدولة، طمع بما وراء حدود لبنان، وشجعه على ذلك وجود ولاة ضعاف وأمراء عاجزين في المقاطعات المجاورة لإمارته. وكان والي دمشق، إثر معركة عنجر، قد جدّد له سنجقيات
صفد و
الجليل و
نابلس، وزاد عليها
غزة و
عكا و
الناصرة و
طبريا و
عجلون. وهذه مناطق غنية خصبة أفادت فخر الدين مالا وفيرا وأمدّت جيشه بالرجال.
وبعد أن امتدت إمارة فخر الدين في الجنوب، انصرف الأمير إلى التوسع شمالا، فاستولى على
سلمية و
حمص و
حماة، ثم بلغ نفوذه
حلب و
أنطاكية، فبنى قلعة قرب حلب، وقلعة في أنطاكية، وقلعة في
تدمر ما تزال تعرف حتى اليوم باسم "قلعة ابن معن". وكان قد استولى قبل ذلك على
حوران، وبنى في
صلخد قلعة لحماية أراضي حوران الخصبة التي ضمها إلى إمارته. وهكذا شملت إمارة فخر الدين لبنان كله، و
سوريا و
فلسطين وشرقي
الأردن، واستطاع الأمير أن يتغلب على والي حلب ووالي دمشق بجرأته وذكائه، وأن يكسب في الوقت نفسه رضا الدولة العثمانية فينال عام
1624 لقب "
سلطان البر" وهو نفس اللقب الذي ناله جده
فخر الدين الأول، قبل أكثر من مائة سنة، من السلطان
سليم الأول. وأطلق السلطان على فخر الدين لقبا كبيرا أخر هو "
أمير عربستان" أي أمير
بلاد العرب. غير أن فخر الدين كان يُفضل أن يُلقب بلقب عزيز على نفسه هو "
أمير جبل لبنان وصيدا والجليل".
بناء الدولة المعنية
التنظيم العسكري
هذه المساحة الواسعة من الأرض التي استطاع فخر الدين أن يحكمها، لم يكن إخضاعها سهلا لو لم يكن فخر الدين يملك جيشا قويّا وافر العدد جيّد التدريب. ولم يكن الأمير يستطيع أن يُحافظ على البلاد التي ضمها إلى إمارته، لو لم يُنشئ شبكة من
القلاع و
الحصون، في المواضع الحربية المناسبة. ولم يهمل فخر الدين
السلاح، فجهّز جنوده بأفضل الأسلحة التي عرفها عصره، وزوّد قلاعه بأوفر
الذخائر والعتاد.
[
نظّم فخر الدين جيشه على أحدث الأساليب التي عرفها
القرن السابع عشر، مستعينا بخبراء استدعاهم من
فرنسا و
توسكانا، وزوّده بأسلحة جلبها من
إسبانيا. كان جيش فخر الدين نوعين: وطني، و
مرتزقة. وهذان النوعان هما عماد الجيش النظامي. أما الجيش الوطني فكان مؤلفا من اللبنانيين على اختلاف مناطقهم وأديانهم، من غير أن يشعروا تحت لوائه بأي فرق أو تمييز، ولم يكن يُعكر صفاء هذه الوحدة إلا الانقسام الحزبي بين القيسيين الذين هم أنصار الأمير، واليمنيين الذين كانوا يناصبونه العداء.
] إلى جانب هذا الجيش الوطني، استأجر فخر الدين جنودا من السُكمان وغيرهم من المرتزقة، ومن هؤلاء المرتزقة كان بعض العاصين على
الدولة العثمانية، فهؤلاء كانوا قد يئسوا من عفو
السلطان، فأقبلوا على الأمير: يخدمونه، ويُهاجمون جيوش أعدائه من الولاة العثمانيين. وقد صمدت قوات السُكمان في القلاع صمودا رائعا، بعد سفر الأمير إلى
أوروبا، ورفض رجالها وعود الحافظ وإغراءاته. وكان الأمير فخر الدين يعتمد أحيانا على قوات حلفائه من الأمراء كآل شهاب، وآل حرفوش عندما كانوا معه، وقبائل
العرب في
عجلون و
حوران. وكان عدد الجنود في جيش فخر الدين، يتفاوت بين وقت وآخر، فعندما سافر إلى
توسكانا كان جيشه لا يزيد على عشرين ألفا. أما في أيام مجده الأخيرة فقد بلغ نحوا من أربعين ألف جندي مدرّب، وكانوا يتناولون الرواتب بانتظام. وكان في وسع فخر الدين، زمن الحرب، أن يجهّز أكثر من سبعين ألفا. وإلى جانب هذا الاستعداد العسكري في عدد الجنود الوافر، وإلى الشجاعة التي اتصفوا بها في القتال، فقد كان لبسالة الأمير وعنفه في المعارك، أثر كبير في انتصاراته التي حققها.
كان جيش فخر الدين النظامي يتألف من
مشاة و
خيالة. أما المشاة فكانوا يلبسون أخف ال
ثياب، ويحملون
البنادق و
السيوف ذات النصال العريضة. وأما الخيّالة، فكان الفارس منهم يلتف ب
عباءة واسعة ويحمل البدقية ذات القدّاحة، ويُعلق السيف على جنبه، ويمسك ترسا يقيه الضربات. وكان لدى الأمير عدد قليل من
المدافع أحضرها من
توسكانا، ونصبها في
قلعة الشقيف كما كان لديه عدد أخر من المدافع الإسبانية جاءته هدية من ملك
إسبانيا. وكان الأمير في مخابراته مع ملوك أوروبا وأمرائها يلح عليهم بأن يوفدوا إليه خبراء في صناعة الأسلحة وصب المدافع. والظاهر أن هذا الطلب لم يتحقق. ولم يكن الأمير يملك قوة بحرية يستطيع بها أن يُقاوم الأسطول العثماني، وكان لهذا النقص البحري أثر في تحديد مصير الإمارة فيما بعد. وقد حجز الأمير مرة مركبين حربيين ل
قراصنة مالطة لأنهم اعتدوا على شواطئ لبنان، فاستخدمهما في حماية جيشه البري عندما يسير على الطرق الساحلية، كما استخدمهما في نقل البضائع والذخائر والجنود بين الموانئ اللبنانية.

علم القيسيين، شعار الجيش المعني. لم يكن الأمير فخر الدين يُقدم على إعلان
الحرب إلا بعد أن يبحث الأمر مع مستشاريه، ورجال إمارته، وزعماء الإقطاع المخلصين له. وكان يستدعيهم إلى قصره للمشورة، حتى إذا أجمعوا على إعلان الحرب أوفدوا إلى
القرى رسلا، أو صعد المنادون إلى أعالي
الجبال واستنهضوا أبناء القرى المجاورة للتجمع، أو أشعلوا
النار على قمم الجبال، وهي إشارة تعني أن الناس مدعوون إلى التجمع في قصر الأمير. وكان الأمير فخر الدين هو القائد العام لجيشه، فإذا تغيّب عن
المعركة، ناب عنه ابنه علي، أو أخوه يونس. وجعل فخر الدين للجيش النظامي قادة دائمين، أشهرهم أبو نادر الخازن، وكان كل إقطاعي من الأمراء والمقدمين والمشايخ قائدا على رجاله، تحت إمرة الأمير. وكان شعار الجيش المعني العلم الأحمر، وهو شعار القيسيين كلهم.
حمى فخر الدين أراضي الإمارة بشبكة من
الحصون و
القلاع و
الأبراج و
الأسوار، ووزع جنوده في هذه الحصون والقلاع ودرّبهم على إطلاق المدافع وقذف المواد المتفجرة على المحاصرين. وقد بنى فخر الدين بعض هذه الحصون. أما بعضها الأخر فكان قد بناه
الصليبيون أو من سبقهم، ورممه فخر الدين وجعله صالحا للتحصن داخله. ومن مهمة هذه القلاع والأبراج أن تحمي طرق المواصلات في بلاد الإمارة من اللصوص، وتكافح قطاع الطرق، وتؤمن راحة
المسافرين و
التجار. وأشهر قلاع فخر الدين هي:
[

بقايا قلعة الشقيف: خبأ فيها فخر الدين ثروته.

قلعة صيدا البحرية.

قلعة المرقب في سوريا، تقع على بعد 6 كيلومترات من بانياس.
[LIST][*]
قلعة الشقيف: أو قلعة "شقيف أرنون"، وهذه القلعة قائمة على صخر شاهق يُشرف على
نهر الليطاني وسهل
مرجعيون. وهي قلعة قديمة بناها
الرومان[40] وزاد الصليبيون أبنيتها، ورممها فخر الدين الثاني. وهي من أمنع القلاع، ولذلك جعلها الأمير المعني مركزا لتموين
لبنان الجنوبي في سنوات الجدب. وخبأ فيها خزانة أمواله. وعندما حاصرها الحافظ أثناء حملته لم يتمكن من قهرها فعاد عنها خائبا.[/LIST]
[LIST][*]
قلعة نيحا: أو قلعة "شقيف تيرون"، وهي
مغارة محصنة، كانت شؤما على المعنيين، فقد مات فيها الأمير قرقماز سنة
1584 عندما لاحقه الوالي إبراهيم باشا، واختبأ فيها ابنه فخر الدين الثاني بعد خمسين سنة، وكان اختباؤه بداية نهايته. تقع هذه المغارة في بلدة
نيحا بالشوف.[/LIST]
[LIST][*]
قلعة صيدا البحرية: أو "قلعة صيدا" أو "قلعة البحر"، وهي قلعة تتصل بالبر بجسر من الحجارة، وقد بناها الصليبيون عام
1228 وكانت منيعة. وقد نصب الأمير فيها مدفعا كبيرا ليمنع القراصنة من غزو مينائها.[/LIST]
[LIST][*]
قلعة قب إلياس: بناها الأمير فخر الدين عام
1625. وما زالت بقاياها قائمة حتى اليوم.[/LIST]
[LIST][*]
قلعة المسيلحة: وهي قلعة بناها الصليبيون في بلدة
البترون. تُسمّى
بالفرنسية "Puy du Connétable". تقع القلعة على جرف صخري شاهق وتشرف على
نهر الجوز. أعاد الأمير فخر الدين ترميمها لحماية الطريق من
طرابلس إلى
بيروت.[/LIST]
ومن قلاع فخر الدين الأخرى في لبنان: قلاع
طرابلس وجبيل وبعلبك وبيروت وصور وغزير. أما أشهر قلاع فخر الدين خارج لبنان فهي:
[LIST][*]
قلعة بانياس: وهي في منطقة
القنيطرة في
الجولان السورية. بناها الصليبيون عام
1107. استولى الأمير على القلعة عام
1610، ودكّها محمد جركس باشا والي دمشق عام
1616 أثناء غيبة الأمير في أوروبا. ثم أعاد الأمير بناءها عام
1625. وكانت هي وقلعة الشقيف أهم قلاع الأمير[/LIST]
[LIST][*]
قلعة تدمر: وكانت تُدعى قلعة "ابن معن"، شيّدها الأمير لردّ غارات القبائل عن حدود بلاده.[/LIST]
[LIST][*]
قلعة صلخد: في حوران، أعاد الأمير بناءها وترميمها عام
1625.[/LIST]
ومن قلاع فخر الدين الأخرى في
سوريا: قلاع
حلب وأنطاكية، و
حصن الأكراد، و
المرقب و
عجلون.
التنظيم الإداري
كانت مناطق
لبنان قبل عهد فخر الدين الثاني تتنازعها الفوضى و
الظلم، فالناس وما يملكون من مال وأرض وبيوت هم تحت رحمة رجال الإقطاع، وإذا نجوا من هؤلاء، فمن الصعب ان يتخلصوا من قطّاع الطرق، وغزوات
البدو. أما الجيوش العثمانية التي كانت تتدخل لتأديب ثائر أو اعتقال ممتنع عن دفع الضرائب، فإن بعضها لم يكن يتورع عن النهب والقتل والاعتداء على الآمنين، كما كان شأن حملة إبراهيم باشا المصري. وكان
الحج إلى
مكة المكرمة أو
بيت المقدس مغامرة غير مأمونة العاقبة، لما كان يعترض الحجاج من أهوال وأخطار. فلمّا جاء فخر الدين حاول أن يقيم ال
عدل في
حكمه بين الناس، وان ينشر
الأمن في ربوع بلاده، فاحتفظ لنفسه بالحكم على المجرمين، تاركا لرؤساء الطوائف الحكم في القضايا الدينية وقضايا الأحوال الشخصية من
زواج و
طلاق و
إرث وغيرها، وجعل رؤساء الطوائف مسؤولين عن أتباعهم أمامه. وبلغ من حرص الأمير فخر الدين على انتشار الأمن في إمارته، حدّا دفعه إلى أن يُجهز الحملات بقيادته الشخصية لتأديب القرى العاصية أو إخضاع عصابة قطعت الطريق، فعندما عاد من أوروبا ووحد
لبنان و
بلاد الشام تحت لوائه، حتى نهض على رأس حملة من رجاله وسار بهم في رحلة استغرقت ثمانية أشهر، فجال في
سوريا و
فلسطين من أقصاها لأقصاها، مرتبا أمور مملكته الواسعة، كابحا جماح العصاة قاطعا دابر الاجرام، مرمما التحصينات ومجهزا اياها بالاعتدة والزاد والرجال. كذلك أقام في مفارق الطرق المعرّضة للاعتداء أبراجا للمراقبة، وخانات محصنة، جهزها بالجنود ووسائل الدفاع وزودها بال
ماء والمؤن. وهكذا أمن الناس على حياتهم وأموالهم في السفر والتنقل، وقد شهد على ذلك كثير من الرحالة الذين زاروا لبنان في عهد فخر الدين، إذ كان الأمن السائد في ربوع لبنان في طليعة ما لفت أنظارهم. وكان هذا الأمر عاملا شجّع على الهجرة إلى لبنان، كما فعل آل جانبولاد، الذين جاءوا من حلب زمن فخر الدين الثاني، وأصبحوا فيما بعد آل جنبلاط.
نظّم فخر الدين إمارته تنظيما إداريّا يكفل له الإشراف على أمورها العامة، فجعل فيها موظفين مسؤولين يعينهم بنفسه، وحدد لهم مرتبات يتقاضونها من خزينة الإمارة. ولكي يضبط سجلات
الإدارة، أمر بوضع سجلات تضم أسماء اللبنانيين الذكور القادرين على حمل
السلاح، وسجلات بعدد البساتين وأشجارها المثمرة، وسجلات بعدد
الحيوانات و
المواشي الموجودة في كل
قرية. وعلى أساس هذه السجلات تُفرض الرسوم والضرائب. واختار للمناصب السياسية والإدارية والعسكرية رجالا أذكياء مخلصين من غير أن يلتفت إلى طوائفهم. فكان يعاونه من
الموارنة: أبو صافي الخازن، وإبراهيم الخازن، وخازن الخازن الذي كان مديرا أو وزيرا للأمير، وأقام يونس حبيش خازنا لبيت المال، كما اختار أعوانه الآخرين من
الدروز و
السنّة و
الشيعة.
التعليم
شعر الأمير، بعد عودته من
إيطاليا، بضعف
التعليم وقلة المتعلمين في بلاده، فشجع على إيفاد عدد من التلاميذ
الموارنة إلى
روما، ليتعلموا اللغات الأجنبية والعلوم العالية، ويعودوا إلى لبنان، فينشروا ما تعلموه بين الناشئين. وقد توالت بعثات الطلاب في عهده إلى إيطاليا، وكثر أفرادها، وبلغوا مراتب عالية في العلوم التي تخصصوا فيها. وعاد عدد كبير من بعثات الطلاب إلى لبنان، وأنشأ العائدون مدارس للأحداث، وأسس بعضهم مطبعة في دير قزحيا، قرب طرابلس سنة
1610 وهي أول مطبعة في لبنان، بل في
الشرق العربي كله. وساعد تسامح فخر الدين في الشؤون الدينية على قدوم الإرساليات الأجنبية إلى لبنان، وإنشائها
المدارس فيه، ومنها بعثة الآباء الكبوشيين الذين قدّم لهم فخر الدين الأراضي فبنوا فيها
أديرة و
معاهد. أما فخر الدين نفسه، فلم تسمح له ظروف نشأته أن ينصرف إلى الدرس انصرافا كاملا، ولكنه مع ذلك كان ميّالا إلى
العلم والعلماء، وكان يُحب كل ما يتصل بالعلوم
الكيميائية و
الفلكية.
وقد بقي بعض الطلاب اللبنانيين في إيطاليا، فحققوا المخطوطات الشرقية وحفظوها في
مكتبات روما. وألّف بعضهم الكتب والأبحاث. وعملوا جميعا على إدخال أساليب
اللغة اللاتينية إلى
اللغة العربية. ومن هؤلاء الأب جبرائيل الصهيوني الإهدني الذي كان أستاذا في مدارس روما ثم أصبح مترجما للملك
لويس الثالث عشر ملك فرنسا، وإبراهيم الجاقلاني ويوحنا الحصروني اللذان اشتغلا في ترجمة الكتب الدينية، ويوسف سمعان السمعاني الذي كان يُبقب في أوروبا "بأبي العلوم الشرقية".
النهضة العمرانية

داخل خان الإفرنج في صيدا القديمة.

مستودع وخان الحرير في دير القمر، أصبح اليوم المركز الثقافي الفرنسي. كان فخر الدين محبّا للبناء و
العمران، كما كانت ظروف حياته العسكرية تفرض عليه الاهتمام بإقامة الحصون والأبراج، وتحسينها وتطوير
هندستها، فلمّا سافر إلى
إيطاليا ورأى
القصور الجميلة والقلاع المنيعة و
الحدائق المنسقة، ازداد اهتمامه بالناحية العمرانية، ورغب في تطويرها في بلاده لتخدم مصلحته العسكرية زمن الحرب، وليُمتع نفسه بجمال القصور والحدائق زمن السلم والاستقرار. وقد عهد فخر الدين إلى الخبراء والمهندسين الإيطاليين الذين جاء بهم من
توسكانا بمهمة تصميم مشاريعه العمرانية وتنفيذها. من أهم المشروعات التي نفذها المهندسون
الطليان، عدد من
الجسور كانت ضرورية لتنقل الناس والجيوش بين المناطق، وفي مقدمتها جسر على
نهر الأولي قرب صيدا، وكان مؤلفا من عقد واحد، والقناطر التي أعيد بناؤها على جسر
نهر الكلب، وترميم جسر
نهر بيروت، وسبيل الماء الذي أقامه فخر الدين في صيدا تخليدا لذكرى زوجته ابنة الأمير علي سيفا، التي ماتت في ربيع شبابها، وقد كثر حديث الرحالين عنه لما فيه من
فن و
جمال. وكان لإقامة سُبل المياه أهمية خاصة في المدن، لأن مياه الشرب لم تكن تصل إلى البيوت.
بنى الأمير قصرا له في
دير القمر، ما تزال آثاره باقية حتى اليوم، وشاد للأمراء المعنيين قصورا في
صيدا، وأنشأ الخانات في المدن، وعلى الطرق الطويلة، لكي ينزل فيها التجار الأجانب والمسافرون. وكان من أهم هذه الخانات خان الإفرنج في صيدا وهو اليوم مقر دار اليتيمات التابعة لراهبات مار يوسف. وكانت
الحمامات العامة ضرورة صحيّة في العصور الماضية. وقد اهتم الأمير فخر الدين بإنشاء عدد منها، وأهمها "الحمام البرّاني" المعروف اليوم "بحمام المير" في صيدا. زيّن فخر الدين مدينة
بيروت وابتنى فيها الأبراج والقصور، وكان قصره فيها درّة هذه المنشآت العمرانية. وقد تولى هندسته وبناءه عدد من المهندسين الطليان على الطراز الإيطالي. ضمّ هذا القصر عددا من الأجنحة منها: جناح للنساء، وآخر للموظفين، وثالث للحرس، وجُرّت إليه المياه، وأنشئت حوله الحدائق الواسعة التي غُرست فيها
أشجار البرتقال وغيره من
الفاكهة. وكانت المياه تجري في أقنية بين مربعات
الزهور المتعددة الألوان، وتتوسط الحدائق بركة ماء جميلة، وحولها عدد من تماثيل الحيوانات المنحوتة من
الرخام أو المصبوبة من
النحاس. وفي جانب من هذه الحدائق، كانت
حديقة الحيوان التي ضمت أصناف الوحوش من
أسود و
نمور و
ذئاب. وقد وصف السيّاح قصر فخر الدين بأنه من عجائب الشرق. وكان يرتفع في إحدى زوايا القصر برج عال يزيد ارتفاعه على عشرين مترا، وكان الأمير يُشرف منه على
ميناء بيروت وضواحيها. وإلى هذا البرج تنسب "ساحة البرج" التي أصبحت اليوم "
ساحة الشهداء" أو "ساحة الحرية". وكان قصر فخر الدين يقوم في الجهة الشمالية الغربية منها.لكن الأثر الأهم للأمير يبقى غابة
الصنوبر التي زرعها لحماية
المزروعات والحدائق من زحف الرمال البحرية عند شواطئ بيروت الجنوبية، حيث كانت الرياح تلفظ سنويّا تلالا رملية من
الصحراء الليبية، وكانت الوسيلة الوحيدة لردعها هي عن طريق زرع الأشجار.

بيوت ذات سطوح قرميدية حمراء في دير القمر، مبنية على الطراز الذي كان مألوفا أيام فخر الدين. انتشرت في عهد فخر الدين البيوت ذات السطوح
القرميدية الحمراء، وواجهات المنازل الزجاجية، المؤلفة من ثلاث قناطر، والمرتكزة على أعمدة رشيقة من
الرخام، والتي تسمح لل
نور و
الشمس بأن يدخلا إلى داخل المسكن. وانتشر هذا الطراز في بناء المنازل واستمر بعد عهد فخر الدين في مدن الساحل وقرى
الجبل. وما زالت المساكن القديمة الموجودة اليوم تُحافظ على هذا الطابع.
[ الحياة الاقتصادية
كانت الحياة الاقتصادية مزدهرة خلال عهد فخر الدين الثاني، وقد ساعده هذا على تحقيق أهدافه السياسية، فقد استطاع أن يستغل ثروة بلاده الزراعية والصناعية لتسديد
الضرائب المفروضة عليه للدولة العثمانية، ولإرضاء رجال الدولة العثمانية وولاتها بالهدايا الثمينة، ولإقناع دولة
توسكانا بمحالفته ومعاونته، ولكي يتمكن أخيرا من الإنفاق على جيشه وموظفيه وتوطيد أركان إمارته.
الزراعة
شجّع فخر الدين
الزراعة ودعا إلى تحسينها، واستقدم الفلاحين من
إيطاليا لتدريب الفلاحين اللبنانيين على أساليب زراعية جديدة من شأنها أن تزيد في الإنتاج وأن تسرع في إنمائه. وكان قوام الزراعة في عهد فخر الدين:
التوت، و
الزيتون، و
القطن، و
الحبوب وأشجار
الفاكهة. عمّت أشجار التوت السهول الساحلية من
صيدا إلى
طرابلس، وسفوح
الشوف و
المتن ومناطق
جبيل و
البترون و
جبة بشري. وعلى أشجار التوت تعتمد صناعة استخراج
الحرير التي كانت قوام
الصناعة. واعتنى فخر الدين بأشجار الزيتون القديمة، وساعد على استنبات أشجار جديدة منه، فأصبح موردا رئيسيّا لخزينة فخر الدين الذي كان يتقاضى حصة وفيرة من الإنتاج الزراعي. ومن مزروعات لبنان الهامة الأخرى آنذاك
قصب السكر، والقطن. وكان إنتاج لبنان من الحبوب يكفي حاجة السكان ويفيض عنهم. وعندما انتشرت
المجاعة في
دمشق، أنقذ الأمير فخر الدين سكانها بكميات
القمح الوافرة التي بعثها إليهم. ولم يُهمل الأمير زراعة الفاكهة، وقد قلّده فيها عدد كبير من الأغنياء، عندما أنشأ حول قصره بستانا حافلا بأنواع الفاكهة. وقد بلغ من اهتمام الأمير بالأشجار المثمرة أن وضع لها سجلات خاصة، تتضمن عدد هذه الأشجار في كل بستان، وفي كل منطقة. وكانت هذه السجلات أساسا لفرض الضرائب. والتفت فخر الدين إلى ضرورة إنماء الثروة الحيوانية، فشجع على تربية
البقر و
الإبل و
الغنم وال
معزى. وجلب من توسكانا أنواعا ممتازة من البقر والثيران وعددا من الفلاحين العارفين