تكملة{د.عوض القرني ...من نحن أولاً}
الذي أحب أن أشير إليه ونحن ننطلق للحوار أو لبحث العلاقة مع الآخر يجب أن نميز بين قضيتين بين قضية المشترك بيننا وبين الآخر وبين الخصائص الخاصة بكل منا ومن الآخر فهناك مشترك إنساني عام تتفق فيه البشرية ثم تضيق مساحة هذا المشترك قليلاً قليلاً حتى ننتهي إلى الخاص بكل أصحاب دين وثقافة ومجتمع وتاريخ خاص بهم بل إن الخصوصية التي ينكرها البعض الآخر هي فطرة فطر الله الناس عليها حتى الإنسان الفرد له بين أشقائه وشقيقاته ومع أمه وأبيه وأبنائه وبناته وزوجه له خصائص خاصة به يتميز بها عمن سواه فضلاً عن أن للمجتمع الذي له دين واحد وثقافة واحدة وقيم واحدة أن له خصائص أيضاً خاصة به ومن هنا فإن الكثير من الأخطاء وقعت بسبب الخلط بين هاتين القضيتين البعض نظر إلى المشترك بيننا وبين الآخر فقط وأراد تحت لافتة المشترك الإنساني أن يلغي خصوصيتنا وأن يسعى تحت لافتة الحوار مع الآخر وقبوله إلى أن يذوبنا في الآخر ويسقطنا في مصيدة الاستلاب والتبعية للآخر بينما البعض الآخر نظر إلى الخصوصية فأراد أن يلغي التواصل والعلاقات القائمة بيننا وبين الآخر من خلال المشترك الإنساني وتحت حجة الحفاظ على خصوصيتنا أصر على أن نتقوقع وأن ننكفئ على أنفسنا وما لم نميز بين القضيتين قضية المشترك وقضية الخصوصي ونعطي كل منهما قدره فلن نقيم علاقة متوازنة وسنبقى يتجاذبنا في هذه الحالة قطبان متطرفان غاليان أحدهما تحت معاني شتى قد تكون تحت دعوى الوطنية وقد تكون تحت دعوى الإسلامية ندعوا إلى الانكفاء على الذات والبعد عن التواصل مع العالم ولن يتسنى لنا أن نرتب علاقتنا مع الآخر حينئذٍ وفق جسور من الإفادة والاستفادة والتعاون والتواصل, فمثلاً لدينا كما في العالم كله تيار وطني عنصري يغالي في نقد الآخرين وتقديس تجربتنا وأنها فوق أي نقد أو تصويب أو إصلاح ويعلن صراحة رغبته الجامحة في قصقصة وقطع وشائج روابطنا مع العالم حتى مع أمة الإسلام ويعلن بشكل صريح تشكيكه في انتمائنا الطبيعي إلى أمة الإسلام دينيا وثقافياً و تاريخياً وجغرافياً وهذا يذكرنا بغلاة دعاة القومية في أوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وفي أوائل العشرين والتي بلغت تلك الدعوة أوجها في النازية وشعارها الشهير (ألمانيا فوق الجميع) وفلسفتها الظالمة عن التفوق الآري ونقاء الدم الجرماني .كيف يمكننا أن نتعامل مع الآخر ونحن نواجه هذه الدعوات في داخلنا التي تحول الوطن من محضن جغرافي للتاريخ والحضارة والتنمية ورابطة فطرية وتاريخ ممتد تحوله من كل ذلك إلى لافتة وثنية ؟ فإذا كانوا يرفضون مبدأ التواصل مع المسلمين وهم الأقرب إلينا فماذا سيفعل هؤلاء عندما يكون الحديث عن البعد الإنساني العام؟ نعم الغريب أن بعض هؤلاء الثائرين على ما يسمونه بالأممية الإسلامية يبذلون جهودهم في التقاط هلكى اليسار العربي ومراهقي الليبرالية الجديدة ويسعون لإعطائهم بريقا لم يحصلوا عليه في أيام مجدهم الغابر وإنني لأتساءل ماذا سيفعل هؤلاء في كتاب الله الذي يؤكد أننا أمة واحدة وأن المؤمنين إخوة ؟ وماذا سيفعل هؤلاء في الحرمين وصلتهما بالمسلمين في كل مكان ؟ وماذا سيفعلون في تجربتنا الخاصة بنا في هذه البلاد تجربتنا الحديثة والتي كان مرتكزها الأول داخلياً وخارجياً البعد الإسلامي لهذا الوطن وهذا الشعب وهذه الدولة ؟ والتي ابتدأت هذه التجربة في التقاء الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب وكان أجلى صور التعبير عنها تجربة الملك عبد العزيز رحمه الله التي جاءت لتعبر عن تمسك هذه البلاد بالإسلام نصاً وروحا رغم الانهيار المريع الذي عانت منه أغلب البلدان الإسلامية أثناء الاجتياح الاستعماري الغربي مما جعل أكثر تلك البلدان تحاول استنساخ التجربة الغربية بشقيها الليبرالي أو القومي أو اليساري وتستدبر الإسلام بنسب مختلفة , ثم جاء الملك فيصل فنهض بهذا الأمر نهوضاً غير مسبوق وطرح منظمة المؤتمر الإسلامي كصيغة وحدوية ممكنة بديلة في ضل الظروف غير المواتية التي تحول بين المسلمين وبين وحدتهم المادية الحقيقية وعزز ذلك رحمه الله داخلياً بعشرات المشاريع الرائدة كرابطة العالم الإسلامي والندوة العالمية للشباب الإسلامي والجامعات الإسلامية ومناهج التعليم ومناهج الجامعات والجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم والبنوك الإسلامية واستمر هذا التوجه والحمد لله هو القائد لمسيرة البلد والمعبر عن شخصيته حتى كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر فجاء الحاقدون الحانقون على البلد وعلى الإسلام ليستغلوا الأحداث ويراهنوا على المتغيرات الدولية في محاولة يائسة بائسة لاجتثاث هذا النهج والتوجه بزعمهم وقالوا فينا ما لم يقله غلاة الأمريكان ولا غلاة الإسرائيليين إذاً هذه صورة من صور هذا الانكفاء والتي يعبر عنها في أحيان أخرى أيضاً يعبر عنها من خلال لافتة التدين وأننا نحن الذين نمثل التوجه الإسلامي الصحيح فقط وأن المسلمين في جميع بقاع الأرض في ضلال مبين بل إن هذه الدعوة الغالية لترفض مبدأ الحوار والتفاهم والتعاون مع المخالفين من المسلمين بل يضيق الأمر ببعضهم أحياناً حتى يصل إلى رفض المخالف من أهل السنة والجماعة إذاً هذه صورة من صور الغلو والانكفاء على الذات وإن اختلفت صور التعبير عنها أما الصورة الثانية فهي صورة غلاة المنفتحين الذين يرون أن نذوب في الحضارة الغربية وأن نتماهى معها وأن نلغي خصوصيتنا وأنه لا سبيل للرقي والحضارة إلا بإسقاط وإزالة جميع الحواجز في النفس والأخلاق والتشريع والذوبان في الغرب والتخلي عن ماضينا الذي هو في نظرهم سبب كل بلاء وليس ببعيد عنهم الذين أقاموا خصومة بين نوازع الفطرة في الانتماء للقوم والوطن وبين بزعمهم نصوص الوحي المؤكدة على وحدة الأمة وعالمية الإسلام في كل مكان وزعموا جهلاً وافتراءً أن الانتماء للأمة المسلمة بمفهومها الواسع زماناً ومكاناً لن يتحقق إلا إذا ألغيت الرابطة الوطنية والقومية تماما ونسوا أو تناسوا أن كثيراً من أحكام الشريعة وليس المقام مقام استعراضها تؤكد التراتبية الطبيعية الفطرية التي تبدأ من الأسرة و السكن والمنزل وتنتهي بالإنسانية كلها والكرة الأرضية كلها من غير تناقض ولا صراع بل هو التقويم والترشيد والإصلاح فالذي خلق الخلق وفطر الفطرة هو الذي أنزل الوحي وشرع الشريعة , وكيف يزعم هؤلاء أن البناء الواسع لا يمكن أن يتم إلا إذا كسرت اللبنات ودمرت ؟ وأين هم عن كثير من نصوص الشرع في القرآن والسنة وكثير من المواقف في سيرة المصطفى وسوابق تاريخنا عبر العصور والتي كان الغالب على تلك التجربة الحضارية الفريدة الشمول والكمال والسمو والتوازن والفطرية والواقعية؟ فنحن بخصوصيتنا نعبر عن ذاتنا ونحن بجسورنا مع العالم كله نتواصل مع البشرية من حولنا ونتعاون معها إذا هذه القضية الثالثة التي أحببت أن أشير إليها.
---------------------------------------------------------------------------------------------------------
منقول عن ملحق الرسالة الصادر عن جريدة المدينة- الجمعة 7-11-1426هـ