حكايات صار لها معنى
نقولا زيادة الحياة 2005/04/27
أحفظ بعض قصص من كتب القراءة العربية التي أعطيتها في المدارس الابتدائية التي تعلمت فيها بين 1917 و1921، في الناصرة وطولكرم وجنين، كنا نقرأ هذه القصص فنضحك. بعد سنوات كنت أتذكر هذه الحكايات فأجد فيها عِبراً جديرة بالاهتمام.
لما تقدمت بي السن، وأصبحت أشاهد وأعيش في أجواء العالم العربي خلال عقود سبعة أو ثمانية. (أنا مولود سنة 1907) صرت أرى فيها، أحياناً كثيرة، انعكاساً للحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في بلادي – بلادي الواسعة التي يختلف الباحثون في تسميتها – الوطن العربي أو ديار العرب أو بلاد العرب. فالأسماء تختلف باختلاف الأحزاب تضيق حلقاتها وتتسع بحسب النزعة أو التبعية أو المصلحة. وكل يغني على ليلاه: حزباً عقائدياً كان أو تكتلاً عقائدياً سياسياً، أو تكتلاً دينياً.
خطر لي أخيراً أن أروي لقراء «الحياة» هذه الحكايات وأجرب أن أطبّق بعض أحداث العالم العربي عليها أو أن أطبقها على أحداث العالم العربي. وهل من فارق بين التعبيرين؟
الحكاية الأولى: عثر أحدهم على طفل دب ملقى وحيداً على قارعة الطريق طري العود يبدو انه يشكو من جوع ومرض. أطبقت الشفقة على قلبه، فحمله الى بيته وأطعمه وعني به، فحسبه أصبح واحداً من أفراد عائلته، يلعب مع الصغار بخاصة. في أحد الأيام رأى الدب، وكان قد اشتد ساعده، ذبابة تقف قرب عين أحد الأطفال وهو مستغرق في نومه. أراد أن يبعد الخطر، فحمل حجراً كبيراً وضرب به الذبابة ضربة قوية قتلت الطفل مع ان الذبابة طارت.
هذا عمل معروف جاء في غير محله. وما أكثر ما يحدث في عالمنا أن يغتر البسيط أو يدعي الذكي، أنه وصل الى موقع يصبح بإمكانه أن يكون سياسياً واقتصادياً وخبيراً في شؤون المجتمع، فيتقدم للخدمة.
وتكون النتيجة، عمداً أو خطأ، فشل المشروع أو تفشيله لتنال جيوبه الحصة الأكبر!
حكاية أخرى. كان رجل يتنقل بين الأماكن يحمل سلعاً ثمينة ليبيعها ويجني منها فوائد كبرى. كان يتنقل على فرس قوي. اختلت واحدة من حدوات الحصان الأربع فتهاون في اصلاحها. في ليلة طلع عليه اللصوص، لكن الفرس لم تتمكن من السير بسرعة، قبض عليه اللصوص وانتزعوا منه مالاً كثيراً.
كم من حصان وفرس وحمار سقطت في الطريق وعجزت حتى عن الهرب، في ديار العرب؟
برامج الاصلاح عندنا تشبه حذوة الحصان المهملة. تدرس القضايا تعد التقارير، تعقد الاجتماعات الفنية والسياسية، وتتخذ قرارات، تجد طريقها الى الأدراج الرسمية، وليس من رأى أو من سمع!
ما أكثر ما كان الرجال يلقون حيوانات صغيرة في حالة البؤس. يشفقون عليها، يحملونها الى بيوتهم، يربونها ويطلقون سراحها مع ما عندهم من مواشٍ. حدث هذا مع رجل ربّى الذئب الصغير الضعيف مع شياه كانت له. لما كبر الذئب اعتدى على شاة فقتلها وأكل بعض لحمها. قال الرجل:
بقرت شاتَنا وجرحت قلبي/ وأنت لشاتنا ولد ربيب
غذيت بدرّها وربيت فينا/ فمن أنباك أن أباك ذيب؟
قلّب النظر في صحف أي يوم من أيام الأسبوع، وسيطالعك خبر عن سياسي أؤتمن على القيام بإصلاح ورصد له المبلغ اللازم، ثم تمر الأيام والمشروع يستنزف مبالغ كبيرة اضافية وهو لا يزال يعدد اقداماً، في سبيل الاتمام. وقد يتم العمل، لكن كثيراً ما يتركه المتعهد الأول لأنه سبب له خسارة مادية!
أراد رجل تاجر غني أن يدرب ابنه على العمل التجاري. فزوده ببعض المال وأرسله في عالم التجارة وزوده بالمعلومات اللازمة والرسائل النافعة الى أصدقائه. كان المفروض أن يعود الابن بعد شهر. لكنه عاد في الليلة الثالثة. فلما سأله أبوه عن سبب عودته. قال: كنت ليل أمس الأول أسير في طريقي والقمر يرشدني. فإذا بي أرى الى جانب الطريق ذئباً مريضاً ضعيفاً يئنّ ويتوجع. لم أدر كيف يمكنني أن أخفف عنه. لكنني لم يطل بي الانتظار حتى رأيت أسداً بجبروته وعظمته يأتي الى الذئب حاملاً له ما يأكله. أطعمه وعني به وأنا أراقب.
لما انتهى الأسد من عمله ترك الذئب.
عندها قلت ولماذا أتعب وأشقى؟ اذا كان الله يسخّر أسداًَ ليطعم ذئباً مريضاً فلا شك انه يمكن أن يوجد لي من يعنى بي. عندها عدت أدراجي، وتركت هذا العمل المضني – التجارة.
نظر الرجل الى ابنه الشاب وقال له: «خير لك أن تكون أسداً يُطعم الذئاب، من أن تكون ذئباً تطعمه الأسود».
أدرك الشاب المعنى وانطلق من توه مسيرته التي رسمت له أولاً.
بلاد العرب تجلس على مناجم للثروة من النفط الى المعادن الى الكبريت الخ. لكن العمل فيها يحتاج الى علم حقيقي ومعرفة دقيقة وعمل دؤوب. فما دامت الشركات الأجنبية تستغل وتعطينا حصتنا، فلماذا نجهد النفس بدل أن نروّح عن النفس، وليعمل سوانا ويتعب ويعطينا حصتنا!
تحدّت سلحفاة ضفدعاً ان يسبقها في الوصول الى مكان معين. ضحك الضفدع واستهان بها وبشرطها وقبل. قال في نفسه ان هذه السلحفاة بطيئة وأنا أستطيع ببضع قفزات أن أتجاوزها، قبل الشرط وهو يسخر منها.
وبدأ السباق. سارت السلحفاة قدماً تزحف ولا تلوي على شيء. أما الضفدع فأغرته بركة ماء في الطريق ونزل فيها يتبرد، وبعد وقت وقع على عشب أخضر طري فشغل نفسه بالأكل شبعه. ثم قفز بضع قفزات فسبقها وقهقه ساخراً. شعر بالتعب فقال أنام لأستريح، وعندها أقفز بضع قفزات وأسبقها. لكن قيلولته طالت، فلما أفاق وأخذ يقفز، وجد ان السلحفاة الدؤوب كانت قد وصلت المكان قبله. أخذ يلوم نفسه ويندم، ولكن كان السيف قد سبق العذل!
التفت اليّ صديقي وقال فسّر. قلت: ثمة مناسبات كثيرة يمكن أن ينطبق عليها هذا المثل. لكن سأتوقف عند واحد كبير، كبير جداً. قال هات. قلت: في الفترة الممتدة نحو قرنين والتي تشمل القرنين السابع والثامن هـ/ الثالث عشر والرابع عشر ميلادي، كان الغرب يعني أوروبا، ونحن أي العرب في وضع حضاري ثقافي متشابه: نحن تأخرنا وهو بدأ المسير. نحن كنا قد خلقنا حضارة فيها من العلم والفكر والابداع واكتشاف القدرات البشرية وتنظيمها ما لم يعرف العالم مثله من قبل. لكن خلال الفترة التي أشير اليها، كانت ثمة أمور عملية كنا لا نزال ننعم بها، لكن قضايا العلم والفلسفة وما اليهما ومنهما وعنهما، كانت قد تركت جانباً.
أما الغرب الجاهل أصلاً لا نسيباً، والذي اعتمد يومها على ما وصله من ترجمة واقتباساً في الأندلس وصقلية والمشرق، هذا الغرب بدأ يزحف زحف السلحفاة الجادة المثابرة.
حوالى سنة 1800 على وجه التقريب، أي في الوقت الذي كان نابليون، ينسحب بقضه وقضيضه من مصر، كان الغرب قد قطع نحو خمسمئة سنة من الزحف الدؤوب بما نقل وتعلم، وكان يضيف الكثير بين الفينة والفينة، اذ كان متفتح الذهن، وظللنا نحن في مكاننا نعد «مكانك سر». يومها أصبح الفارق بين الفريقين نحو ألف عام.
واذ عجزنا عن انجاز علم وفكر يليق بمطلع القرن العشرين أخذنا نتغنّى بالأمجاد السالفة، ونُمنّن الغرب بأننا نحن أصل تقدمه.
هذا في رأيي ما لقيته في قصة السلحفاة والضفدع مما يتعلق بحياتنا العامة. وما زلنا نتغنى بالماضي الممتاز. لكنه كان ماضياً ممتازاً لأيامه. أما نحن اليوم قد بدأنا القرن الحادي والعشرين!
هل لنا أن نقف وقفة جد صريحة، فندل أنفسنا على موقعنا الصحيح، ونتخذ بعض الخطوات الى الأمام!
أنا رجل مؤمن بالقدرة البشرية اذا قيض لها من يرتب شؤونها، وأنا نظرتي الى المستقبل تفاؤلية. لكن يَداً وحدها لا تصفق!
تحياتي الجحفانية