الظلمة الثالثة :القبر ظلمة
والسراج .. لا إله إلا الله محمد رسول الله
القبر ظلمة .. في القبر ينفرد الإنسان وحده , دون صاحبة ولاصديق ولا أبناء , حيث فارقهم جميعاً وفارقوه , بكوا عليه يوماً أو يومين ثم طويت صفحته من ذاكرة الأحبة والأقرباء , ولا يذكر إلا من ترك أثر خير وراءه.
يعيش ذلك الإنسان في تلك الحفرة وحده كما جاء إلى هذه الدنيا وحده , يعيش في ظلمتين حقيقتين : ظلمة الحفرة , وظلمة اللحد , وتضاف إليهما ظلمة ثالثة إن كان من أصحاب المعاصي ألا وهي ظلمة الذنب , ويزيد من رعب تلك الظلمة سؤال منكرٍ ونكيرٍ , ونهرهما له , ويزيدهما رعباً ما يراه عندما يعرض عليه منزله من الجنة . ثم يقال له : قد كان هذا منزلك من الجنة فأبدلك الله مكانه منزلاً من النار .. هذه الظلمات وذلك الرعب الذي يزيدها ظلمة لا يبدد إلا بسراج وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله .
السراج .. لا إله إلا الله محمد رسول الله
. الفائز هو الذي يدخل بها إلى الإسلام , ويختم له فيها عند خروجه من هذه الدنيا , أما من ختم له بغير هذه الكلمة وختم له بضدها من الكلمات فهوعلى خطر عظيم ويفقد النور الذي يبدد ظلمات القبر المتراكمة , فعندما يأتي منكرونكير يسألانه : من ربك ؟يتلكأ ويضطرب ويقول : هاه هاه لا أدري . فيقولان :مادينك ؟فيقول : هاه هاه لا أدري . فيقولان :فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟فلا يهتدي إلى أسمه . فيقال : محمد . فيقول : هاه هاه لا أدري . سمعت الناس يقولون ذاك . فيقال : لا دريت ولا تلوت . فينادي منادٍ من السماء : أن كذب فافرشوا له من النار , وافتحوا له باباً إلى النار , فيأتيه من حرها وسمومها , ويضيق عليه في قبرهحتى تختلف فيه أضلاعه .
بهذه الإجابة المرتجفة المضطربة يطبق عليه الظلام , فلايعود يرى سواه . من عذاب منكر ونكير , ومن رؤية مكانه في النار , ومن حسرات وصرخات يسمعها كل كائن حي إلا الثقلين كما ورد في الحديث . وإنما ينير تلك الظلمات ذلك الذي دخل في الإسلام ( بلا إله إلا الله محمد رسول الله ) وعاش حياته مطبقاً لها ولمقتضياتها , وختم له بها فحسنت بذلك خاتمته . يقول
: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " ولا يوفق للنطق بها في آخر اللحظات إلا من عاش بها حياته . عاملاً من أجلها , موالٍ أو معادٍ , ومحب ومبغض , ومعطٍ وممسك من أجلها . أما من أعرض عنها وأنشغل بزينة الدنيا وزخارفها وكانت الدنيا هي الأساس في علاقاته مع الناس .. فأنى له أن يتذكرها في اللحظات الأخيرة من عمره ؟
بل إنه يتذكر ما كان منشغلاً به في حياته من زينة الدنيا ولهوها .
يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله - : " فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه وتعالى قلبه عن ذكره , واتبع هواه وكان أمره فرطاً . فبعيد من الله تعالى من قلبه غافل عنه , متعبد لهواه , أسير لشهواته , ولسانه يابس عن ذكره , وجوارحه معطلة مشتغلة بمعصيته . فكيف يوفق للخاتمة الحسنى . "
إن هذا النور الذي يبدد ظلمة القبر كان هوالشغل الشاغل لطالبي الآخرة وعل رأسهم سيد الخلق وإمام المتقين رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حتى أنه كان يكثر من دعائه " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " .
فما كان أحد من الرعيل الأول يضمن ما تكون عليه خاتمته وما سيؤول إليه مصيره في الآخرة , ولهذا غلب عليه الخوف حتى تمنى الكثير منهم أنهم ما خلقوا .
اللهم نسألك حسن الخاتمة واجعل آخر كلامنا (( لا إله إلا الله محمدرسول الله )) .
الظلمة الرابعة ..الآخرة ظلمة ..
والسراج لها العمل الصالح
وفي الآخرة ظلمات كثيرة , حيث تبدأ في ظلمة المحشر , وظلمة الصراط , وانتهاءً بظلمة النار وقد ذكر القرآن الكريم إشارات في بعض السور تبين هذه الظلمات .
منها قوله تعالى في سورة الحديد : " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم ,قيل ارجعواوراءكم فالتمسوا نوراً , فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " .
جاء في تفسير القرطبي قول ابن عباس : يغشى الناس يوم القيامة ظلمة .
وقال المفسرون : يعطي الله المؤمنين نوراً يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط . أما المنافقين فإنهم لا يعطون نوراً وإنما يستضيئون بنور المؤمنين . فبينما هم يمشون إذ بعث الله فيهم ريحاً وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين . فذلك قوله تعالى : " ربنا أتمم لنا نورنا " وهذا قول المؤمنين خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون .
السراج .. العمل الصالح

في سورةالتحريم يقول تعالى عن المؤمنين : " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيءقدير " .
دليل على أن العمل الصالح يبدد تلك الظلمة يوم القيامة .
يقول الشيخ السعدي : (حين يسعى المؤمنون يوم القيامة بنور إيمانهم , ويمشون بضيائه , ويتمتعون بروحه وراحته , ويشفقون إذا طفئت الأنوار , التي تعطى المنافقين , ويسألون الله أن يتمم لهم نورهم , فيستجيب الله دعوتهم ويوصلهم بما معهم من النور واليقين إلى جنات النعيم , وجوار الرب الكريم , وكل هذا من آثار التوبة النصوح ) .
والمؤمنون يعطون النور بمقدار ما قدموا من أعمال صالحة .
الظلمة الخامسة :ظلمة الصراط ..والسراج له اليقين
الصراط هو الجسر الممدود على ظهرجهنم , ليعبر الناس عليه إلى الجنة . قال تعالى : " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً " .
ولقد فسر الورود هنا عبد الله بن مسعود وقتادة وزيد بن أسلم بالمرور على الصراط، والصراط مضروب على جهنم , وهو أحد من السيف , وأدق من الشعرة , وترسل الأمانة والرحمة فتقومان جنبي الصراط , وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به , وقد أحاط بالصراط سماطان من الملائكة دعاؤهم : (( يا الله سلم سلم )) , و الكلاليب التي تخطف الناس مثل شوك السعدان ( وهو نبت له حسكة يعم الشوك محيطها ) . فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي
سئل عن الصراط فقال : " مدْحَضَةٌ مزِلَّةٌ عليها خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عُقيفاء , تكون بنجدٍ يقال لها : السعدان " .
ولا يعبر الصراط إلا المؤمنون , وذلك على قدر أعمالهم فلن يستطيع اجتياز هذاالصراط إلا الصفوة الذين طالما استقاموا على صراط الله المستقيم , الذين سلكوا طريق الله , واهتدوا بنور النبوة , واقتفوا أثر أنبيائهم , فكما ثبتهم الله على صراطه المستقيم في الحياة الدنيا فسوف ينجيهم من على هذا الصراط في الآخرة , وعبورالمؤمنين يكون على حسب إيمانهم , فمنهم من يمر كطرف العين , ومنهم من يمر كالبرق , وكالريح , وكالطير , وكأجاويد الخيل , ومنهم من يسحب سحباً .
من حديث حذيفة وأبي هريرة
ا : " تجري بهم أعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول : يارب , سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد , حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً " .
ويقول الرسول
: " فيعطون نورهم على قدر أعمالهم , وقال : فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه , ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك , ومنهم من يعطى دون ذلك , حتى يكون آخرهم من يعطى نوره على إبهام قدمه , يضيء مرة ويطفأ مرة , إذا أضاء قدم قدمه , وإذا طفئ قام .. "
السراج .. اليقين

اليقين ضد الشك , وهو أعلى درجات التصديق , وأعلى درجات التصديق أن يرى الإنسان بعينيه ويسمع بأذنيه فلا يخالجه بعد ذلك أدنى شك بما يصدق , فإذا كان التصديق بأمر الغيب الذي أخبر عنه الله في كتابه الكريم وأخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته بدرجة اليقين فإن صاحب هذا اليقين يعمل عمل المشاهد بعينيه والسامع بأذنيه , فهو يرى مناظر الآخرة تتماثل أمام عينيه مما يجعله يزيد من العمل لما هو موقن به , وهذا الذي يسبب له النور عند مجاوزة الصراط .
هذا النور يحرق السيئات ويزيلها عن طريق الصراط , فينير لصاحبه مواضع قدميه حتى يمر كلمح البصر .
وكان الرسول
قل ما يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات :
(اللهم أقسم لنا من خشيتك ما تحول بيننا وبين معصيتك , ومن طاعتك ماتبلغنا به جنتك , ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا , ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا , واجعله الوارث منا , واجعل ثأرنا على من ظلمنا , وانصرنا على من عادانا , ولا تجعل مصيبتنا في ديننا , ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا , ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)
