عن أبي بكرٍالصديق
قال : " الظلمات خمس والسرج لها خمس : حب الدنيا ظلمة والسراج له التقوى , والذنب ظلمة والسراج له التوبة , والقبر ظلمة والسراج له لا إله إلاالله محمدٌ رسول الله , والآخرة ظلمة والسراج لها العمل الصالح , والصراط ظلمة والسراج له اليقين " . صدقت أيها الصديق رضي الله عنك .
إن من أسرار الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة خلق المتضادات وهي من أهم أسباب استمرار الحياة وظهورالكثير من أسمائه الحسنى وعباداته التي يحبها .
فخلق الليل وخلق معه النهار . وخلق اليابسة وخلق معها البحار , وخلق الموت والحياة , وكذلك خلق سبحانه من هذه المتضادات الظلمات والنور .
والظلمات تنقسم إلى قسمين : ظلمة حقيقية وظلمة معنوية , ولكل نوع من هذين النوعين سراج يبدد ظلمته , ويحل النورمكانه .
و الصديق –
– يذكر لنا في قوله ظلمتين معنويتين وهما : ظلمة حب الدنيا , وظلمة الذنب . ويذكر ثلاث ظلمات حقيقية وهي : ظلمة القبر, وظلمةالآخرة , وظلمة الصراط .
إن الظلمة المعنوية تتحول إلى حقيقية بظهور آثارالظلمة والعتمة على وجه مقترفها .
الظلمة الأولى : حب الدنيا
والسراج ... التقوى
يقول الله تعالى واصفاً حقيقة الدنيا : ( اعلموا أنما الحياةالدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم وتكاثرٌ في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذابٌ شديد ومغفرةٌ من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )
في هذه الآية الكريمة يذكرالله سبحانه وتعالى مكونات الحياة الدنيا , وأن كل صادٍ عن الآخرة إنما هو متورط في أحد هذه المكونات التي تعيقه عن الإلتفات للآخرة .
1- اللعب : هو الباطل , واللهو كل شيء يتلهى به ثم يذهب . قال مجاهد : كل لعب لهو , وقيل : اللعب ما رغب في الدنيا , واللهو ما ألهى عن الآخرة وشغل عنها.
2- وزينة : التزين بمتاع الدنيامن دون عمل للآخرة .
3- وتفاخر بينكم : أي يفتخر به بعضكم على بعض . وقيل: يتفاخرون بالخلقة والقوة . وقيل : بالأنساب والأحساب كما كانت عليه العرب .
4- وتكاثر في الأموال والأولاد : أي يتكاثرون بأموالهم وأولادهم ويتطاولون بذلك على الفقراء .
ثم بين سبحانه لهذه الحياة شبهاً وضرب لها مثلاً فقال : " كمثل غيثأعجب الكفار نباته .. " فالحياة بما فيها من نعم خلقها الله للإنسان ليست بمحرمةولا مكروهة , ولكنها إذا تسببت في الصد عن الآخرة فتدخل في باب الكراهة والتحريم , والعاقل من يستخدم هذه النعم الكثيرة ويتمتع بها دون أن تشغله عما خلق من أجله وهو (( العبادة )) بل تكون سبباً في إعانته على عبادة ربه وزيادة درجته في الآخرة .
فالصحابة
بما علمهم الرسول صلى الله عليه وسلم أدركوا معنى الحياة الدنيا , وأنها ما هي إلا معبر للآخرة , فتعاملوامعها وفق هذا الإدراك ولم تكن في يوم من الأيام سبباً في بعدهم عن الآخرة , والدنياعندما تتغلغل في القلب وتسيطر عليه فأنها تعميه ولا شك عن الآخرة , لذلك نبذها رسول الله
وراء ظهره هو وأصحابه وصرفوا عنها قلوبهم وطرحوها ولم يألفوها , وهجروها ولم يميلوا إليها , وعدوها سجناً فزهدوا فيها حقيقة الزهد .
أما من فهمها على أنها دار مقامة ومستقر وأنها دار سرور لا دار عبور وغرق حتى أذنيه من لعبها ولهوها وزينتها وتفاخرها , فأنسته الآخرة والاستعداد لها , فإنها تنقلب إلى ظلمة معتمة . ذلك لأن الظلمة ضد النور , وما كان في الظلام لا يبصر حقائق الأمور فيضل في هذه الحياة كالأعمى لا يبصر السبيل إلى الآخرة , حتى إذا بعثه الله يوم القيامة بعثه أعمى لا يبصر مواضع قدمه فيقول : " ربِ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً " فيرد الله عليه مذكراً له بظلمته الدنيوية التي أعمته عن رؤية الصراط السوي فيقول له : " كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " ويقول تعالى : " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً " .
السراج ... التقوى
هذه الظلمة المعتمة المنبعثة من (( حب الدنيا )) وتفضيلها على الآخرة والتي تتحول فيالآخرة إلى ظلام حقيقي يعيش فيه صاحبه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وهو في أشدالحاجة إلى نور يبصر به الطريق في يوم المحشر حيث يزدحم الناس من الأولين والآخرين . هذه الظلمة إنما يبددها سراج (( التقوى )) .
والتقوى لغة : هي الصيانة والحذر والحماية والحفظ .
وشرعاً : هي كمال توقي الإنسان عما يضره يوم القيامة . أو فعل المأمورات التي تستوجب رضي الله وثوابه , وتجنب المنهيات التي تستتبع غضب الله وعقابه .
ويذكر الإمام علي بن أبي طالب
أركان التقوى الأربعة والتي هي بمثابة الأنوار الكاشفة التي تزيل ظلمة حب الدنيا من القلوب , وغياب أحدهما يجعل في القلب بقية من ظلمة حب الدنيا . يقول : التقوى هي الخوف من الجليل , والعمل بالتنزيل , والقناعة بالقليل , والاستعداد ليوم الرحيل .
وهذه الأركان إنما تنبع من محاسبة الإنسان نفسه , لأن النفس أمارة بالسوء , والمحاسبة بمثابة المراقبة على الأعمال اليومية فيقوم بتنقيتها أولاً بأول , فكلما تسلل الظلام إلى قلبه بددته المحاسبة الدائمة .. فيكون منيراً دائماً بسراج التقوى .
الظلمة الثانية : ظلمة الذنب
والسراج .. التوبة
والذنب قد يبدو في ظاهره الكسب والمتعة واللذة والغلبة , ولكنه فيحقيقة الأمر ظلمة في نفس مقترفه , يشعر به دائماً لأنه يعلم في قرار نفسه أن مايقوم به خطأ مخالف للشرع , كما يشعر بضيق الظلمة بين جنبيه , ويحرم من الشعوربالسعادة الحقة , فأثر الظلمة يحطمه من الداخل حتى تفيض آثار تلك الظلمة على وجهه ليراها أقل الناس فراسة .
وذكر ابن القيم – رحمه الله – في كتابه " الجواب الكافي " آثار المعاصي والذنوب , فيذكر منها : أن منها ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهم , فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره , فإن الطاعة نور , والمعصية ظلمة , وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته , حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر , وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين , ثم تقوى حتى تعلو الوجه , وتصير سواداً فيه يراه كل أحد .
قال ابن عباس " إن للحسنة ضياء في الوجه , ونور في القلب , وسعة في الرزق , وقوة في البدن , ومحبة في قلوب الخلق , وإن للسيئة سواداً في الوجه , وظلمة في القلب , ووهناً في البدن , ونقصاً في الرزق , وبغضة في قلوب الخلق " . وهذه الآثار التي ذكرها ابن عباس
على سبيل المثال وليس الحصر وإلا فإن الصحابي الجليل ابن مسعود يذكر أثراً خطيراً بسبب تلك الظلمة وهو : نسيان العلم . إذ يقول : " إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها " .
ويقول أحد التابعين : " إن الرجل ليذنب الذنب , فيصبح وعليه مذلته " .
هذه المذلة التي تبدو على وجهه إنماهي أثر تلك الظلمة , والتي لا يبددها من صدر صاحبها إلا سراج التوبة .
السراج .. التوبة
: هذا السراج يأمر الله سبحانه الجميع بإسراجه حتى المؤمنين الخلص لما فيه من أسباب الفلاح التي لا يخفى . يقول تعالى : " وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنين لعلكم تفلحون " .
فعلق الفلاح وهو الفوز في الآخرة بالتوبة . وبين تعالى أن التوبة المقبولة هي التوبة التي تتوافر فيها شروط التوبة الصحيحة : التوبة النصوح .. من الندم , والإقلاع عن المعصية , والعزم على عدم العودة إليها , وإرجاع الحقوق إلى أهلها , مع ما يلازمها من العمل الصالح , والخوف الدائم الذي يمنعه من العودة إلى المعاصي . قال عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً " حتى أن الرسول
وهو المعصوم من الذنوب يقول : " والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " . فإذا كان هذا ما يقوم به سيد الناس , وهذا ما يأمر به الله المؤمنين , فيكون أصحاب المعاصي أحق وأحوج إلى هذا السراج من غيرهم . حتى يبددوا هذه الظلمة , ويهيئوا قلوبهم لاستقبال كلمات الوحي , ولتنبعث الحياة في جوارحهم للقيام بالعمل الصالح .
إن هذا السراج يهدد بالانطفاء إذا لم يغذ بسببي الاستمرار بالتوقد ألا وهما : العلم والصبر .
فبالعلم يعلم ما كان يجهله مما هو مطلوب منه , ويصحح ماكان يقترفه من خطايا وجهالات . وبالصبر يستعين على مشقة التكاليف ومقاومة المعاصي .
ولا بد للتائب من التخلص من العوائق المقيدة للنفوس , والتي تحول بينه وبين توبة نصوح تكون سبباً في دخوله الجنة ,
ومن العوائق الرئيسة للتوبة النصوح :
• عدم تغيير أرض وبيئة المعصية , فالذي يريد النجاة لا يسكن في أرض موبوءة , فإن ميكروب المرض لابد أن يصيبه .
• ضعف العزيمة والتفات القلب إلى الذنب من عوائق التوبة , والذي يكون نتيجة ضعف التقرب إلى الله بقراءة القرآن والتزام الأذكار وقيام الليل ونوافل الصوم والصدقات والمحاسبة .. وغيرها من أعمال القرب إلى الله تعالى مما يجعله عرضة للوساوس من الشيطان وجنوده .
• من العوائق أيضاً الغفلة . يقول الرسول
: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن , ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن , ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن , ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع إليه فيها الناس أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن " .
• عدم تغييرالأصحاب . قال
: " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " .
• نسيان الموت والخاتمة من الأمور التي تجعل التائب بمشقة كبيرة عندما يحاول الالتزام بتوبة نصوح , فكلما التزم اشتاق إلى ماضيه وعاد إليه . يغريه طول الأمل . فيعيش في ظلمة الذنب .. ولكن من حذر هذه العوائق أضاء في نفسه سراج التوبة وسار به إلى رضوان الله وجنته .
