إضـــافـة
عندما انتهى الفنان مايكل أنجلو من نحت تمثال نصفي جاء في غاية الروعة والإتقان وقف أمامه متأملا لحظات , وقذفه بالأزميل بعد أن صرخ " أنطق " " تكلم" " تحدث !! فكسر أنفه . فقد كانت المنحوتات والرسومات تكاد تنطق لقوة التعبير المتمثل فيها .
ظلت منحوتات أنجلو تمثل إحدى القمم الرائعة في عالم الفن التي أبدعتها الحياة على مدى القرون .. وكان ما يعانيه من أحزان باعثاً على الإبداع والتفوق وهو يفصح عن هذا بقوله " أن راحتي في الأحزان .. وآلاف المسرات لاتساوي عندي عاصفة من عواصف الروح " .. أنه عبقرية لم تكتف بحوارها العاتي مع الصخر وإنما مضى إلى أساليب عدة من التعبير الأنساني .. وترك هذا الحوار فناً ذاتياً ويُعد فيضاً لحياته وعبقريته الخلاقة .. فكانت كلماته الأخيرة "أنني أستشعر الأسى لأنني أموت قبل أن أقدم كل شيء من أجل سلام نفسي .. ولأنني أموت عندما بدأت اتهجى فني" ..
التحق مايكل أنجلو في صباه بمرسم " دومينيكو جيرالد نراجوا " أكبر أساتذة فن الرسم في فلورنسا , ولكنه كان يتطلع إلى النحت أكثر من الرسم "فالتصور عنده يرتفع حين يقترب من النحت والنحت يهبط حين يقترب من التصوير " ولذلك انتقل إلى مدرسة " لوران دي مديتشي" وتتلمذ على يد " برانولدو" الذي تلقى عنه تعاليم دونا تلك في فن النحت عاش أنجلو فترة شبابه في فلورنسا التي كانت تلتهب بصراع ديني واجتماعي.. فبعد حرق جثمان " سافونا دولا " الذي تأثر بأفكاره فوضع أحزانه في تمثاله الشهير " الرحمة " حتى جاء تمثاله العملاق " داوود " فأثار انتباه الناس فيه .. وعندما التقت عبقرية " أنجلو " مع عبقرية " ليوناردو دافينشي " حين عهد إليهما بتزيين إحدى قاعات فلورنسا .. فانقسم أهل المدينة إلى معسكرين متحمسين لأكبر عبقريتين عرفهما عصر النهضة , فخرجت رسومات " أنجلو " مفعمة بعمله المعبر الذي شاغل نفسه وبتجريد معنى الأحداث والمعارك وتحويلها إلى رموز ..بينما جاءت رسومات " دافينشي " تحليلية مسجلة لدقائق الأحداث . ويغادر مايكل أنجلو فلورنسا إلى روما ليبدأ هناك تحقيق أحلامه ويصب تأملاته في صرح كبير يحيطه أربعون تمثالاً بدعوة من البابا " يوليوس الثاني" لكنه يتوقف عن العمل بأمر منه أن كلفه بتزيين سقف كنيسة " سكستين " فأبدع في رسومه ليصور بأسلوب قريب من النحت نشأة الدنيا وخلق الإنسان والخطيئة والطوفان فجاءت رموزاً عملاقة تحكي قصة الكون .. وقد أتم أنجلو سقف الكنيسة عام (1513) وهو في عامه الثامن والثلاثين .. لكن لوحته " يوم القيامة " التي رسمها على جدران الكنيسة أثارت موجة من الاستنكار في أوساط " الفاتيكان " لأنه جعل كل أشخاص لوحته عراة فما كان من الفنان " الجريكو " بعد ذلك أن يتقدم باقتراح لهدم اللوحة زاعماً أن بوسعه أن يرسم لوحة أخرى لا تخدش الحياء ولاتقل عنها روعة .
بدأ أنجلو في نحت تمثاله العظيم " موسى " وتماثيل " العبيد " لكنه انقطع مرة أخرى عن النحت , فكما دفعه البابا يوليويس الثاني إلى الرسم يدفعه آل مديتشي إلى فن العمارةفيكلفه البابا " ليو العاشر " بتصميم واجهة كنيسة " سان لورنزو " ويؤدي أنجلو عمله بحماسة فهو يرى أن العمارة قريبة من النحت الذي هو هبة حياته .
بعد ثورة فلورنسا عام (1527) وانغماسه فيها يعاود أنجلو العمل في مشروع صرح " يوليوس الثاني " ويدعى مرة أخرى لرسم مجموعة " يوم القيامة " يكمل فيها بداياته بعد أن جاوز الخمسين وفرغ من عمل صرح يوليوس الثاني بعد خمسة وثلاثين عاماً من البدء به .
وفي عام (1547) ينهمك أنجلو في عمله بكنيسة القديس بطرس التي عين عليها مهندساً ومشرفاً .. ثم يفقد حبيبته " فيثوريا " التي كتب لها الغنائيات الكثيرة ونحت لحبها التماثيل الرائعة ليموت بعدها صديقه الحميم ومساعده " أوربيتو " فيصوغ أحزانه ومراثيه في تمثاله الأخير " الرحمة " الشهير باسم " ببيتار روندا نبتي " فكان له خلاصة حياة الفنان وخلاصة حياة الأنسان .
انتقى مايكل أنجلو مواضيع رسومة من قصص العهد القديم فدمج لأول مرة الثقافة اليونانية والرومانية مع عالم الكتاب المقدس وكان الشيء الواضح والجلي في زخرفة سقف الكنيسة هو الخليقة والفناء للجنس البشري والحاجة الماسة لظهور الرجل الجديد .. تلك المشاهد للعالم القديم قبل الحقبة الفسيفسائية وجدت معطياتها قبل ظهور الأثنى عشر حوارياً للشعب المقدس قبل عيد الفصح والذي بدأ بالفصل الأول للخليقة وحتى الطوفان ... ولذلك فأن التطور الظاهر في الطراز والأسلوب تجعلنا نتخيل بوضوح مدى التغيير الذي طرأ على المعنى والشكل حتى أن نهاية سقف المذبح والتي رسمت في النهاية جاءت أقوى وأفضل من مشاهد المدخل من حيث قوة التعبير .. ومنها يمكن أن تعتبر هذه الزخرفة والتقنية من أعظم الأعمال الفنية في غرب أوروبا .
وعندما بدأ مايكل أنجلو رسومه في شتاء (1508-1509) بدأ بقصة نوح واستمد بعض تقنيته من (جير لانديو) وهي مزج الألوان المائية مع الطينة الطرية بعد أن واجه عقبات كثيرة بتشكيل القالب والرسم فوقه .. ففي المشاهد الأولى التي رسمها أنجلو من طوفان نوح أظهرت معرفته الرائعة ومهارته من خلال الوضوح والسهولة اللازمة للمشاهد من أرضية الكنيسة .. ولكن التطور الذي حدث في أعماله يمكن ملاحظته في الأنبياء والكهنة.. من خلال صورة الخليقة إذ أن عملية الفصل بين النور والظل واضحة بشكل جلي وقد رصد مساحة كبرى لصورة الله تقديراً للشعور الديني العامر تجاه خالق الكون .
أن صورة الإله بشكل نهر سائر , خطوطه العريضة تحمل عكس اتجاه المألوف رمزت لعملية خلق آدم وبدء الخليفة والحياة .. كما أن مشهد خلق الشمس والقمر يظهرهما في حركته قدوم نحو المشاهد وبهذا يكون مسرح الخلق غير واضح وشيء بعيد عن مستوى الفرد العادي خصوصاً فصل النور عن الظلام الذي أعطى كل الطبيعة المبدعة والخلاقة للأشخاص .. فيما جاءت قصة نوح مشابهة لما ورد في التوراة والإنجيل بما تحوي من مشاهد الغضب على الكافرين والآثمين .
وفي عام (1534) دعا البابا بول الثالث مايكل أنجلو إلى روما ليرسم " يوم القيامة " ضمن ما صور لكنيسة السكستين , أما اللوحة الأخرى فكانت " الأسرة " وهذه الرسوم مع منحوتات لأطفال عراة في أوضاع مختلفة يحيط بهم أفريز ساعدته على إحداث تغييرات في الفن المعماري والأشكال المنحوتة التي تكاد تنطق لقوة التعبير المتمثل فيها .
أن مايكل أنجلو اخترع الهندسة المعمارية التخيلية تظهر الرسوم واضحة ومعبرة من مختلف الجوانب خصوصاَ في تكوينات الأنبياء والحواريين وأسلاف المسيح وهؤلاء هم صلة الوصل مابين المسيح والعناصر الأخرى من قبيلة داوود إي القديسين والأنبياء ففي الزوايا المزدوجة يشاهد المرء وصية الخلاص القديمة (داوود يقتل جوليات) وموت (هامان على يد موسى) .. لقد صور " أنجلو " مجموعة من الحقائق في تلك المساحة .. الأنبياء بشكل الإنسان الطبيعي والكاهن جالس على حجر ملون مزخرف .. مع كل صورة نبي مرفقة بحجمين صغيرين مع رسوم الأطفال ولذلك فأنه استطاع أن يفصل السطوح التخيلية ومعانيها عن الأوضاع المختلفة للرسوم وخصوصاً ذلك الترتيب المدهش يجعل الزائر مبهوراً من لحظة الوقوف أمام مدخل الكنيسة وحتى المذبح من غير أن يجد أية صعوبة في الرؤية والفهم والاستغراق الكامل ..
في رسالة في ايار (1506) ظهرت رغبة البابا يوليوس الثاني كامتداد لرغبة قديمة في زخرفة الكنيسة بدأت منذ عهد سكستوس الرابع ففي العام (1473) بدأ ببناء الكنيسة نفسها بالقرب من الفاتيكان لتصبح مكان إقامة البابا فيما بعد .. وكانت المهمة الأولى لمايكل أنجلو في وضع الدراسات للأثنى عشر قديساً ثم استقر رأيه على دراستين الأولى تركزت على الرسم التوضيحي للقديسين بأشكال هندسية مزخرفة .. فيما ركزت الثانية على التصميم الهندسي الذي تحول إلى أشكال شبه متحركة عبر الزوايا .. وهي عبارة عن تقنية مستمدة تقريباً من نوع الفريسك والتي هي أساس البيت الذهبي ل(نيرو) . وهذا من فن الزخارف أخذ تسمية (الفروتسكو) وهي النسخة الجديدة لرسوم قديمة ل(برنارد بينتورتشيو) لأشخاص يمكن مقارنتهم بالمشروع الأول ل(مايكل أنجلو) مع رسوم سقف " ستانزا ديلا سنغناتورا " حيث وضع " رافائيل " كل شهرته فيها عام (1509-1511) لكن مايكل أنجلو قرر بعد الدراسة العميقة بأن التصوير على هذا النمط سيكون فقيراً جداً من الناحية الفنية فطلب السماح له بتطوير مخطط رسوماته فأعطاه البابا تلك الصلاحية في تنفيذ مبتغاه ...
* * * * * * * * * * *