بسم الله الرحمن الرحيم
دراسة نوعية وسبر لأعماق التأريخ وتفتيش في بطون الكتب ، هذا ما أنا بصدده في هذا الموضوع التاريخي ، ولا أخفيكم أن هذا الموضوع بأبعاده الكثيرة ومحاوره المتشعبة لا يعدو أن يكون دراسة تاريخية بحتة أستطيع تصنيفها تحت الشوارد الغريبة التي تميل النفس البشرية بطبيعتها الإستكشافية إلى البحث خلفها والتنقيب حولها ، موضوع قد يكون سبقني اليه الكثير من مؤرخينا الأجلاء ببيانه والتعقيب عليه ، إلا أنني هنا أقوم بشيء جديد لا أظن أنّ أحداً قد سبقني اليه عبر الشبكة ..!!
ويجدر بي قبل الشروع فيه ومن باب الأمانة العلمية ورد الفضل إلى أهله أن أنبه على أنّ فكرة دراسة هذا الموضوع إنما استقيتها وأخذتها من شيخي المفضال الفقيه الهمام الأديب الأريب أبا حزم عبدالرحمن بن محمد بن أسعد الحكمي الفيفي ، إذ أنه وقبل ما يقارب ست سنوات خلت ، وفي إحدى مجالسي معه - حفظه الله - أرخى على مسامعي وكعادته شيئاً من طيب حديثه ونور علمه ، حتى أتينا على موضوعنا هذا ، حيث بين لي رعاه الله شيئاً من الأدلة والبراهين على أن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام كان في منطقة جازان يوماً ما ، فقامت ذاكرتي حينها والشيخ يحدثني بإسترجاع بعض ما كنت أسمعه من أجدادي عن النبي عليه الصلاة والسلام وأنه قد صعد إلى فيفاء ، وأنه قد زار بعض البيوت المعروفة إلى الآن بأسمائها ودعا لهم بالخير والبركة ، حتى إذا فرغ الشيخ من كلامه تقرر في نفسي أن هذا الأمر يحتاج إلى دراسة تأريخية يثبت فيها هذه الحقيقة الغائبة عن أذهان الكثير ممن حبب اليهم التأريخ والماضي ..!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصدر جازان أو بضمد من جازان دارت أحداث نبي الله -عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم - مع قومه الذين ضيعوه ، وخالفوا وصيته وعهده الذي أخذه عليهم !!
فيا ترى من هذا النبي ؟ وما أصله ونسبه ؟
ومتى بعث ؟
وما معجزته وآيته لقومه ؟
وكيف كان خبره ؟
وما هي الشواهد الحالية التي تثبت صحة خبره وقصته ؟
وما صحة تلك الأساطير المتناقلة في فيفاء عن زيارة نبي الله لها ؟
وما أقوال العلماء والمؤرخين فيه ؟
كل هذه الأسئلة وغيرها ستكون هي مدرج الإقلاع الذي من خلاله سننطلق في رحلتنا إلى الوراء البعيد جداً عبر صفحات التأريخ !!، لنعيش تلك الأحداث مع نبي الله كما رويت وسطرت لنا ، ثم نتناولها بعد ذلك بشيء من التمحيص والتدقيق والتوجيه ، لنعود منها بحقائق جديدة نضيفها إلى رصيدنا المعرفي والثقافي ..
هو خالد بن سنان بن غيث بن مريطة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس العبسي ، هكذا نسبه الكلبي – رحمه الله – في تفسيره ، كما نقله ابن حجر عنه في كتاب الإصابة ..
وقد ورد في وقت بعثته أنه كان بين نبي الله عيسى عليه السلام وبين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أي في زمن الفترة التي قال الله عنها : ((يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير ))
ولعلي أورد هنا بعض أقوال المفسرين في المراد بـ ( الفترة ) في هذه الآية الكريمة :
فقد ذكر البيضاوي في تفسيره ما نصه :
{ والله على كل شيء قدير } أي فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام إذ كان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي ، وعلى الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كان بينهما ستمائة أو خمسمائة وتسع وستون سنة وأربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي . انتهى
وقال ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير :
فأما الفترة فأصلها السكون يقال فتر الشيء يفتر فتورا إذا سكنت حدته وانقطع عما كان عليه والطرف الفاتر الذي ليس بحديد والفتور الضعف وفي مدة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة أقوال:
أحدها أنه كان بين عيسى ومحمد عليهم السلام ستمائة سنة رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال سلمان الفارسي ومقاتل
والثاني خمسمائة سنة وستون سنة قاله قتادة
والثالث أربع مائة وبضع وثلاثون سنة قاله الضحاك
والرابع خمسمائة سنة وأربعون سنة قاله ابن السائب وقال أبو صالح عن ابن عباس على فترة من الرسل أي انقطاع منهم قال وكان بين ميلاد عيسى وميلاد محمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسعة وتسعون سنة وهي فترة وكان بعد عيسى أربعة من الرسل فذلك قوله : (( إذا أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث .. )) يس 14
قال والرابع لا أدري من هو
وكان بين تلك السنين مائة سنة وأربع وثلاثون نبوة وسائرها فترة
قال أبو سليمان الدمشقي : والرابع والله أعلم خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي ضيعه قومه . انتهى .
وهنا كلام جميل لابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير ، قال – رحمه الله – :
فالرسل هم الذين جاءوا بالوعد والوعيد وأما الأنبياء غير الرسل فإن وظيفتهم هي ظهور صلاحهم بين قومهم حتى يكونوا قدوة لهم وإرشاد أهلهم وذويهم ومريديهم للاستقامة من دون دعوة حتى يكون بين قومهم رجال صالحون وإرشاد من يسترشدهم من قومهم وتعليم من يرونه أهلا لعلم الخبر من الأمة
... انتهى
إذن من خلال ما سبق من أقوال المفسرين يتبين لنا أن مدة ظهور وبعثة نبي الله خالد بن سنان العبسي كانت في الفترة التي انقطع في الإرسال المتتابع بين عيسى عليه السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولعل في كلام ابن عاشور السابق جمع لطيف بين هذه الأدلة المثبتة لوجود أنبياء بين فترة عيسى ومحمد عليهما السلام وبين الأدلة الأخرى النافية ، كما سيتبن لاحقاً بإذن الله ..
ـــــــــــــــــــــــــــ
روى الحاكم وأبو يعلى والطبراني من طريق معلى بن مهدي عن أبي عوانة عن أبي يونس عن عكرمة عن ابن عباس :
أن رجلا من بني عبس يقال له خالد بن سنان قال لقومه : إني أطفىء عنكم نار الحدثان فقال له : عمارة بن زياد رجل من قومه والله ما قلت لنا يا خالد قط إلا حقا فما شأنك وشأن نار الحدثان تزعم أنك تطفئها قال : انطلق فانطلق معه عمارة في ثلاثين من قومه حتى أتوها وهي تخرج من شق جبل من حرة يقال لها حرة أشجع فخط لهم خالد خطة فأجسلهم فيها وقال : إن أبطأت عليكم فلا تدعوني باسمي قال : فخرجت كأنها جبل سعر يتبع بعضها بعضا واستقبلها خالد فضربها بعصاه حتى دخل معها الشق وهو يقول : بدا بدا بدا كل هدى بؤدى زعم بن راعية المعزي أني لا أخرج منها وثيابي تندى حتى دخل معها الشق قال فأبطأ عليهم فقال عمارة بن زياد والله لو كان صاحبكم حيا لقد خرج منها فقالوا إنه قد نهانا أن ندعوه باسمه قال فدعوه باسمه فخرج إليهم وقد أخذ برأسه فقال ألم أنهكم أن تدعوني باسمي قد والله قتلتموني فإذا مت فادفنوني فإذا مرت بكم عانة حمر فانبشوني فإنكم ستجدونني حيا فأخبركم بما يكون فدفنوه فمرت بهم الحمر فيها حمار أبتر فقالوا انبشوه فإنه قد أمرنا أن ننبشه فقال لهم عمارة بن زياد : تحدث مضر أنا ننبش موتانا والله لا تنبشوه أبدا وقد كان خالد أخبرهم أن في عكن امرأته لوحين فإذا أشكل عليكم أمر فانظروا فيهما فإنكم سترون ما تسألون عنه وقال : لا تمسهما حائض فلما رجعوا إلى امرأته سألوها عنهما فأخرجتهما وهي حائض فذهب ما كان فيهما من علم .
قال أبو يونس قال سماك بن حرب سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ذاك نبي ضيعه قومه وإن ابنته أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال مرحبا بابنة أخي
قال الحاكم هذا حديث صحيح .
قال بلوغ المرام : هذا الإسناد هو أجمع الأسانيد التي استوفت الخبر بجميع زياداته المتفرقة في الروايات !
ـــــــــــــــ
قراءة فيما سبق :
نبي الله خالد بن سنان العبسي وكما ذكر سابقاً بعثه الله في زمن الفترة بين عيسى عليه السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكانت آيته ومعجزته أنه أطفأ نار الحرتين بعصاه بعدما اشتد أذاها على الناس ، وكما يظهر من الحديث السابق أنه أوصى قومه بثلاث :
أولاها / عدم مناداته باسمه عند دخوله نار الحرة – عكوة حالياً بجوار قرية الحسيني - حتى يخرج عليهم من تلقاء نفسه ..
ثانيها / نبش قبره عند مرور الحمر ، لإخراجه !
ثالثها / ألا يمس الألواح حائض !
ونرى مدى تضييع قومه لهذه الوصايا ، فهاهو عمارة بن زياد الذي لم يقدر نبيه قدره ، يخالف الوصية بعدما تحداه أنه يستطيع إطفاءها ويناديه باسمه بعد تأخره في داخل البركان وزعمه أن تأخره بسبب موته فيها ، وهذا سوء ظن من عمارة ومن معه بنبيهم وشك في تأييد الله له وإعانته !!
ويستمر التهاون بوصايا نبي الله خالد ، فبمجرد مناداته باسمه يخرج ممسكا برأسه من شدة ما أصابه من نار الحرة قائلاً لقومه : والله لقد قتلتموني !!
وإذا علمنا أن أرحم الناس بالناس في هذه الأرض هم أنبياء الله ورسله ، فإننا نرى هذه الرحمة تتجلى في نبي الله خالد بن سنان الذي لم يدعو على قومه بعد مخالفتهم له وتضييع وصيته ، بل تعدى ذلك إلى حرصه وإشفاقه عليهم بأن أوصاهم بنبش قبره عند مرور تلك الحمر التي وصفها لهم وصفاً دقيقاً - وهذه من آياته بأن اطلعهم على أمر مستقبلي سوف يحدث - ومع هذا تأتي هذه الحمر كما وصفها لهم ويرون ذلك الحمار الأبتر الذي أخبرهم به والذي هو الآية على نبش قبره ، ويمتنعون من نبش القبر خوف الفضيحة والعار مضيعين للوصية ولمقام النبوة !
وكان من ضمن وصاياه لقومه أنه إذا أشكل عليهم شيء فليراجعوا تلك الألواح المحفوظة لدى امرأته وحذرهم من أن يمسها حائض ، فلما احتاجوها طلبوها من امرأته بعد وفاته فأخرجتها لهم وهي حائض فذهب ما فيها من علم !
وهذا دليل على إهمالهم لجناب الوصية النبوية وإلا فإنه كان من المفترض أن يكون في حسبانهم سؤال المرأة هل هي طاهرة والحرص على حفظ الوصية ولكن وقع ما وقع !!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر ابن القيم في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد خبر وفد بني عبس على النبي عليه الصلاة والسلام فقال رحمه الله :
وقدم عليه وفد بني عبس فقالوا : يا رسول الله ! قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له ولنا أموال ومواش وهى معايشنا فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له فلا خير في أموالنا بعناها وهاجرنا من آخرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم الله من أعمالكم شيئا ] وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خالد بن سنان هل له عقب ؟ فأخبروه أنه لا عقب له كانت له ابنة فانقرضت وأنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه عن خالد بن سنان فقال : نبي ضيعه قومه .
وفي رواية أخرى ذكرها ابن حجر نقلاً عن المسعودي في مروج الذهب من طريق محمد بن عمر حدثني علي بن مسلم الليثي عن المقبري عن أبي هريرة قال قدم ثلاثة نفر من بني عبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إنه قدم قراؤنا وأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له ولنا أموال ومواش هي معاشنا فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا فقال اتقوا الله حيث كنتم فلن يليتكم من أعمالكم شيئا ولو كنتم بصدر جازان وسألهم عن خالد بن سنان فقالوا لا عقب له فقال نبي ضيعه قومه ثم أنشأ يحدث أصحابه حديث خالد بن سنان .
وأخرج ابن سعد في طبقاته هذا الحديث :
قال أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني علي بن مسلم الليثي عن المقبري عن أبي هريرة قال قدم ثلاثة نفر من بني عبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : انه قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له ، ولنا أموال ومواش هي معاشنا فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم من أعمالكم شيئا ولو كنتم بضمد وجازان وسألهم عن خالد بن سنان فقالوا لا عقب له فقال نبي ضيعه قومه ثم أنشأ يحدث أصحابه حديث خالد بن سنان .
وروى الطبراني بإسناده
عن ابن عباس قال جاءت بنت خالد بن سنان إلى النبي فبسط لها ثوبه وقال بنت نبي ضيعه قومه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
هذه هي الحرة المعروفة بـ ( عكوة ) ويقع شمالها حرة أخرى أصغر منها ..
( نار الحرتين ) !!!
منقول