نتيجة التحضيرات الطويلة لسلسلة الدراسات ألأولية, استقر خيار الفنان على ألأكبر قدرة فيها لتجسيد فكرة العمل وفلسفته, لكنه في نفس الوقت لم يهدف من ورائها الا الى بناء الهيكل العام/ الانشاء التصويري فقط, ففي مجرى العمل على قماش اللوحة, هناك, يثبت مايسنكا الملامح التشكيلية للشخوص.
"..بعد الحرب, عندما وصلت الى القرية, خيل لي أن النساء في كل مكان. النساء والأرض والحقول والطرقات والرياح الجافة, كل ذلك أصبح شيئا واحدا, فوقع الخيار العصب من نصيبهن. لقد عزمت على اعطاء فكرتي عن الحياة في الطرائق المختلفة للوحة, وطريقتها الأخيرة بالذات, أعطي احساس بالزمن والأمومة.." هكذا وبالتدريج أقبل الفنان على دراسة مصائر النساء أنفسهن, فظهرت طائفة الدراسات الأولية ليس لفلاحات عاديات, انما لامهات وأخوات الجنود في الواقع, مصائر حقيقية في مواجهة المشاهد.
قريته التي هدمتها الحرب رسمها عام 1965, وقد اختارها هدفا لدراساته: أفق عال يعطي حرية كبيرة لكشف أكبر مساحة من الأرض. الشخوص في هيئتها تشبه تماثيل تذكارية نحتت بازميل الحرب, أو صبت من خامة الفجيعة الخالصة. لقد استهدف الفنان في لوحته عظمة النساء وحيوية وصدق العواطف وطبيعيتها. لقد كانت دراساته تنطوي على ألوان الصيف المشعة وضيائه الحاد, لكنه اختار في لحظة تنفيذ اللوحة مناخ الخريف : رمادي رطب, وريح تجرجر أذيال الثياب الصوفية الخشنة, وأطراف المناديل. في الطريقة الأولى اختار مبدأ التجزئة في التكوين, فقد وزع مكونات اللوحة على القماش اذ كثف النسوة في مكان, والبنايات والأخشاب في مكان آخر خلفها . الخيول في كتلة يقابلها بيوت القرية في الزاوية اليسرى.
في الصيغتين الثانية والثالثة المرسومتين عام 1966 غيّر الفنان مبدأ التكوين وتخلص من تقسيم اللوحة الى مجموعات, ووحد أجزاءها بخلفية واحدة اختفى فيهما الأفق, وتقلصت المسافات بين الأشكال وضاقت المساحة.
الأمهات الأخوات – الصيغة الثانية - 220/150 سم
في الصيغة الأولى كان الفضاء أرحب خلاف ما كان عليه في الأولى والثانية, وعاد أكثر رحابة في اللوحة/ الصيغة الأخيرة. عبر ذلك كله , كان الفنان يبحث عن الطاقة الكامنة خلف مخلوقاته. أن صعوبة الألوان ودرجاتها أفضت الى اكتمال فلسفة الموضوع. ليس لدى مايسنكا حدود للّون, فلونه يعبر مسافات بعيدة ويخترق الأشكال ويوحدها, أو يقطّعها. في الصيغة الرابعة, والتي هي موضوع البحث, يعبر لون الأرض الطباشيرية حدود الأجساد ويغطي مساحات منها, حتى يخيل للمشاهد أن هذه الأجساد ما هي الا درجات لونية من الأرضية نفسها . من الأرض الطباشيرية تتشكل ملامح البشر جراء التعتيم المفاجئ لبعض المساحات, هي في الواقع تفاصيل القدم, الأصابع أو الكاحل.
مايسنكا يلون بحرية كبيرة وبيقين مثل البديهة. الاضاءات والظلال تتبادل مواقعها, وتخلي كل منهما مكانها للأخرى وبشكل مفاجئ. يجتاز لون الأرض رداء العجوز, "ماترينا سرغيفنا " أم الفنان في الواقع, والتي تلوح بيدها كما يفصل الأقدام عن الجسد لتعود تظهر معتمة مرة اخرى.. لقد قلب مايسنكا قانون التلوين الطبيعي متلاعبا بالضوء بحرية تفوق حرية الضوء ذاته. الحيوات التي تابع نموها, والمصائر التي شهد ولادتها في الواقع , قد كشفت عن حالها وقدمت كل طاقتها على التعبير, وكل ما لديها من احتياطي الانفعالات في حياة اللوحة ذات العشرين عاما.
" الأمهات, الأخوات " حالة على حافة الأرق. حالة ما بعد الدموع, أو قبلها بقليل. لقد أراد لهل الفنان أن تقول شيئا واحدا فقط...لقد نزلت الفجيعة ..يا للهول !! لقد سقطت الأنظار الى الأعماق السحيقة للنسوة. العجوز التي ظلت طيلة الأعمال الأربعة بين النظر الى النسوة الأصغر منها, وبين رحيل الرجال, الصغار في ذاكرتها, ظلت مع حوارها الداخلي وراحت أبعد مما راحت شاحنة الجنود. ليس هناك أحداث في اللوحة !! أمامنا سحنة لاحساس يحدث مرة واحدة في العمر. أمامنا نساء منكوبات وحياة تقدم احدى
نتائجها. أمامنا توزيع صارم لمعايير دقيقة في الرسم ... بلاغة ملونة لاعادة ادراك الحياة.
جسدت اللوحة نموذجا مركبا للمروءة والحب اللامتناهي للمرأة, فعبر عشرين عاما من البحث, وصل الفنان الى نموذجية نادرة حملت في تكوينها حلولا لونية شديدة الانتباه لضرورات الشخوص. بهذا شحذ مايسنكا كل انتباه المشاهد في هيئة النسوة الخارجية وبنائهن الداخلي. فمن حالة الاستماع الى أخبار الحرب المشوبة بالخوف والترقب, في الصيغة الأولى للوحة , الى حالة الفراق في الصيغة الثانية , تتصاعد مناسيب الحزن وتتوتر أبعاد الجسد الذي يستجيب لفرشاة الفنان الى حدود قصوى. في كل مرة وعبر الصيغ الأربع, عالج الفنان الموضوعة نفسها, وفي كل طريقة من الطرائق ثمة جديد.
لقد نقل موضع العجوز من مكان الى آخر, في الأولى كانت على اليمين تنظر الى حزن الأخريات سارحة, على عادتها, بحوارها الداخلي مسبلة الذراعين. في الثانية رسمها على اليسار وقد ولت ظهرها كمن لا يجرؤ على المواجهة. في الثالثة زجها في وسط المحنة. في الأخيرة يعيدها الى مكانها الأول, على اليسار, وقد أتعبها الحزن مطوية الذراعين, محنية الظهر أكثر مما كانت. أن صياغة الشكل واللغة الجمالية بالنسبة للفنان مايسنكا هو عمل قبل كل شيء على محتوى وفلسفة العمل الابداعي ذاته.
ترتبط الأشكال والتفاصيل في لوحاته بتخطيط واضح عن مقارناتها اللونية وتبادل شفافيتها. اذا استطعنا أن نقاوم استلاب الحزن الذي تشيعه اللوحة نجد أن الوحدة العميقة لا تكمن في وحدة الشعور العام الذي تتبادله الشخوص, انما في التبادلات اللونية غير المحدودة والاضاءات المجهولة المصادر التي تجول بين الشخوص, في الزوايا, بين الأصابع تقطع العتمة بدون اعارة اهتمام الى منطق الطبيعة... هنا منطق واحد يسود اللوحة ..انه تتابع الضوء والظل وتبادلهما للأماكن.لا يمكن للمشاهد الاستقرار على شخصية واحدة فهي تحيله الى جارتها باسترسال أحيانا, وفجأة أحيانا أخرى, كمن يتابع طائرا ضوئيا لا يني يتجول مذعورا, وبسبب تنقله هذا بلغ التضاد بين سحن الألوان الى أقصاه. لقد وسم مايسنكا أشكاله الصلبة بالقلق.
لوحة " الأمهات, الأخوات " تستوقف المشاهد بعيدا عنها وتبدأ هي بالاقتراب منه مثل موكب اسطوري لمأساة تاريخية تفيض هما وأسى. حالتها تخترق النفس الى جهة شفافة فيها, الى ضمير جديدا يتشكل في ذات المشاهد منذ اللحظة الأولى .. ضمير كبير يشبه التاريخ . بنيت اللوحة على مبدأ المساحات اللونية المفتوحة التي تمنح الموضوعة تعددا لونيا متناغما ومعقدا في نفس الوقت بفعل تداخلاتها. أكبر شخوصها وأصغرهم يردد لحنا أساسيا واحدا.
غلب على اللوحة لون التراب البني المحروق والرمادي الرطب . حتى الأحمر الذي
الأمهات , الأخوات - الصيغة الثالثة – 220/150 سم- مقطع -
ترتديه احدى الفتيات لم يعد أحمرا. الأفق العالي فيها يحجب السماء الا في زاوتها اليسرى, وتبدو رصاصية باردة فيها بعض من زرقة فارقتها منذ الحرب. المنظر في عمق اللوحة مرسوم بعمومية بعيدة عن التفصيل, انه خلفية للموضوع, لكنها ليست مجرد ألوان لحل معضلة الفضاء, بل بيوت فلاحين خشبية متناثرة في أرض تزداد عتمة كلما دنت من أفقها. في الأرض على اليمين حفر قنابل مثل وجه مجدور. وحدت الأرض الترابية أشكال النسوة وعفرت بغبارها أقدامهن العارية, وامتزجت بالثياب, وتقاطعت مع الأجساد, وشكلت ظلالا هنا وهناك أو تجسدت أقداما بلون باهت ( قدمي الفتاة ذات الرداء الأبيض في أقصى اليسار ), أو بلون الفحم كما أقدام العجوزين في المقدمة.
مايسنكا فنان ثر الألوان, مفرط الحساسية يلون الضياء بالضياء, والعتمة بالعتمة !! لقد اغترف من تجربة الرسم السوفيتية الرائدة, في العشرينات من القرن الماضي, أنقى تقاليدها الجمالية, والتي تمثلت في ابداع عملاق الفن الروسي " ديينيكا 1899- 1969" المتميز بانشاءاته اللونية المركبة, وغنائيتة الروسية الساحرة.
جمع مايسنكا في حدود العمل فيالق من الخطوط موحدا بها أقسام اللوحة بفعل سجيتها العفوية, وهي خاصية فرشاته طويلة الأثر. يتمدد أثرها أحيانا على طول الجسد, لا حدود لحركتها. لونها غير صريح, فهو ما أن يتشكل حتى تغيب حافته في اللون المجاور. حافة اللون : شريط من النقاط والخطوط التي يخلفها شفر الفرشاة الخشنة. فرشاة مشبعة بالزيت الناشف مثل الكلس, لكنها لا تهمل التفاصيل الرقيقة بل تتوقف عند أكثرها تعقيدا وتعتني بالملامح بل تبحث عنها في الأماكن المزدحمة بالألوان. فرشاة ايمائية تعول على فطنة المشاهد في التعرف على الشكل الانساني من ملمح بسيط.
لا يفطن المشاهد على الحرفية العالية في رسم مايسنكا من الوهلة الأولى لأنه يغرق في الاحساس العام ويجرفه سيل الأجوبة التي تلقيها اللوحة عند وجدانه. أن عظمتها ليس فقط في بنائها وتلوينها , انما في معناها الحياتي, وفي قوة البرهان على عظمة الأمومة.
من هؤلاء النسوة ؟؟
العجوز الطويلة..تلك الشخصية النموذجية الرئيسية في اللوحة, هي أمه. تودع الجنود بيد يابسة خشنة لا أحد غيرها يجرأ أن يرفع يدا, وحدها لم يأخذ الفراق كياستها فهي ما زالت تحتفظ بأطراف أمل خاص طرزته أعوامها مثلما طرزت جبينها بالتجاعيد. تذهب الناقدة السوفييتية " كيكوشيفا " الى اعتبارها رمزا للوطن : ثابتا, شامخا, متماسكا في محنته !! ليكن للناقدة ما تريده فالشخصية, فعلا, ذات جلال يثير الاعتزاز, ولكن من منهن لا تشبه الوطن ؟؟
الملابس الغامقة للنسوة في مقدمة اللوحة, قوية كامدة تحبس النفس. في قيافتهن أصالة روسية, وفي وجوههن عيون تتوقد من الغيض. ابداع مايسنكا مليء بالمألوف الحياتي, ففي هيئة النسوة قدم اكتشافاته لذوات معنوية مألوفة سلك اليها أقصر الطرق وأعقدها وأكثرها مشقة : طريق التجربة المباشرة, ومعايشة الأحداث. أن الشخصيات التي رسمها ليست من صنعه, بل مواطنون عايشوا المصيبة, وشهدوا عليها : ناستاسيا ديمتروفنا, فيرا, لوبا, وأم الفنان نفسه.
العجوز والممرضة – الصيغة الرابعة - مقطع
الشخصية المعبرة للمرأة الشابة في أقصى اليمين, سحقتها المصيبة, يدها السميكة المعتمة تفصد لحمها عند الزند بفعل أكمامها الضيقة, توحي بقوة الصمت الذي يملؤها, تضغط بين أصابعها منديلا, في ملابسها كل الظلال الخفيفة للأزرق والبني ودرجات الأخضر الترابي ...وبمجموعها مثل بحيرة راكدة المياه يعوم فوقها ضباب صباح خريفي. لقد تفردت وحدها بكل هذا التلوين ذي الانسجام الساحر, وبحزن يخسف الأرض من تحتها.
" نساء " مايسنكا لا ينظرن للمشاهد انما الى ما وراءه. انهن وجها لوجه مع التاريخ يقرأن أيامه بضجيج داخلي عالي النبرة. من المميز أن بعض النساء لهن مكانتهن الأثيرة في نفس الفنان !! وحافظن عليها في أغلب الصيغ . الفتاة النحيفة / الممرضة, ظهرت في الصيغة الأولى, والثالثة, وفي الرابعة حافظت على مكانها الأول : في خلفية الصورة آخر الناس. واحدة فقط ظل حضورها أساسيا في كل اللّوحات : المرأة العجوز , في أقصى اليسار, التي نمت شخصيتها دون تغيّر يلمس في هيئتها. ظلت ترتدي ملابسها الصوفية الغامقة , حافية القدمين. في هيئتها المتجهمة تركيز شديد وصحو يليق بعمرها. خلف ظهرها تلوح الممرضة مثل شراع لملمته الريح, ذراعاها طويلان, جسدها منبعج على جنب, فيها شبه كبير من شخوص مودلياني. يقول عنها الفنان المولدافي م. كريكو "..أنا أشعر بنزعة الفنانين وحاجتهم لاعطاء الحركة والتكنيك أهمية بقدر ما يعطون التجديد من أهمية, وأضرب مثلا على ذلك لوحة " الأمهات , الأخوات " في جانبها الأيسر شكل فتاة مرسومة ليس بالشكل الطبيعي , ولكني عندما أشاهد اللوحة أشعر أن فيها كل ما هو ضروري للانسان... كل رقة الكائن الحي . بأية وسائل جسدها مايسنكا ؟؟ من المستحيل أنه مدها أو يكون قد ضيقها الى هذا الحد الذي غدت فيه قصبة رقيقة. هيئتها الى جانب النساء الحزينات اكتسبت بصورة غير عادية رنينا مثيرا للعواطف.." خلف الممرضة, على مساحة مضيئة من الأرض, عادت بعض الأمهات مع أطفالهن للعمل بعد الوداع .. انها الأبعاد التي يشرف عليها مايسنكا : حياة واسعة ومتجددة, لكنها تبدو في ظرف مثل هذا صغيرة وبعيدة, لكنها ومع ذلك مرئية هناك, قريبة من الأفق وما عليك الا أن تنظر بعيدا خلف المحنة. أضفت هذه الموضوعة الصغيرة احساسا جديدا على العمل, ووسعت صدر المحنة قليلا.
الشخصية النموذجية الأخرى هي شخصية الفلاحة في منتصف العمر, في وسط المجموعة, بين العجوزين, تشكل تصعيدا رأسيا لمناسيب الغضب. نظرتها تخترق الرصاص. هيئتها الريفية ذات قدر عال من التعبيرية, لها كفان سوداوان متقرنان, تشد
الفلاحة – مقطع – الصيغة الرابعة
بحرقة الى صدرها صرة متاع تأخر عن صاحبه, تلف رأسها بوشاح صوفي سميك يغطي فمها المزموم بشدة الا من زاويته اليمنى. عيناها حجريتان. وحدها تنتعل حذاءا تعظم جلده, معطفها طويل اسود يغطي ثلثي جسمها, تحته ثوب رمادي أخذت الريح بأذياله جانبا. ..لقد حظيت بتلوين غني ذو سحن حساسة كشفت عن تفاصيل ملابسها ووجدانها. وراؤها, في الصف الثاني من المجموعة, تقف شابة أصغر عمرا منها تلبس قميص رياضة أحمر, طويلة ومتينة البنيان, تسحب ذراعها الأيسر الى وسطها بكفها اليمنى. كف قوية وكبيرة. لها وجه صارم لا يجرحه السيف.
" الأمهات, الأخوات " واحدة من القمم الابداعية التي بلغها الفن الروسي في الفترة السوفييتية, والتي تنتمي بجدارة الى قمم الفن العالمي ذو النزعة الانسانية, وهي تقف شاهدا تاريخيا الى جوار اللوحات العظيمة " الدفاع عن بتروغراد " للفنان ديينيكا, ولوحة " قرار القوميسير " للفنان شموخين, ولوحة " موت القوميسير " للفنان بتروف فدكين... والتي يقول عنها مايسنكا .."هذه الأعمال لا تتزحزح من مكانها التاريخي, انها حية, تقلقنا ليس على مواطنتنا فحسب, انما على حداثة لغتنا الفنية " . والأمر يعني " الأمهات, الأخوات " تماما