في ليلة غدرٍ تعودتها من البحر.. أتت عاصفة قوية.. لم تحتج إلى الكثير من الوقت لتحطم وتكسر في سفينتي مايكفي لاغراقها.. تسارعت الأحداث المؤسفة.. برق ورعد.. أمواج متلاطمة.. أصوات تحطم هنا وانفجار هناك!.. ساعات بل دقائق معدودة مضت على هذه العاصفة كانت كفيلة بتحطيم تعب سنين وآمال سنين وأحلام كثيرة في سفينتي.. حياتي! ،،، رفاقي يختفون بشكل مفاجئ وغير منطقي!.. اعلم أنهم لم يغرقوا.... اعلم ان سفينتي لن تصمد طويلاً اما هذا الطوفان.. ولكن أين رفاقي بالسفينة؟ لماذا تركوني في محنتي؟ لماذا اواجه هذه الأهوال وحدي؟.. لم تمهلني العاصفة الكثير من الوقت للتظلم والبحث عن تفسير منطقي لما يجري.. فقد بدأت فعلياً بتحطيم اطراف السفينة.. انطلقتُ باتجاه مقصورة القيادة.. كان الطريق إليها صعباً ولكن كنت مصراً على ان أذهب لانقاذ تلك اللوحة! دون أن اعلم مالذي يحملني على فعل ذلك.. وبين تلك الأمواج.. وتحطم اطراف السفينة بشكل متساارع.. واصوات الرعد والانفجارات المتتالية هنا وهناك.. استطعت ان ادخل المقصورة واخطف اللوحة وانطلق باتجاه قوارب النجاة..
في استمرارية للأحداث المخيفة التي تحصل لي.. نزلت بقارب النجاة ومعي تلك اللوحة التي انتظر منها رسالة البحر إلىّ.. او تنتظر مني فك شفرتها ورموزها.. المهم انني اخذتها.. واخذت ابحر بقوة عجيبة.. قوة من يخاف الفناء!.. وبينما انا كذلك إذ رأيت تلك السفن في اماكن ليست بالبعيدة عني.. أصوات الغناء والطرب تملأ جنباتها.. والأنوار وبوادر الحياة السعيدة تبين انها لاتعلم شيئاً عن معاناتي!
انني اموت.. سفينتي تغرق.. لماذا لا يأتي هؤلاء لانقاذي؟ لماذا يستمرون في حياتهم ولهوهم بينما أنا اعيش التعاسة والعذاب؟.. انني اموت!.. لماذا.. لماذا تستمر الحياة بدوني؟!.... مهلاً.. لماذا لاتؤثر هذه العاصفة على بقية السفن والبحارة؟؟ أم هي مرسلة لي انا ولسفينتي دون غيرها؟.... مرة أخرى لاتمهلني العاصفة الوقت للتساؤل والتفكير.. وأخذت الرياح تلعب بقاربي الصغير.. حتى أيقنت بنهايتي.. نظرت إلى اللوحة ثم قلت: كنتُ أظن ان البحر أرسل فيك إجابة على تساؤلاتي.. او بالأصح كنت أظن انني قادر على فك رموزك وفهم رسالته.. ولكنه أراد قتلي قبل ان اعرف.......
موجة كالليل تبدأ بي ليلاً طويلاً ... جداً..!
.
.
.
.
.
أفقت من غيبوبتي وانا مرميّ على الشاطئ.. قميصي ممزق.. يوجد جرح قطعيّ يملأ صدري بالدماء.. نهضتُ وأخذت امشي مترنحاً على رمال الشاطئ.. هه فأنا دوماً أحب المشي حافي القدمين حين انزل للشاطئ! .. أخذت انظر للبحر نظرة الغاضب العاجز المتعجب!.. رأيت سفينتي في الجانب الآخر من الشاطئ.. لقد كانت محطمة تماماً.. حمدت لله انها لم تغرق وكُـتب لي عمر جديد.
بينما أنا كذلك تعثرت ووقعت أرضاً.. نفضت الرمال على وجهي وعن صدري المدمي!.. علمت أن تلك اللوحة هي من اسقطني مجدداً.. نهضت.. ركلت اللوحة بكل قوتي فطارت منها وثيقة مطوية.. أيقنت أنها رسالة البحر التي طالما انتظرتها!..
اخذتها وفتحتها وبدأت قراءة مافيها.. الملفت فيها انها تتآكل بشكل سريع من أسفل.. ويجب علي قراءة اكبر قدر ممكن مما فيها قبل ان يتآكل ويسقط.. بحركاتٍ سريعة تسارعت عيناي في محاولة قرائتها:
ها قد أتاك ردي أيها القبطان.. كان بسيطاً ولايحتاج لفك شفراته كما توقعت.. انا غامض لمن يراني غامضاً وبسيط لمن يريد معرفة اسراري ببساطة..
بالنسبة لك.. لاجديد.. كدت تنتهي كما انتهى الآلاف من امثالك.. وحيداً.. لا أحد يغرق معك.. لا احد يكترث لغيابك.. كل رفاقك بالسفينة يغادرون قبيل غرقك ويكتفون بمشاهدتك من بعيد ثم يبدأون في سرد قصصك وذكر محاسنك مرددين "رحمة الله عليه"..!
إليك الرد على كل ماحدث لك وتذكر ايها القبطان انك محظوظ لأنني لا أرد على كل من يسائلني.. ولتعلم ان كل ما سأقوله لك لايعدو كونه قطرة من بحر فلاتحاول ان تعرف كل شئ!:
قلت في نفسي : لم يكن البحر غامضاً فعلاً.. انا من كان يتوهم!.. ثم تابعت القراءة:
انت ياقبطان السفينة في عالمٍ لاقيمة للفرد فيه!.. فإما ان تغرق واما ان يغرق غيرك.. تعيش في اقسى المواسم.. وأقوى الرياح.. انت تبحر في مناطق اشد خطورة وغموضاً من مثلث برمودا.. فلو كنت هناك لم يكن لك من اعداء سوى البحر.. اما حيث تعيش الآن فالكل اعدائك حتى لو لم يستعدوك.. هم في صراع على من يظفر بك.. ليس لاستعدائك لشخصك.. ولكن هي منظومة متكاملة اسمها البقاء للأقوى.. البقاء للأذكى.. البقاء لمن يريد حقاً أن يبقى..!
لاتتحدث عن رفاق السفينة.. فكل منهم لاهٍ بنفسه وكيفية خلاصه..
ولكن لماذا أنا؟ لماذا يكرهونني؟؟ لماذا يتعمدون اسقاطي وقتلي؟! هكذا تساءلت مشدوهاً.. وأتتني اجابة البحر حين استرسلت في القراءة:
هكذا انتم البحارة.. تعشقون نظرية المؤامرة وبناء الاعداء الوهميين لاشخاصكم وانفسكم ولا تحاولون حتى معرفة اعدائكم الحقيقيين!.. تتفننون في تمثيل دور المظلوم الذي كثر ظٌـلامه وهو الوحيد الصامد في مجابهتهم! كل بحار فيكم يحاول عبثاً بناء عالم خاص فيه... ويعلن حربه ضد من يسميهم حساده والحاقدين على نجاحه!..
الاعداء موجودون ولكن ليسوا اعداء لاشخاصكم.. اعداء حقيقيون.. اعداء لتنظيمكم وتجمعكم واهدافكم – لسفنكم- .. ليتكم تتحدون في مواجهتهم.. ليتكم تحاولون التعرف عليهم!!
سؤال يتبادر إلى ذهني وانا مستمر في القراءة: الاعداء.. الموت.. المؤامرة.. كلمات سوداء!.. ماذا عن الحب؟ ألا يحق ان أحب واعشق؟.. اين الحب من حياتي إذاً؟!.. تابعت القراءة:
انت ياقبطان السفينة تريد ان تحب وتعشق والحب لم يخلق لتعيسٍ مثلك..
أتعلم.. أميرة البحر تريدك ان تعشقها كلها.. ان تعشقها كلك.. ان تعيش لها ولحبها.. تحبك ليس لشخصك ولكن تحبك لتعيش معك قصة حب!
هكذا حبهن.. أنانيّ
هي لاتريدك بخير.. ولكن تريدك معها بخير!
هي تدعو الله ان تعيش "مصدراً لأمانها".. ولا يمكن ان تدعو لك ان تعيش فقط!
مهما بالَـغت في اخلاصها وتفانيها لك باسم الحب فهو ليس لسواد عينيك.. بل لأنك تمثل دور "الحبيب" اللازم في اكمال قصة سعادتها.. دوماً تطالبك بأن تدليلها وتدلعها وان تترك مشاغلك ومشاكلك وآلامك وآمالك.. دوماً تطالبك في غنج ودلال بأن تكون لها وتعيش لسعادتها ولوجودك معها.. تعاتبك ان حدثتها بقصة ما ولم تكن هي البطلة! .. تستغل افتتانك بها وغرقك في لحظات الهيام بها لتملي عليك الشروط اللازمة لاستحقاقك حبها..
هذا كله في حال وجودها معك.. اما حين تفارقك فستبدأ انت دورك في التكشير عن انيابك.. قد تتصنع الحب وتتصنع الوفاء.. ولكن لن يدوم تخفيك وخداعك.. فخيانتك ستبدو للملأ.. ستكابر ككل الرجال وتقول"انا وفيّ ولا اخون".. ولكن انت ككل من يفارق محبوبته:" تخون!".. فأنت بين خيانة من تحب وخيانة نفسك!.. فإن لم تكن تخون من تحب فإنك تخون نفسك وطبيعتك في هذه الحياة.. تخون جسدك وجوارحك!.. تخون انتظارك في انتظار من لايأتي!.. تخون جَـلدك وتحملك في صبرٍ لاتعلم مداه ونهايته.. تخون حياتك بملأها بحبٍ قد يكون "وقتيّ بالنسبة لمن تحب!".. فتكون بذلك خائناً لحياتك ومجابهة اعدائك وتحديات بقائك في هذه الحياة..
الوفاء لمحبوبتك تحدٍ لن تصمد أمامه كثيراُ.. وحياتك بها تحديات واهتمامات اكبر من ان تهملها لأوهام "حب" و"خيانة" و"أميرة بحر"!.. اسمع نصيحتي ايها القبطان الصغير:
لاتعشق فالحب لم يخلق لتعيسٍ مثلك!!
هممت بتمزيق هذه الوثيقة.. فهذا ظلم وتجنٍ سافر!.. ولكن تمالكت نفسي وسألت غاضباً.. ايها البحر.. من انت؟ من انا؟؟! .. تابعت القراءة :
انت ايها المسكين مجرد قبطان واحد في سفينة واحدة في وقت بسيط تبحر وتبحر.. حياتك مجموعة من الرحلات!.. ومصيرك كغيرك.. ستغرق.. انت ايها المسكين إنسان.. والسفينة هي عالمك ودنياك التي تعيش فيها.. وأنا البحر أنا( قدرك).. قد تملك الخيار في تحديد مسارات رحلاتك واهدافها.. ولكنك لاتتحكم في توجهاتها الفعلية.. ولاتتحكم في من يشاركك رحلاتك.. لاتحدد محبوبتك.. لاتحدد اهلك ولا اصدقائك ولا حتى اعدائك..!
انت ايها المسكين قبطان على سفينتك فقط.. وكل فرد من افراد سفينتك هو في الاصل قبطان لسفينته وعالمه ودنياه وانت فرد من افراد طاقمه!..
انت ايها المسكين لاتعلم انني انا قدرك والمكتوب عليك! .. انا من يتحكم في سفينتك ووجهاتها.. والاشخاص الذين يمرون بك في حياتك.. والعواصف التي تعصف بسفينتك وبدنياك.. انت ايها المسـ......
وقفت مشدوهاً وانا ارى بقايا الوثيقة تتقطع أمامي مبللة لا استطيع جمع اطرافها لاكمال القراءة...
رأيت قطعة تتدلى اسفل الورقة.. لقفتها بيداي المرتجفتان.. قطرات العرق تتقاطر من جبيني..
قرأت ماهو مكتوب في هذه القطعة الصغيرة:
ايها القبطان المسكين.. لا اريد كسر مجاديفك وبناء يأس على يأسك..
انهض.. اجمع شتات شموخك.. إبن سفينتك من جديد.. وجِـد لك رفاقاً جدد.. كل شخص في هذا العالم الغبي لايعدو كونه قبطان لسفينته.. كلهم مبحرون مثلك ايها القبطان.. لاتبتئس.. فقط أبحر.. ابحـ........ وسقطت هذه القطعة من الوثيقة!
قطعة أخرى تتدلى من الطرف الآخر ..
لقفتها.. كانت مثنيّـة!
كانت اصابعي ترتجف وانا احاول فتحها.. عيناي تملؤها الدموع.. يكاد يقتلني الخوف ويذهب بعقلي الحماس لمعرفة مافيها..
قرأتها وحروفها القاتلة تتمايل امامي كالموج:
يبدو انك تريد معرفة أكثر مما يجب ايها القبطان....
..................
تساقطت بقايا تلك الوثيقة على الأرض..
رميت نفسي منكباً عليها.. ابعثرها.. انبشها..
اتمتم بحروف يصعب اخراجها من شدة التعب والألم والوجل
سؤال أخير ايها البحر
تساؤل بسيط
مستعطف
أجبني ايها البحر
غداً سيكون أجمل.. أليس كذلك؟!
أجبني
غداً أفضل؟؟
ارحني يابحر
يابحر...
عبــــــــــــــادي


رد مع اقتباس
