أما قبل أيها الأحبةالكرام.. فعليكم من الله أزكى التحية والسلام..
وبعد،
أخي العزيز.. كول برشا.. الله يمسيك بكل خير.
دخل صديق على صديقه وهو يقرأ فى مكتبته بعض الكتب وبينما هو منهمك في القراءة .. دخل عليه صديقه .. فرأي في مشيته يختال.. وما أن سلم حتى رفع حاجبه الشمال.. وقال بلهجة الزهو والافتخار.. إليك يا صديقي آخر الأخبار.. هل تذكر صاحبنا القديم فلان .. الذي وسعه بيتي حين ضاقت به بيوت الناس.. فلما نزلت بي الشدة والضيق.. لم أجد منه ما ينتظر الصديق من الصديق.
قلت: من مدة لم أعد أسمع من أخباره .. ولا وقفت مع كثرة السؤال علي آثاره.. قال قد جاءني بالأمس بعد أن غاب النهار.. يقدم الأعذار.. وقد بدا علي وجهه الانكسار ..يريد أن يعيد أيام الصلات.. فرد عليه هيهات يا صديقي هيهات.. فلا خير فيمن يلقاك بالصد.. ولا يشكر الجميل ولا يحفظ العهد. . ولله در الحكيم القائل
رب صديق كنت أدعو له ... أن يجعل الدنيا كمالاً لديه
حتى إذا صار إلى حاجتي ... حقاً وصارت حاجتي في يديه
حال عن الود وعن عهدنا ... وأظهر الشح على درهميه
فما مضى بعد دعائي له ... يومان حتى صرت أدعو عليه
قلت: حنانيك يا صديقي حنانيك.. أقبل عليه ولا عليك ..
صديقك حين تستغني كثير ... وما لك عند فقرك من صديق
فلا تغضب على أحد إذا ما ... طوى عنك الزيارة عند ضيق
أو ما سمعت يابن الكرام الأكابر.. ما قال الحكيم الشاعر:
للخير أهل لا تزال
وجوههم تدعو إليه
طوبي لمن جرت الأمور
الصالحات علي يديه
ما لم يضق خلق الفتي
فالأرض واسعة عليه
أوما بلغك ما قالت الحكماء وما أكرمه.. وما أحسنه وأجمله وأعظمه.. إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له عذرا تعلمه .. فإن لم تجد عذرا فقل لعل له عذرا لا أعلمه ..
وكنت إذا صحبت رجال قوم ... صحبتهم وثبتني الوفاء
فأحسن حين يحسن محسنوهم ... وأجتنب الإساءة إن أساؤوا
وأبصر ما يعيبهم بعين ... عليها من عيوبهم غطاء
قال صديقي أحسن الله إليه.. وأجرى عوائد الخير على يديه.. كبف وقد قال بعض السلف ممن أحسن الله إليه.. توق من الرجال من أنعم عليك من عليك.. وإن أنعمت عليه كفرك ولم يلتفت إليك.. وإن حدثته كذَّبك وإن حدثك كذب عليك.. ينطق لسانه.. بخلاف ما يضمر جنانه..وإن ائئتمنك اتهمك وإن ائتمنته خانك ..
أريت امرءاً كنت لم أبله ... أتاني فقال: اتخذني خليلا
فخاللته ثم صافيته ... فلم أستفد من لدنه فتيلا
فألقيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا
ألست حقيقاً يتوديعه ... وأتبع ذلك هجراً جميلاً
قلت: دع هذا وتعال .. أخبرك من أنباء السمحاء الكرماء.
كان طلحة بن عبد الرحمن بن عوف رحمه الله.. من أجود أهل قريش في زمانه وأسخاه.. فلما تنكر له زمانه.. أعرض عنه إخوانه.. فقالت له زوجته ما رأيت قوماً ألأم من إخوانك.. قال: مه مه ! لم تقولين ذلك بلسانك؟.. قالت: أراهم إذا أيسرت لزموك.. وإذا أعسرت تركوك! ..
قال: هذا والله من كرم أخلاقهم.. وجميل خصالهم وطباعهم.. في حال القوة بنا عليهم يأتوننا .. وفي حال الضعف بنا عنهم يتركوننا .
فانظر يا صديقي كيف تأول هذا الرجل الكريم هذا التأويل.. حتى جعل قبيح فعل إخوانه من الحسن الجميل.. وعدَّ ظاهر غدرهم من الوفاء النبيل..
وهكذا ينبغي أن يتأول الكرام هفوات إخوانهم..واصدقائهم وهذا محض الكرم ولباب الفضل اللائق بهم.
وقدم عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد.. علي معن بن زائدة وكان أميرا علي اليمن السعيد.. وكانت بينهما عدواة وأضغان.. فقال معن لعبد الرحمن.. بأي وجه أتيتني؟.. ولأي خير أملتني؟ قال: أصلح الله الأمير! وعفا الله عما جرى وكان.. اسمع مني حتى أنشدك بيتين قالهما الشاعر نصيب في عبد العزيز بن مروان.
لو كان فوق الأرض حي فعاله
كفعلك، أو للفعل منك مقارب
لقلت له هذا، ولكن تعـذرت
سواك على المستعتبين المذاهب
فاعتذر عبد الرحمن إليه .. فأقبل الأمير معن عليه..فقال: أقم، فإني لا أؤاخذك يا عبد الرحمن.. فيما مضى ولا أعنفك فيما يأتي من الزمان..
رأيت الحق يعرفه الكريم
لصاحبه وينكره اللئيم
إذا كان الفتى حسنا كريما
فكل فعاله حسن كريم
إذا كان الفتى سمجا لئيما
فكل فعاله سمج لئيم
ووصف رجل أخاً له في الله فقال.. كنت لا تراه الدهر على أي حال.. إلا مقبلا على الدوام إليك .. وإن كنت أحوج إليه منه إليك.. وإن أذنبت غفر ذنبك وكأنه المذنب الخطاء.. وإن أسأت إليه أحسن وكأنه هو الذي أساء.
أخي ..كول برشا.. إن الكريم لا يكون حقودا ولا حسودا ..ولا شامتا ولا باغيا ولا فاجرا ولا كاذبا ولا ملولا ولا عنيدا..لا يقطع عن إخوانه إلفه ولا يؤذيهم .. ويعطي من يرجوه منهم ويؤمن خائفهم ولا يجفوهم .. يعفو عن قدرة ..ويصل من قطعه.
:
ما بال أقواما لنا لئام ليس عندهم
عهد وليس لهم دين إذا ائتمنوا
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا
منا وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
اقول لك أخي ..كول برشا.. إن الكريم يلين إذا استعطف.. واللئيم يقسوا إذا ألطف.. والكريم يجل الكرام.. ولا يهين اللئام.. ولا يؤذي العاقل.. ولا يمازح الأحمق الجاهل.. يؤثر إخوانه على نفسه وحاله.. ويبذل لهم ما يملك من جهده وماله.. إذا اطلع على رغبة من أخ لم يتأخر عن إجابته..وإذا عرف منه مودة لم ينظر في أيام عداوته.. وإذا أعطاه من نفسه الإخاء.. لم يقطعه بشيء من الأشياء..
إن الكريم الذي تبقى مودته ... ويحفظ السر إن صافى وإن صرما
ليس الكريم الذي إن زل صاحبه ... بث الذي كان من أسراره علما
وما ألطف قول أحد الكرماء.. يصف ما بينه وبين عشيرته والأقرباء
فإن الذي بيني وبين عشيرتي
وبين بني عمي لمختلف جدا
إذا قدحوا لى نار حرب بزندهم
قدحت لهم في كل مكرمة زندا
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
وأعطيهم مالي إذا كنت واجدا
وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
أخي .كول برشا..إن أسرع الناس مودة وأبطأهم عداوة هم الكرام ..فانت الكريم ابن الكريم وما وضعت موضعك هذا الا من صفاء سريرتك وطيبه قلبك ومودتك الصادقه لمن تصادق
فالكريم من أعطاه شكره.. ومن منعه عذره ..من قطعه وصله ..ومن وصله فضله ..من سأله أعطاه.. ومن سكت ابتداه ..إذا استضعف أحدا رحمه ولم ييسخر منه.. وإذا استضعفه أحد رأى الموت أكرم له منه ..واللئيم بضد ما وصفنا من الخصال.. فهو شامت قاطع حاقد على كل حال..
أخي ..كول برشا..لقد وضع .. استاذي الكريم ..البليبل ..ردا مقنعا جدا وواضحا..فاتمنى منك ان تلتمس لصديقك العذر ..فربما ياتيت لحظه تعيدمعه كل ما انقطع بينكم وترجعون كما كنتم وافضل؟؟
ومسك الختام قول الملك الكريم.. {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34].
أسأل الله العظيم أن يؤلف بين قلوبكم .. وأن لا ينزغ الشيطان أبدا بينكم .. وأن يسل سخائم صدوركم.. وأن يجمع علي أتقي قلب رجل قلوبكم ..
تقبل من اخوك البحري مروره المتواضع ..
تحياتي للجميع