وفي هذا تحميس بالغ لأهل الدنيا ليعملوا، ونساء الدنيا إذا دخلن الجنة خير من الحور العين بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن وحجابهن وصبرهن.
في الدنيا ملك وفي الجنة ملك، فأما ملك الدنيا فإنه يزول ويعتريه النقص وتذهب به الأزمات المالية، وهكذا هو مكّدر بما يحصل فيه من الخسائر، أما ملك الآخرة فقد قال -عليه الصلاة والسلام- : ((اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ)). متفق عليه. ((مَوْضِع سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا)). البخاري (2892).
هذا موضع سوط ! ، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} (20) سورة الإنسان . وهو ملك لا يفنى ولا يزول، لا ينقص لا يذهب إلى ورثة، لا يغتصبه الغاصبون، ولا يعدو عليه العادون، فهو موفر لصاحبه، دائمٌ، ملك الجنة ملك عظيم .
طعام الدنيا وما أدراك ما فيه من التعب في تحصيله، وعند أخذه ومضغه وأكله والآفات التي تعرض بسببه، ثم ماذا يكون بعدما يؤكل لو كان طعاماً ؟ قال -عليه الصلاة والسلام- : ((إِنَّ مَطْعَمَ ابْنِ آدَمَ جُعِلَ مَثَلاً لِلدُّنْيَا, وَإِنْ قَزَّحَهُ وَمَلَّحَهُ -أي: وضع فيه الملح والتوابل-, فَانْظُرُوا إِلَى مَا يَصِيرُ)). أحمد (20733), وصححه في الصحيحة (382).
بعد هضمه وكيف يجتمع فضلات ثم يخرج.
ثم ماذا ينبني على الإسراف فيه وماذا يترتب من الأضرار، ((مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ)). الترمذي (2380).
وهذه الأدواء في الناس من السكرِ وغيره بسبب هذه الأطعمة والأشربة، وأما في الجنة فهو طعام طيب {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} (21) سورة الواقعة، وكذلك الفواكه {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} (20) سورة الواقعة، وكذلك أنواع اللذات وتنوع المطاعم بلا ضرر، والأكل يُعطى فيه شهوة مائة، ويجلس بعض الأغنياء اليوم على سفرةٍ تمد فيها أنواع الأطعمة فلا يمد يده إلا إلى شيء يسير ونظره بحسرة .
طعام الجنة قطوفه دانية، لا يحتاج إلى عناءٍ في تحصيله، {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} (الإنسان:14) .
قال مجاهد: قريبة الأغصان، يتعاطاه فيدنو القطف إليه والعنقود ويتدلى الغصن كأنه سامع مطيع كما قال الله {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} (54) سورة الرحمن ، والثمر هو الجنى، إن قام ارتفعت بقَدْره، وإن قعد تَدَلَّتْ له حتى ينالها، وإن اضطجع تَدَلَّت له حتى ينالها، فذلك قوله: (تَذْلِيلا).
{وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} (15) سورة الإنسان، كما صبرتم على صحاف الدنيا من الذهب والفضة فلم تأكلوا منها فخذوها الآن حلالاً هنيئاً مرئياً يطوف عليهم فيها الخدم، الخدم في الدنيا وما أدراك ما الخدم، فهذه تضع السم وأخرى تؤذي أولاده وتلك تكيد لامرأته وهذه تسرق من أموال أهل البيت وأخرى تهرب بأموال الكفيل وهذه تُدخِل أجنبياً إلى البيت وهذه تأخذ من نجاساتها فتضع في طعام أهل البيت لأن الساحر علمهم في تلك البلد أن وضع ذلك يجلب محبة أهل البيت وتعلقهم بها، وأنواع من الإيذاء، خدم أهل الجنة، {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} (الإنسان:19) . خدم أهل الجنة، يستقبلونهم سلام عليكم، خدم أهل الجنة يطوفون عليهم بهذه الأكواب وهذه الأباريق، يطوفون عليهم بأنواع الأطعمة يخدمونهم بأنواع الألبسة، شراب الدنيا فيه منغصات كثيرة، فمنه ما يسبب المغص في البطن وارتفاع السكري، وأنواع الآفات، لكن أشربة الجنة {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً}(محمد: من الآية15).
{يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}(الإنسان: من الآية5).
آنية الدنيا تنكسر، آنية الدنيا تصدأ، آنية الدنيا تضيع وتسرق وتتلف، آنية الدنيا لها أعمار مثل أعمار العباد تنتهي، وأما آنية الجنة، {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} (الإنسان:15).{قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ} (16) سورة الإنسان ، القوارير: زجاجية شفافة، فكيف الجمع بين الفضة والشفافية، عجب ليس في الدنيا شيء من هذا أبداً،{قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} (16) سورة الإنسان.
خمر الدنيا يذهب العقل، خمر الدنيا الذي يشربه ويمشي يترنح ويتمايل، خمر الدنيا دائماً في الحانات ميزانية للمكسورات، وأما خمر الجنة : {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} (الصافات:47) . ولا يصدعون ولا تذهب عقولهم، وتسقيهم الغلمان {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } (18) سورة الواقعة، لا ينضب لا ينتهي، لا تذهب صلاحيته، لا يسبب زوال العقل ولا وجع البطن، ولا يسبب القيء ولا يسبب الآفات التي يسببها هذا الغول الدنيوي من تلف الكلية والكبد، ولون خمر الجنة بيضاء مشرقة حسنة بهية،{بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } (46) سورة الصافات، بيضاء ليس فيها حمَار ولا سواد ولا كدرة، لذة للشاربين، طيبة الريح ليس فيها غول ولا صداع رأس ولا وجع بطنٍ ولا هم ينزفون، ولا تذهب عقولهم، ولا تحمل على سوء كلام ولا على اعتداءات ولا على مشاحنات ومضاربات السكارى في الحانات والشوارع، خمر الدنيا رجس، خمر الجنة {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (21) سورة الإنسان،{يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ} (45) سورة الصافات، من أنهار جارية، فهي ليست معتقة، خمر الدنيا تقطع عن ذكر الله وأهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس .
نوم في الدنيا لأنه يحتاج بعد التعب إلى راحة، لكن هذا النوم الذي في الدنيا محفوف بالمنغصات، أرق فزع أحلام مزعجة أحياناً، جاء رجل إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- قال : رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ عُنُقِي ضُرِبَتْ, وَسَقَطَ رَأْسِي, فَاتَّبَعْتُهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَعَدْتُهُ؟!
قَالَ: ((إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكُمْ فِي مَنَامِهِ فَلَا يُحَدِّثَنَّ بِهِ النَّاسَ)) مسلم (2268) ابن ماجه (3912) واللفظ له.
((النوم أخو الموت)) الطبراني في الأوسط وشعب الإيمان، وصححه الألباني.
لكن الجنة ليس فيها نوم أبداً مع الصحة التامة والراحة التامة لأن النوم يقطع عن اللذة، ويغيب الإنسان به عن المشهود، فلماذا يغيب أهل الجنة عن النعيم، في هذا نوع خسارة وليس في الجنة خسائر، ولذلك لا يحتاجون إلى النوم أصلاً.
وكما أن طعام الدنيا فيه فضلات بول غائط قيء عرق مخاط أوساخ، ليس في الجنة هذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : ((إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا, وَيَشْرَبُونَ, وَلَا يَتْفُلُونَ, وَلَا يَبُولُونَ, وَلَا يَتَغَوَّطُونَ, وَلَا يَمْتَخِطُونَ!)). قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ ؟- أين يذهب الطعام إذاً ؟ -
قَالَ: ((جُشَاءٌ, وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ, يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ, وَالتَّحْمِيدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ)). مسلم (2835).
فهو يأكل ويشرب بلا ضرر ولا حاجة إلى عمليات في إخراج النجاسات والفضلات، رشح كالمسك، ثم يضمر بطنه ويأكل من جديد، ثم رشح كالمسك .
الدنيا فيها أمراض، فيها أدواء، فيها لأواء، فيها أسواء جمع سيء، يصيب فيها الإنسان بالنصب والوصب والهم والحزن والغم والأذى والتعب والمرض، أما في الجنة فهي سالمة من هذا كله، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد:24) .
مناخ الدنيا منغص ومكدر وفيه شدة حرارة محرقة، وقاتلة أحياناً، وشدة برودة كذلك، أتربة رمال زاحفة زوابع رعدية، وصواعق قاتلة، مرة حر شديد، ومرة برد شديد، تقلبات، أما في الجنة {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} (الإنسان:13) .
فليس عندهم حر مزعج، ولا برد مؤلم، بل هي مزاج واحد دائم سرمدي، {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً}(النساء: من الآية57).
وقد يكون الظل ليس بظليل، قد يكون الظل فيه حر، أما الجنة ظلها ظليل، بارد لا ينحسر، وظل الدنيا ينحسر ولا بد، أهل النار عندهم ظل من يحموم والعياذ بالله، حر سموم، الدليل على أن ظل الجنة قول الله تعالى : {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (الواقعة:30) { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}(الرعد: من الآية35).
يعني دائم أيضاً .
ليس في الجنة ليل، {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً}(الإنسان: من الآية13).
قرّب ابن عباس هذا بالوقت ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ولا يشبه ذلك في الجنة ولكن ليتفكر الإنسان كيف يكون الوقت في الجنة،
وهُم يتلذّذون بكلّ طَيْبٍ
وأبدانٍ لهم كُسيَتْ حَريرَا
فلا يلقَوْنَ في الجنّاتِ شمساً
ولا يَلْقَوْنَ فيها زَمْهريرَا
لقدْ قالَ المهيمنُ إنّ هذا
لِمَن قد كان في الدنيا شَكُورَا
طَهوراً عابداً ثقةً كريمَاً
سليمَ القلب مُتَّقِياً صَبُورَا
تقيّاً مُسلماً سَلْماً سَليما
رضيّاً عالماً عَلمَا خَبيرَا