نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
غابت خلف أعواد الشجر اليابس, رغم أنها تراءت لي بحلةٍ بهية, لكنها حين أحست بهشيمي الذي يحترق, ذوت عامدةً متعمدة, وانطفأت هي قبل أن تحرقها ناري, لا أدري لِمَ الهروب مما نجهل؟ حاولت الجري خلفها, فصدتني دونها حقولٌ من الياسمين, وأشجار تفاحٍ وقفت سامقة ً في وجهي ووجه الريح التي حملتني, أدركت حينها أني لست قوية ً بما يكفي لأواجه هذه الدنيا, الدنيا التي لا زِلتُ ألاحقها فتهرب مني كما يهرب الماء من تخلللات أصابعي.

كنت كلما أصبح الصبح, أغسل وجهي بنور الحضور البهي لأمنيات الطفولة, كنت أملأ أكواب القهوة بالأحلام حتى تفيض وتنسكب هادرةً كالبحر, وأصفف الأحجار على عتبة بيتنا علها تدل الفرح على طريقي, علَّ الحزن يصوم ثانية ً عن التنكيل بي, علَّ القلوب التي سكنت بلادي تحن وترق وتصفو مداركها.

طائف الأحلام لا يترك باباً إلا دقه ولا جسراً إلا عبره ولا قلباً إلا ملكه, لكنها أشواك الطريق تحول دوننا ودون أحلامنا, وأسوار النفس التي تركناها تلهو في دواخلنا صغيرة ً خجولة, قد فاجأتنا بعلوها, وأقامت لها مُلكاً مرعباً في أرواحنا, فاكتشفنا استحالة العبور عبرها, أو التحليق فوقها, أو اختراقها بأي قوةٍ قد تحتويها أيادينا الضعيفة, الخوف من قدرتنا على الإستمرار, الخوف من نفاد طاقة الأمل فينا, الخوف من المقبل الذي ينتظرنا من الأيام, الخوف من الخوف نفسه أن يتملكنا, وكم هو قاسٍ الموت خوفا!

سمعتهم يوماً يقولون أن الريح لا تعبأ بضعيف العشب, لكنها تهابُ أشجار النخيل الشامخة, قد تتغير ملامح أرضٍ إن حوت فيها ذواتاً عنيدةً مثابرة, لكن أيَّ أرضٍ تحوي الذليل من العشب لن تصنع فرقاً في طريق الرياح! لا شيء سيتغير فيها, فإما أن نكون أشجاراً تستحق الوقوف بوجه الريح أو أن نموت قبل أن نصبح العشب الحقير, الذي أن واتته القوة لم يبلغ مجداً إلا أن يكون هشيماً تؤجج به نار القدور الجائعة.

متى ما توقفنا عن الجري خلفها, متى ما التفتنا لكل جميلٍ حولنا, حينها ستكف الدنيا عن الهروب منا, وحينها فقط نستطيع أن نتبين ملامح الأمل بكل تفاصيله, لأننا حينها سنكون قد أغمدنا جذورنا في أرضٍ قوية ووفية, واستطعنا الوقوف على أوتادنا والتحليق بأحلامنا , وصرنا نِعْمَ الند, الند الذي تحبه وتخشاه رياح التحدي!


أ س ا و ر قلم ..