أجمل ما كتب محمود درويش
( الجداريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــة )
بعضاً من فصولها
--------------
سأحلُمُ، لا لأُصْلِحَ مركباتِ الريحِ
أَو عَطَباً أَصابَ الروحَ
فالأسطورةُ اتَّخَذَتْ مكانَتَها/ المكيدةَ
في سياق الواقعيّ. وليس في وُسْعِ القصيدة
أَن تُغَيِّرَ ماضياً يمضي ولا يمضي
ولا أَنْ تُوقِفَ الزلزالَ
لكني سأحلُمُ،
رُبَّما اتسَعَتْ بلادٌ لي، كما أَنا
واحداً من أَهل هذا البحر،
كفَّ عن السؤال الصعب: ((مَنْ أَنا؟
ها هنا؟ أَأَنا ابنُ أُمي؟))
لا تساوِرُني الشكوكُ ولا يحاصرني
الرعاةُ أو الملوكُ. وحاضري كغدي معي
ومعي مُفَكِّرتي الصغيرةُ: كُلَّما حَكَّ
السحابةَ طائرٌ دَوَّنتُ: فَكَّ الحُلْمُ
أَجنحتي. أنا أَيضاً أطيرُ. فَكُلُّ
حيّ طائرٌ. وأَنا أَنا، لا شيءَ
آخَرَ/
واحدٌ من أَهل هذا السهل....
في عيد الشعير أَزورُ أطلالي
البهيَّة مثل وَشْم في الهُوِيَّةِ
لا تبدِّدُها الرياحُ ولا تُؤبِّدُها..../
وفي عيد الكروم أَعُبُّ كأساً
من نبيذ الباعة المتجوِّلينَ… خفيفةٌ
روحي، وجسمي مُثْقَلٌ بالذكريات وبالمكان/
وفي الربيع، أكونُ خاطرةً لسائحةٍ
ستكتُبُ في بطاقات البريد: ((على
يسار المسرح المهجور سَوْسَنَةٌ وشَخْصٌ
غامضٌ. وعلى اليمين مدينةٌ عصريَّةٌ))/))
وأَنا أَنا، لا شيء آخَرَ....
لَسْتُ من أَتباع روما الساهرينَ
على دروب الملحِ. لكنِّي أسَدِّدُ نِسْبَةً
مئويَّةً من ملح خبزي مُرْغَماً، وأَقول
للتاريخ: زَيِّنْ شاحناتِكَ بالعبيد وبالملوك الصاغرينَ، ومُرَّ....لا أَحَدٌ يقول
الآن: لا
وأَنا أَنا، لا شيء آخر
واحدٌ من أَهل هذا الليل. أَحلُمُ
بالصعود على حصاني فَوْقَ، فَوْقَ...
لأَتبع اليُنْبُوعَ خلف التلِّ
فاصمُدْ يا حصاني. لم نَعُدْ في الريح مُخْتَلِفَيْنِ
………..
أَنتَ فُتُوَّتي وأَنا خيالُكَ. فانتصِبْ
أَلِفاً، وصُكَّ البرقَ. حُكَّ بحافر
الشهوات أَوعيةَ الصَدَى. واصعَدْ،
تَجَدَّدْ، وانتصبْ أَلفاً، توتَّرْ يا
حصاني وانتصبْ ألفاً، ولا تسقُطْ
عن السفح الأَخير كرايةٍ مهجورةٍ في
الأَبجديَّة. لم نَعُدْ في الريح مُخْتَلِفَيْنِ،
أَنت تَعِلَّتي وأَنا مجازُكَ خارج الركب
المُرَوَّضِ كالمصائرِ. فاندفِعْ واحفُرْ زماني
في مكاني يا حصاني. فالمكانُ هُوَ
الطريق، ولا طريقَ على الطريق سواكَ
تنتعلُ الرياحَ. أضئْ نُجوماً في السراب!
أَضئْ غيوماً في الغياب، وكُنْ أَخي
ودليلَ برقي يا حصاني. لا تَمُتْ
قبلي ولا بعدي عَلى السفح الأخير
ولا معي. حَدِّقْ إلى سيَّارة الإسعافِ
والموتى… لعلِّي لم أَزل حيّا/
سأَحلُمُ، لا لأُصْلِحَ أَيَّ معنىً خارجي.
بل كي أُرمِّمَ داخلي المهجورَ من أَثر
الجفاف العاطفيِّ. حفظتُ قلبي كُلَّهُ
عن ظهر قلبٍ: لم يَعُدْ مُتَطفِّلاً
ومُدَلّلاً. تَكْفيِه حَبَّةُ "أسبرين" لكي
يلينَ ويستكينَ. كأنَّهُ جاري الغريبُ
ولستُ طَوْعَ هوائِهِ ونسائِهِ . فالقلب
يَصْدَأُ كالحديدِ ’ فلا يئنُّ ولا يَحِنُّ
ولا يُجَنُّ بأوَّل المطر الإباحيِّ الحنينِ’
ولا يرنُّ كعشب آبَ من الجفافِ.
كأنَّ قلبي زاهدٌ ، أوَ زائدٌ
عني كحرف "الكاف" في التشبيِه.
حين يجفُّ ماءُ القلب تزدادُ الجمالياتُ
تجريداً ، وتدَّثرُ العواصف بالمعاطفِ،
والبكارةُ بالمهارةِ/
----------------------------
----------------------
-----------------
------------
كانت ساعَةُ الميناءِ تعمَلُ وحدها
لم يكترثْ أَحَدٌ بليل الوقت، صَيَّادو
ثمار البحر يرمون الشباك ويجدلون
الموجَ. والعُشَّاقُ في الـ" ديسكو"
وكان الحالمون يُرَبِّتُون القُبَّراتِ النائماتِ
ويحلمون....
وقلتُ: إن متُّ انتبهتُ.....
لديَّ ما يكفي من الماضي
... وينقُصُني غَدٌ
سأسيرُ في الدرب القديم على
خُطَايَ، على هواءِ البحر. لا
امرأةٌ تراني تحت شرفتها. ولم
أملكْ من الذكرى سوى ما ينفَعُ
السَّفَرَ الطويلَ. وكان في الأيام
ما يكفي من الغد. كُنْتُ أصْغَرَ
من فراشاتي ومن غَمَّازتينِ:
خُذي النُّعَاسَ وخبِّئيني في
الرواية والمساء العاطفيّ/
وَخبِّئيني تحت إحدى النخلتين/
وعلِّميني الشِعْرَ/ قد أَتعلَّمُ
التجوال في أنحاء "هومير"/ قد
أُضيفُ إلى الحكاية وَصْفَ
عكا/ أقدمِ المدنِ الجميلةِ،
أَجملِ المدن القديمةِ /علبَةٌ
حَجَريَّةٌ يتحرَّكُ الأحياءُ والأمواتُ
في صلصالها كخليَّة النحل السجين
ويُضْرِبُونَ عن الزهور ويسألون
البحر عن باب الطوارئ كُلَّما
/ اشتدَّ الحصارُ /وعلِّميني الشِعْرَ
قد تحتاجُ بنتٌ ما إلى أُغنية
لبعيدها: ((خُذْني ولو قَسْراً
إليكَ، وضَعْ منامي في
يَدَيْكَ)). ويذهبان إلى الصدى
مُتَعانِقَيْنِ /كأنَّني زوَّجتُ ظبياً
شارداً لغزالةٍ/ وفتحتُ أبوابَ
الكنيسةِ للحمام… /وعَلِّميني
الشِعْرَ/ مَنْ غزلتْ قميصَ
الصوف وانتظرتْ أمام الباب
أَوْلَى بالحديث عن المدى، وبخَيْبَةِ
الأَمَلِ: المُحاربُ لم يَعُدْ، أو
لن يعود، فلستَ أَنتَ مَن
انتظرتُ..../
ومثلما سار المسيحُ على البحيرة....
سرتُ في رؤيايَ. لكنِّي نزلتُ عن
الصليب لأنني أَخشى العُلُوَّ ولا
أُبشِّرُ بالقيامة. لم أُغيِّر غيرَ إيقاعي
لأَسمع صوتَ قلبي واضحاً....
للملحميِّين النُسُورُ ولي أَنا طَوْقُ
الحمامة، نَجْمَةٌ مهجورةٌ فوق السطوح،
وشارعٌ يُفضي إلى الميناء....
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ
من خُطَايَ وسائلي المنويِّ… لي
ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي. ولي
شَبَحي وصاحبُهُ. وآنيةُ النحاس
وآيةُ الكرسيّ، والمفتاحُ لي
والبابُ والحُرَّاسُ والأجراسُ لي
لِيَ حَذْوَةُ الفَرَسِ التي
طارت عن الأسوار… لي
ما كان لي. وقصاصَةُ الوَرَقِ التي
انتُزِعَتْ من الإنجيل لي
والملْحُ من أَثر الدموع على
جدار البيت لي....
واسمي، إن أخطأتُ لَفْظَ اسمي
بخمسة أَحْرُفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي:
ميمُ /المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
حاءُ/ الحديقةُ والحبيبةُ، حيرتانِ وحسرتان
ميمُ/ المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته
الموعود منفيّاً، مريضَ المُشْتَهَى
واو/ الوداعُ، الوردةُ الوسطى،
ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ، وَوَعْدُ الوالدين
دال/ الدليلُ، الدربُ، دمعةُ
دارةٍ دَرَسَتْ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني
وهذا الاسمُ لي....
ولأصدقائي، أينما كانوا، ولي
جَسَدي المُؤَقَّتُ، حاضراً أم غائباً....
مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن....
لي مِتْرٌ و75 سنتمتراً.....
والباقي لِزَهْرٍ فَوْضَويّ اللونِ،
يشربني على مَهَلٍ، ولي
ما كان لي: أَمسي، وما سيكون لي
غَدِيَ البعيدُ، وعودة الروح الشريد
كأنَّ شيئاً لم يَكُنْ
وكأنَّ شيئاً لم يكن
جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العَبَثيِّ....
والتاريخُ يسخر من ضحاياهُ
ومن أَبطالِهِ....
يُلْقي عليهمْ نظرةً ويمرُّ...
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
واسمي -
وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت-
لي.
أَما أَنا -وقد امتلأتُ
بكُلِّ أَسباب الرحيل-
فلستُ لي.
أَنا لَستُ لي
أَنا لَستُ لي....