بسم الله الرحمن الرحيم ..
صفي "2ب " ثٌكنة عسكرية دِكتاتورها الأستاذ ( غيث ) مربي الصف صاحب بنية ضخمة وكرش يتدلى أمامه يبدو أنه يجد الصعوبة في حمله معه في كل مكان , لا يعرف الابتسام , دائم العبوس لدرجة أننا لا نعرف شكل أسنانه أو لونها الحقيقي ..
قبل أن يعلن الجرس موعد بدأ حصة الأستاذ غيث لا يمكن أن يكون أحد تلاميذ الفصل خارجه لأي سببٍ كان منذ أن طلب أحمد الدخول بعد دخول الأستاذ غيث مباشرةً ..
سأله الأستاذ غيث : كنت فين يا جحش ؟
: في الحمام يا أستاذ , أعاني من الإسهال طوال ليلة البارحة .
: هو أنته ما تعرفش إن إلي يتأخر عندي يبأ أمه داعيه عليه !
: كنت وراءك مباشرة يا أستاذ لكنني لم أستطع تجاوزك للدخول .
تمعّر وجه الأستاذ غيث وبدت عليه علامات الغيظ والحنق وأحس أن في هذه العبارة تعريضاً بسمنته المفرطة ورفع يده مباشرة على وجه أحمد ودوّى صوت ارتطام يده الضخمة بوجه أحمد الصغير وساد صمتٌ مرعبٌ في أركان الفصل ..
دار أحمد بجسمه الصغير النحيل دورتين نتيجة ما حصل وضرب جسده النحيل في جدار الفصل وبدأ نوبة بكاءٍ محزنةٍ رأيت أثرها في كل تلاميذ الفصل : خالد وحسين وسليمان شاركت عيونهم أحمد في الهطول , أما أنا فقد أحسست بغرق سروالي ولم أستطع حبسه أو قطعه .
لم يكتف الأستاذ غيث بما فعل بل أمر طالبين أن يرفعا قدمي أحمد للأعلى وأنزل عقابه بالفَلَكة وسط نحيب أحمد وجوّ الرعب الذي عاشه الجميع داخل جدران الفصل الأربعة .
كان هذا الحدث في الحصة الثانية من يوم الثلاثاء من الأسبوع الأول من بداية السنة الدراسية بدايةً لمشروع العقاب اليومي للكل تقريبا بالضرب بسبب وبدون سبب بعد هُدنةٍ لم تستمر إلا ثلاثة أيام .
غاب أحمد عن المدرسة اليوم التالي ( الأربعاء ) ولم يعد يخرج من الفصل أي طالب طوال اليوم الدراسي سوى في الفسحة الرسمية بعد الحصة الثالثة واستمر سياط الترهيب النفسي والحسي الذي يمارسه الأستاذ غيث طوال الفصل الدراسي الأول .
كان يدرسنا في السنة الماضية الأستاذ (عقاب ) من دولة عربية أخرى , وهو نسخة مرعبة من الأستاذ غيث حيث نالنا طوال سنة كاملة أصناف " الترهيب " وأشكاله لكنه ربما كان رغم كل ذلك أرحم وألطف من الأستاذ غيث التي تبدوا بوادر طغيانه وجبروته أعلى وأكبر ..
وعلى العموم كل مدرسي المدرسة من خارج البلد من ثلاث دول عربية ومن كبار السن وعلى نفس الشاكلة !
الأستاذ غيث يتفوق على مدرس الصف الأول الابتدائي بسلوكياته الشاذة فهو قدم قام تقريبا بتلميس مؤخرات الجميع في فترات متباعدة قاصدا الضرب مرات ولمآرب أخرى في مرات , ولسانه قذر جدا حتى أنه صار لكل تلميذ صفةٌ أو كنيةٌ خاصة يلمزه ويناديه بها ولا يمكن أن نخبر أهالينا بمثل ذلك خشية عقابه .
مع بداية أول يوم في الفصل الدراسي الثاني ـ وكان الاثنين ـ شاركنا الفصل طالب جديد يدعى ( ياسر ) .. ثيابه نظيفة جداً ويحمل ساعة أنيقة في ذراعه الأيمن وتبدو بشرته صافية من أي شوائب وتصدر من جهته روائح زكية لم تمرّ علينا في تاريخ الفصل وتاريخ مشواري الدراسي الممتد لعام ونصف بل وحتى قبل ذلك .
دخل الأستاذ غيث بثقله المعتاد وبدون تحية كالمعتاد ورائحة البصل والفجل هذه المرة ـ تتطور الرائحة بعد الحصة الثالثة لتصبح رائحة إبطه المقززة والمؤذية في نفس الوقت ـ واختلطت الرائحتان للأسف وتفاجأ بالوجه الجديد داخل الفصل :
ـ أنت مين يله ؟ وبتعمل إيه عندك ؟
ـ أنا ياسر يا أستاذ , ساكن جديد في الحي وطالب جديد كذلك في المدرسة .
اكتفى الأستاذ غيث بسؤاله اليتيم على غير العادة فهو محقق من الدرجة الأولى حيث اعتدنا على أسئلته المتتالية والمتتابعة في أي شيء وعن كل شيء معنا حتى عن أمهاتنا وأخواتنا وهي المرة الأولى التي يغيّر فيها منهجيته المعتادة !
في الحصة الثانية والرابعة والسادسة لم يضرب أو يهين الأستاذ غيث أي طالب وهذه سابقة تاريخية لم تحدث من قبل كانت مثار استغراب وتعجب الجميع .
في صباح اليوم التالي ـ الثلاثاء ـ وعند دخولي الفصل قبل بداية الطابور لحظت تجمعا لكل التلاميذ في إحدى الزوايا حول أمر ما كان ذاك ( ياسر ) .. الرائحة الزكية والبشرة النقية والثياب النظيفة والشنطة المدرسية ومحتوياتها الغريبة واللكنة المميزة بالنسبة لنا عوامل جذب لهذا الكائن الغريب ..
عرفت بعد أن شاركت اللمة أن ياسر ولد في أمريكا وعاش سنواته السابقة هناك حيث كان والده مبتعثاً للدراسة وحين انتهى منها عاد للوطن .
دخل الأستاذ غيث وحل الوجوم وتبدلت الابتسامات على وجوه الجميع عدا ياسر !
ـ بتضحك على إيه يا حيوان ؟
ـ ما يجوز تسبني يا أستاذ .
ـ هو أنت بترد عليه ؟ افتح يدك .
ـ الضرب ممنوع يا أستاذ .
تراجيديا جديدة تسمعها آذاننا لأول مرة وتشاهدها عيوننا داخل الفصل , وترقب لختام مؤلم لياسر " المتهور "
كيف تجرّأَ وقال ما قال . لم يحدث هذا من قبل ..
كما توقعنا .. الأستاذ غيث يرفع يده ويضرب ياسر على وجه لكنها ليست كما هو معتاد منه / خفيفة مع تردد ..
لا زالت الابتسامة على وجه ياسر والأستاذ غيث تبدو عليه علامات الارتباك ..
يغادر الأستاذ الفصل ويغيب عن بقية حصص اليوم بدون إشعار وكل اليوم التالي ـ الأربعاء ـ .
يدخل الأستاذ غيث صباح السبت ويلقي التحية ـ لأول مرة في تاريخنا معه ـ ويواصل يومه وبقية الفصل الدراسي دون أن يمس طالبا ضرباً أو لأمرٍ آخر .
يفاجئنا في الصف الثالث الابتدائي أن معلمنا من أبناء البلد يلبس لبسنا ويتعمد ممازحتنا ونشر الفرح بيننا ويسأل عن أحوالنا باستمرار ويتعمد التعرف على آبنائنا ويرسم لنا طريقا " متخيلا " للمستقبل مليء بالأحلام والطموحات .
بقلم : ناصر فلوس