دخل فنان الشعب " مايسنكا " تاريخ الفن السوفيتي والعالمي كرسام متعدد الأساليب التعبيرية, ومبدع لسلسلة عظيمة من الأعمال التاريخية, فهو يتميز بتجربة ابداعية غنية ومتعددة الأشكال. لوحاته, مفرحة كانت أم مقلقة, تثير تداعيات شتى وتخلق انطباعا خاصا بها, بفعله يدخل المشاهد مشاركا مرسوما في لوحة الأحداث. بكلمات اخرى, أن رؤية الفنان المستندة الى المعرفة العميقة بالحياة, والطباع البشرية, والأحداث التاريخية, تصبح رؤية للمشاهد نفسه بفعل وضوحها العالي وصراحتها.

ان الانطباعات المركبة لمايسنكا , المترجمة بخامات حية في لوحاته, تحفظ دائما شعورا بواقعية اللحظة, بواقعية الأحداث الخالدة التي تصدى لها في رسمه والعواطف الحية للانسان والانفعالات المأساوية العميقة. لوحاته التي يكتسي فيها الأبطال قوة معنوية مؤثرة, تظل في ذاكرة المشاهد ,فرحا كانت أم مأساة, لكنها دائما تظل ذاكرة سامية لا تغرق في مجرى الأحداث اليومية.

أسس مايسنكا فنه على قاعدة صلدة قوامها تقاليد الواقعية الروسية الاولى قبل الثورة البلشفية وتقاليد الفن السوفييتي بعدها, وما توصلت اليه التكعيبية والتعبيرية الأوربية من قدرة على التعامل مع الأشكال, وشيد وعيه مسلحا بقناعات الواقعية حتى غدا واحدا من عمالقتها الكبار وحجة من حججها.

غطت أعماله بقدراتها التعبيرية العالية وبأدواتها الفنية الثرة مساحات شاسعة من الحياة الاجتماعية في روسيا وصنع من الذكريات ما يكفي لآلاف البشر. فهو مبدع للوحات التذكارية ( المختصة بتسجيل الأحداث التاريخية) ورسام لأعداد كبيرة من اللوحات الزيتية ومناظر الطبيعة والبورترية والطبيعة الصامتة. انه ذو تعدد مذهل في تجسيد مواضيع الحياة وتصوير الوقائع. الوطن, الانسان في أرضه, هي الموضوعة الرئيسة لأبداعه. ولهذا ركز الفنان جل اهتمامه على اللوحات ذات الشخوص العديدة (الملحمية) لتجسيد الأفكار الاجتماعية للأحداث المرسومة.

في ابداع مايسنكا, وفي هذه اللوحة بالذات, وحدة متينة بين التاريخ والحاضر... لذلك تنزاح عن كاهلنا السنين وتخلي مكانها للمحنة التاريخية لتحيا متمددة حتى لحظتنا الراهنة. انها لا تعيدك الى الماضي, انما تستدعيه اليك بأيامه الهرمة, وروائحه, وحنينه.

في عام 1967 أنهى مايسنكا لوحته " الامهات, الأخوات " وخلفها تراصفت عشرون سنة معفرة بالضنى, وامامها يقف مئات الزوار كل يوم, وكنت محظوظا أن أكون واحدا منهم....اختارت اللوحة لغتها التشكيلية الخاصة, لغة ذات مذاق حاد تخمرت طويلا في أعماق روح الفنان وفي عقله. في دنان فخرتها الحقائق الملتهبه. الأحداث المعاصرة لحربين, الأهلية والحرب الوطنية, عيّنت العديد من الموضوعات الابداعية لمايسنكا. فمنذ السنين الاولى بعد الحرب طوت أعماله قدرا عاليا من مأساوية التاريخ وهي تطفح بعواطف انسانية رفيعة. في أعمال السنوات العشر الاولى لابداعه "الحرب الوطنية-1956" , "الحصان الأول- 1957" صور فيها الفنان العصر ببراعة فذة كما لو أن الأحداث الاسطورية ذاتها قد أعيد بعثها في انطباعات الوجوه وشخصيات الأبطال وديناميكية الانشاء





نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

دراسة بالحبر الأبيض





الأايقاع لون والخطوط, ديناميكيتها, توترها, وتناغمها, شكل الطابع العام لأعماله المخصصة لحياة ومآثر" الجيش الأحمر, ونافخي البوق, والمحرضين الثوريين", لكنه في النصف الأول من الستينات تحول الى معالجة رمزية للموضوعات تنطوي على أفكار فلسفية: تأمل في مصير الانسان, في الصداقة, وفي العلاقة الاولى بين الانسان وأرضه الام. الأمثلة على ذلك كثيرة في ابداعه.."يسينن والبيت – 1964 ", "الرفيق", "الأرض" 1965 .

في الرسم وقف الفنان على طريق الاكتشاف الصعب/ طريق البحث الجمالي,

فالصياغات التشكيلية , وحدها, تذكر الفنان بالصلات الوثيقة بين شخصيات الموضوع

وبالمحتوى التأثيري للعمل الفني. الأفكار, الانفعالات, الذاكرة, الاحساس بالحياة نفسه

يضيف ويوسع البدايات الاولى لتصورات الفنان عن الأغوار العميقة لأبطاله وعن بناء

لوحة المستقبل. يقول مايسنكا : " العمل في نهاية المطاف ليس في اختيار الحدث,

المسألة أوسع من هذا بكثير, وهي : أي البواعث تحملت الفنان على اختيار هذه

الموضوعة بالذات؟ ..هناك أمر شخصي ينمو الحدث بسببه الى مشكلة, وثمة مشكلة

لا ترتفع أعلى من حدث عابر ..كل هذا مرتبط بالفنان, باهتماماته, بحميته, وبالتأكيد

بأدواته الحرفية



قضى الفنان أعوام الصبا قريبا من الأرض مما حدد في حياته الاحقة مجموعة مواضيع لأعمال كثيرة : " أتذكر نفسي طفلا في قرية بيلاروسية نائية – أوفارافيتش - واقفا خلف سور خشبي, وبابتهاج شاهدت قربي فرسان الجيش الأحمر على خيول كساها العرق. لقد بدوا لي كالجبابرة.."

ولد مايسنكا في عام 1916 في قرية " اورافيتش " وهو يكتب عن ذلك اليوم قائلا : "ليلا, وصراخ خشن لطيور قلقة, سماء عظيمة مزدانة بالنجوم, خفيضة, رائحة الأرض, العشب, الصمت, تلك كانت لي اولى دروس الفن.." نشأ الطفل في أحضان أمه – مارينا سرغيفنا – وخاله بروكوفي ناومافيتش.. وبالرغم من الصعاب والبلايا ,كانت طفولته الفلاحية مزدانة. حياة عجيبة وعلاقات سرية مع الطبيعة وأفراح العمل والتربية الجماعية من لدن الناس... راح يعمل في الأرض, استمع الى حكايات خاله عن الحياة, وعرض أولى رسوماته على أمه.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

دراسة بالحبر



يقول عن طفولته: " لدى الناس من جيلي .. سيرة غنية ومشبعة بالأحداث. منذ الصبا سمعت في العائلة من خالي بروكوفيتش, حكايات ساطعة عن الحرب الأهلية, عن المشاهد القتالية لذلك الزمن. كنت شاهد عيان على اشاعة التعاونيات في الزراعة. شاهدت في الريف ولادة نظام مجتمع جديد. أما الحرب الوطنية فهي متاع الانطباعات التي لا تنسى والذي يرافقني دائما. من الذاكرة, من الماضي تأتي الموضوعات المحددة وتنشأ رؤيتي للعالم الراهن والماضي.."

في الرابعة عشر من عمره قدم يفسي مايسنكا الى موسكو, وبعزم ثابت, لدراسة الرسم. أول خبرة تلقاها في المدرسة الفنية- الصناعية السماة "كالينين", وبعدها في أكاديمية الفنون لعموم روسيا, وفي مرسم الفنان والمعلم " اوسيركين"

يوم الأحد, الثاني عشر من حزيران 1941 حين كان طالبا في الصف الخامس بلغته أخبار الحرب وأجبرته على العودة الى قريته في بيلاروسيا :

" كان يوما مشمسا, الكولخوزيون عادوا لتوهم من السوق, تعالت أنغام الهرمونيكا, وغنيت التشاستوشكا..." وذكر مايسنكا كيف غيّرت الحرب نساء القرية فجأة. على نداء الوطن وفي اليوم الثاني ذهب الى الجبهة ..واليها ودعته امه وأخواته.

مرت السنين, ومرة بعد اخرى, تطفو على ذاكرته تلك الطريق الترابية والدموع الحارة للنسوة. " الجنرال دفاتور, عام 1947, لوحة التخرج" كانت اولى لوحاته عن الحرب الوطنية. فيها تسبح ذكرياته عن ذلك الزمان المعفّر بالبارود ونكران الذات والفداء السامي. التقشف اللوني الصارم, الملامح الواضحة للأحداث, البناء النفسي للأبطال ونصبتهم هي الخصائص الداخلية التي وحدت أعماله, والتي استمرت وتطورت في أعماله الاحقة. يقول مايسنكا : " في ظروف الحرب حيث كل شيء قصيّ, متوتر, حيث لا يبقى مكان للتفاهات, للمنافع, يتجلى جوهر الانسان, طباعه, وأخلاقيته ورغباته الروحية, وباختصار كل الانسانية تتفتح في الانسان وبامتلاء تام.."

في لوحاته عن الحرب يكشف الفنان حالات وأحاسيس الأبطال الواقفين في الطليعة بمواجه الموت عندما يسيطر على الانسان ادراك حاد لحياته, وهي محاطة بالخطر بعيدا عن الأهل. " ألأرض..ومرة اخرى, ألأرض التي يعيشون عليها والتي تمدهم بالقوة.." هكذا يصف الفنان عظمة أبطاله وأسرار شموخهم.



نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

تخطيط – حبر -



من أجل لوحة " المهات, الأخوات " أنجز الفنان مجموعة كبيرة من دراسة الوجوه "البورتريت" للنساء زمن الحرب, جاعلا منها رموزا للوفاء وموحدا تصوراته عن المرأة والوطن. التجربة الصيفية قبل التخرج قضاها الفنان في قريته. في يوم صيفي بدا فيه بهيأة مهيبة, انه يوما للزفاف. الأنباء عن الحرب كأنها رعود في سماء القرية فجعت كل الناس. يتذكر مايسنكا الوجوه المضطربة لأخيه وخطيبته, الفتيات والممرضات. وجوه مخطوفة, لكنها قادرة أن تضيء الذاكرة من مسافاتها البعيدة. يتذكر شهر العسل الذي قضاه وحيدا في الملابس العسكرية.

في تلك الأيام انبثقت الأفكار الاولى للوحة, وحفرت الأحداث خطوطها الخشنة في قلب الفنان, ولكن ما تحقق في تلك اللحظات استغرق عشرين عاما كي يولد. كانت الدراسات الاولى تدور حول سوق الكلخوز: لوحة متوسطة الحجم تعطي مسحة عامة لحياة السوق. لقاء سكان القرية في بداية الحرب بسحنة رمادية. فيها نساء مع أزواجهن, وصيادو أسماك, وفتيات بملابس العرس البيضاء. لوحة مرقشة لحشد طويل متعدد الألوان يحيط بأحد الباعة....هناك ما يجمع الناس الى بعضهم !!

لقد غدا هذا المناخ شرطا لانشاء اللوحات اللاحقة , و فكرتها المركزية. تميزت التخطيطات الاولى باسترسال لا تقطعه الا حدود اللوحة, بالكاد, فيما أمست في الدراسات المتقدمة أكثر دقة و ملموسية. بدأت تظهر النماذج بخصائصها المتميزة من وسط هذا الحشد الهائل من الشخصيات, الممرضة في الوشاح والملابس البيضاء ذراعاها مسبلتان بارتباك , استقطبت لدى الفنان كل وجدانه الابداعي .

لقد شغل مايسنكا كيف يمكنه اعطاء اللحظة المرة لوقوع الحرب في قريته ؟ وكيف يمكنه استعادتها بعد عشرون عاما ؟ لهذا وجد في شخصية الممرضة, الوجوه الفلاحية, أشكال النسوة القرويات التي تعج في ذاكرته, في فجيعتها وصمتها الدرامي المحكم عثر على خزين لا ينضب لعكس أفكار وأمزجة مئات الناس من ذلك الزمان.

كشف الانفعالات الانسانية العميقة في أوقات الهلع الكبير والمحنة, أصبح هدف الفنان.

ظهرت أولى صيغ " الأمهات, الأخوات " في لوحته الكبيرة ألأولى " عند بوابة الكولخوز " المرسومة في عام 1966, وهي محصلة الدراسات الملونة ألأولى في سوق القرية. احتفظ التكوين وخارطة ألألوان بخصائصها وتغير مبدأ البناء. تغير مكان المركز ففيه بدلا منه حلت مجموعة النساء وهن يسمعن الأنباء من مكبر صوت شد الى عمود كهرباء.

تفترض اللوحة تأملا طويلا, هو انعكاس مباشر لحالة التأمل التي غرقت فيه الشخصيات, فالكل ينصت لخطوات الحرب. اللوحة , ومنذ اللحظة ألأولى, لا تتأخر عن المشاهد في تعريف نفسها : طريق ترابية واسعة, رياح جافة, ومجموعة من النسوة محكمة الرص تقف حول عمود كهرباء يظهرن على خط واحد. أنظارهن تحوم حول جندي ولى ظهره للمشاهد. في الأفق البعيد, على التراب خلفت العجلات آثار واضحة وأكثر وضوحا منها انفعالات الوداع الحية, فعلى الوجوه تعبير لم يفقد طراوته بعد, نظرات غائبة تخفي دموعا, وتبرر حيرة العجائز, أمهات الفلاحين/ الجنود وأخواتهم وزوجاتهم.

يكتب مايسنكا .." أتذكر كيف ودعتني أمي الى الجبهة كجندي عتيد, ورغبت في حينها لو يتجمد كل شيء...في البداية كل شيء كان كبيرا, ومن ثم أخذ يصغر رويدا, رويدا حتى تلاشى. خلف الأفق اختفت النسوة...ومثلما تستوطن ذكراهن في روح الجند, يستوطن الحزن والشجن والآمال.."




نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
عند بوابة الكولخوز – الصيغة الأولى -257/200 سم - المقطع الوسط-


من اجل استعادة تلك اللحظات كرس مايسنكا نفسه. في الطريقة ألأولى " عند بوابة الكولخوز " الشخوص النسائية تطفوا على ذاكرة الفنان وتملأ فضاء اللوحة. تظهر في الخلف قطعة صغيرة من السماء ضبابية اللون تلوذ تحتها مجموعة من البيوت الخشية على أرض مظلمة. على يمين اللوحة, في زاويتها العليا, مجموعة من الخيول الضامرة. أجساد النسوة لا تكاد تتمايز الا ببعض الاشارات اللونية. الأيدي التي لوحتها الشمس, وأطراف المناديل الأرجوانية, والملابس الغامقة المبقعة تستكمل المعالجة اللونية والفكرية لأهم أجزاء اللوحة..بل موضوعها الأساس.

العجوز النحيفة الطويلة ظلت واحدة من الشخصيات المهمة وذات حضوة, فقد استأثرت باهتمام خاص, وجاءت بدون تغيرات في الطرائق الثلاث الأخيرة.

الشيخ الطاعن في السن, في مركز اللوحة, مرسوم من الخلف يحمل غدارته. انه الرجل الوحيد فيها, ربما كان الوحيد في القرية كلها !!.يبدو غريبا بهيأته العسكرية التي تحمل بعض عناصر التمدن. انه اختصار وحل مقتضب لاحدى معضلات اللوحة الفكرية, ولهذا السبب, على ما يبدو, تخلى عنه الفنان في الطرائق الاحقة.

النساء فقط ... وحدهن, موضوع البحث النفسي والجمالي!!

استغرق العمل في الصيغة الأولى " عند بوابة الكلخوز " أكثر من عام, في ثناياها ولدت الحلول التشكيلية التي حكمت اللوحات الثلاث الأخرى..." اللوحة لا تولد كما يجب مباشرة, بل تأتي حلولها التشكيلية تدريجيا بعد عناء طويل يرهق الفنان.." هكذا يرصد مايسنكا نفسه أمام لوحته.

عشرات الدراسات التمهيدية التي كرسها الفنان للموضوعة, والتي احتوت على مئات التخطيطات بالحبر والقلم للشخوص والتفاصيل ودرجات اللون...تكشف جغرافية البحث المترامي الأطراف, بحثا عن امكانات الشكل الانساني على التعبير. يقول الفنان : " في عملي الابداعي ليست هناك أية دراسة تمهيدية يمكن الاعتماد عليها لتكون وحدها صورة.." لكل شخصية من شخوص اللوحة بناؤها الخاص, خصائصها التشكيلية وعالمها الروحي. كل واحدة منهن تحمل مبررات وجودها.. في هذا المكان وبهذا الحجم على سطح اللوحة, وفيهن من الضرورات ما يلجم التاريخ. انه نظام معقد , ولا ريب, محكوم بشروط فلسفية مترابطة تهدي الفنان في نهاية المطاف الى بناء فكري وجمالي لمجموع اللوحة.



نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

أم الفنان – تخطيط بالقلم -






يتبع