لونك المفضل

المنتديات الثقافية - Powered by vBulletin
 

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 30 من 30

الموضوع: قصص عظيمة ومعارك جسيمة

  1. #21
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية جبران حكمي
    عضو موقوف
    تاريخ التسجيل
    11 2007
    الدولة
    الاحساء
    المشاركات
    1,364

    رد: قصص عظيمة ومعارك جسيمة

    يتبع بقية قصة موسى عليه السلام

    نفسية بني إسرائيل الذليلة
    :

    لقد مات فرعون مصر. غرق أمام عيون المصريين وبني إسرائيل. ورغم موته، فقد ظل أثره باقيا في نفوس المصريين وبني إسرائيل. من الصعب على سنوات القهر الطويلة والذل المكثف أن تمر على نفوس الناس مر الكرام. لقد عوّد فرعون بني إسرائيل الذل لغير الله. هزم أرواحهم وأفسد فطرتهم فعذبوا موسى عذابا شديدا بالعناد والجهل.

    كانت معجزة شق البحر لم تزل طرية في أذهانهم، حين مروا على قوم يعبدون الأصنام. وبدلا من أن يظهروا استيائهم لهذا الظلم للعقل، ويحمدوا الله أن هداهم للإيمان. بدلا من ذلك التفتوا إلى موسى وطلبوا منه أن يجعل لهم إلها يعبدونه مثل هؤلاء الناس. أدركتهم الغيرة لمرأى الأصنام، ورغبوا في مثلها، وعاودهم الحنين لأيام الشرك القديمة التي عاشوها في ظل فرعون. واستلفتهم موسى إلى جهلهم هذا، وبيّن لهم أن عمل هؤلاء باطل، وأن الله فضل بني إسرائيل على العالمين فكيف يجحد هذا التفضيل ويجعل لهم صنما يعبدونه من دون الله. ثم ذكّرهم بفرعون وعذابه لهم، وكيف أن الله نجاهم منه، فكيف بعد ذلك يشركون بالله مالا يضر ولا ينفع.

    موعد موسى لملاقاة ربه:

    انتهت المرحلة الأولى من مهمة موسى عليه السلام، وهي تخليص بني إسرائيل من حياة الذل والتعذيب على يد فرعون وجنده. والسير بهم إلى الديار المقدسة. لكن القوم لم يكونوا على استعداد للمهمة الكبرى، مهمة الخلافة في الأرض بدين الله. وكان الاختبار الأول أكبر دليل على ذلك. فما أن رأوا قوما يعبدون صنما، حتى اهتزت عقيدة التوحيد في نفوسهم، وطلبوا من موسى أن يجعل لهم وثنا يعبدوه. فكان لا بد من رسالة مفصلة لتربية هذه الأمة وإعدادها لما هم مقبلون عليه. من أجل هذه الرسالة كانت مواعدة الله لعبده موسى ليلقاه. وكانت هذه المواعدة إعداد لنفس موسى ليتهيأ للموقف الهائل العظيم. فاستخلف في قومه أخاه هارون عليه السلام.

    كانت فترة الإعداد ثلاثين ليلة، أضيف إليها عشر، فبلغت عدتها أربعين ليلة. يروض موسى فيها نفسه على اللقاء الموعود؛ وينعزل فيها عن شواغل الأرض؛ فتصفو روحه وتتقوى عزيمته. ويذكر ابن كثير في تفسيره عن أمر هذه الليالي: "فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة؛ قال المفسرون: فصامها موسى -عليه السلام- وطواها، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين".

    كان موسى بصومه -أربعين ليلة- يقترب من ربه أكثر. وكان موسى بتكليم الله له يزداد حبا في ربه أكثر. فطلب موسى أن يرى الله. ونحن لا نعرف أي مشاعر كانت تجيش في قلب موسى عليه الصلاة والسلام حين سأل ربه الرؤية. أحيانا كثيرة يدفع الحب البشري الناس إلى طلب المستحيل. فما بالك بالحب الإلهي، وهو أصل الحب؟ إن عمق إحساس موسى بربه، وحبه لخالقه، واندفاعه الذي لم يزل يميز شخصيته. دفعه هذا كله إلى أن يسأل الله الرؤية.

    وجاءه رد الحق عز وجل: قَالَ لَن تَرَانِي

    ولو أن الله تبارك وتعالى قالها ولم يزد عليها شيئا، لكان هذا عدلا منه سبحانه، غير أن الموقف هنا موقف حب إلهي من جانب موسى. موقف اندفاع يبرره الحب ولهذا أدركت رحمة الله تعالى موسى. أفهمه أنه لن يراه، لأن أحدا من الخلق لا يصمد لنور الله. أمره أن ينظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف يراه.

    قال تعالى: (وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا)

    لا يصمد لنور الله أحد. فدكّ الجبل، وصار مسوّى في الأرض. وسقط موسى مغشيا عليه غائبا عن وعيه. فلما أفاق قال سبحانك تنزهت وتعاليت عن أن ترى بالأبصار وتدرك. وتبت إليك عن تجاوزني للمدى في سؤالك! وأنا أول المؤمنين بك وبعظمتك.

    ثم تتداركه رحمة ربه من جديد. فيتلقى موسى -عليه السلام- البشرى. بشرى الاصطفاء. مع التوجيه له بالرسالة إلى قومه بعد الخلاص. قال تعالى: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ)
    وقف كثير من المفسرين أمام قوله تعالى لموسى: (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي). وأجريت مقارنات بينه وبين غيره من الأنبياء. فقيل إن هذا الاصطفاء كان خاصا بعصره وحده، ولا ينسحب على العصر الذي سبقه لوجود إبراهيم فيه، وإبراهيم خير من موسى، أيضا لا ينطبق هذا الاصطفاء على العصر الذي يأتي بعده، لوجود محمد بن عبد الله فيه، وهو أفضل منهما.

    ونحب أن نبتعد عن هذا الجدال كله. لا لأننا نعتقد أن كل الأنبياء سواء. إذا إن الله سبحانه وتعالى يحدثنا أنه فضل بعض النبيين على بعض، ورفع درجات بعضهم على البعض. غير أن هذا التفضيل ينبغي أن يكون منطقة محرمة علينا، ولنقف نحن في موقع الإيمان بجميع الأنبياء لا نتعداه. ولنؤد نحوهم فروض الاحترام على حد سواء. لا ينبغي أن يخوض الخاطئون في درجات المعصومين المختارين من الله. ليس من الأدب أن نفاضل نحن بين الأنبياء. الأولى أن نؤمن بهم جميعا.

    ثم يبين الله تعالى مضمون الرسالة (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) ففيها كل شيء يختص بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول الأمد!

    عبادة العجل:

    انتهى ميقات موسى مع ربه تعالى. وعاد غضبان أسفا إلى قومه. فلقد أخبره الله أن قموه قد ضلّوا من بعده. وأن رجلا من بني إسرائيل يدعى السّامري هو من أضلّهم. انحدر موسى من قمة الجبل وهو يحمل ألواح التوراة، قلبه يغلي بالغضب والأسف. نستطيع أن نتخيل انفعال موسى وثورته وهو يحث خطاه نحو قومه.

    لم يكد موسى يغادر قومه إلى ميقات ربه. حتى وقعت فتنة السامري. وتفصيل هذه الفتنة أن بني إسرائيل حين خرجوا من مصر، صحبوا معهم كثيرا من حلي المصريين وذهبهم، حيث كانت نساء بني إسرائيل قد استعرنه للتزين به، وعندما أمروا بالخروج حملوه معهم. ثم قذفوها لأنها حرام. فأخذها السامري، وصنع منها تمثالا لعجل. وكان السامري فيما يبدو نحاتا محترفا أو صائغا سابقا، فصنع العجل مجوفا من الداخل، ووضعه في اتجاه الريح، بحيث يدخل الهواء من فتحته الخلفية ويخرج من أنفه فيحدث صوتا يشبه خوار العجول الحقيقية.

    ويقال إن سر هذا الخوار، أن السامري كان قد أخذ قبضة من تراب سار عليه جبريل -عليه السلام- حين نزل إلى الأرض في معجزة شق البحر. أي أن السامري أبصر بما لم يبصروا به، فقبض قبضة من أثر الرسول -جبريل عليه السلام- فوضعها مع الذهب وهو يصنع منه العجل. وكان جبريل لا يسير على شيء إلا دبت فيه الحياة. فلما أضاف السامري التراب إلى الذهب، ثم صنع منه العجل، خار العجل كالعجول الحقيقية. وهذه هي القصة التي قالها السامري لموسى عليه السلام.

    بعد ذلك، خرج السامري على بني إسرائيل بما صنعه..

    سألوه: ما هذا يا سامري؟
    قال: هذا إلهكم وإله موسى!
    قالوا: لكن موسى ذهب لميقات إلهه.
    قال السامري: لقد نسي موسى. ذهب للقاء ربه هناك، بينما ربه هنا.

    وهبت موجة من الرياح فدخلت من دبر العجل الذهب وخرجت من فمه فخار العجل. وعبد بنو إسرائيل هذا العجل. لعل دهشة القارئ تثور لهذه الفتنة. كيف يمكن الاستخفاف بعقول القوم لهذه الدرجة؟! لقد وقعت لهم معجزات هائلة. فكيف ينقلبون إلى عبادة الأصنام في لحظة؟ تزول هذه الدهشة لو نظرنا في نفسية القوم الذين عبدوا العجل. لقد تربوا في مصر، أيام كانت مصر تعبد الأصنام وتقدس فيما تقدس العجل أبيس، وتربوا على الذل والعبودية، فتغيرت نفوسهم، والتوت فطرتهم، ومرت عليهم معجزات الله فصادفت نفوسا تالفة الأمل. لم يعد هناك ما يمكن أن يصنعه لهم أحد. إن كلمات الله لم تعدهم إلى الحق، كما أن المعجزات الحسية لم تقنعهم بصدق الكلمات، ظلوا داخل أعماقهم من عبدة الأوثان. كانوا وثنيين مثل سادتهم المصريين القدماء. ولهذا السبب انقلبوا إلى عبادة العجل.

    وفوجئ هارون عليه الصلاة والسلام يوما بأن بني إسرائيل يعبدون عجلا من الذهب. انقسموا إلى قسمين: الأقلية المؤمنة أدركت أن هذا هراء. والأغلبية الكافرة طاوعت حنينها لعبادة الأوثان. ووقف هارون وسط قومه وراح يعظهم. قال لهم: إنكم فتنتم به، هذه فتنة، استغل السامري جهلكم وفتنكم بعجله. ليس هذا ربكم ولا رب موسى (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي).

    ورفض عبدة العجل موعظة هارون. لكن هارون -عليه السلام- عاد يعظهم ويذكرهم بمعجزات الله التي أنقذهم بها، وتكريمه ورعايته لهم، فأصموا آذانهم ورفضوا كلماته، واستضعفوه وكادوا يقتلونه، وأنهوا مناقشة الموضوع بتأجيله حتى عودة موسى. كان واضحا أن هارون أكثر لينا من موسى، لم يكن يهابه القوم للينه وشفقته. وخشي هارون أن يلجأ إلى القوة ويحطم لهم صنمهم الذي يعبدونه فتثور فتنة بين القوم. فآثر هارون تأجيل الموضوع إلى أن يحضر موسى.

    كان يعرف أن موسى بشخصيته القوية، يستطيع أن يضع حدا لهذه الفتنة. واستمر القوم يرقصون حول العجل.

    انحدر موسى عائدا لقومه فسمع صياح القوم وجلبتهم وهم يرقصون حول العجل. توقف القوم حين ظهر موسى وساد صمت. صرخ موسى يقول: (بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ).

    اتجه موسى نحو هارون وألقى ألواح التوراة من يده على الأرض. كان إعصار الغضب داخل موسى يتحكم فيه تماما. مد موسى يديه وأمسك هارون من شعر رأسه وشعر لحيته وشده نحوه وهو يرتعش. قال موسى:

    يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) (طه)

    إن موسى يتساءل هل عصى هارون أمره. كيف سكت على هذه الفتنة؟ كيف طاوعهم على البقاء معهم ولم يخرج ويتركهم ويتبرأ منهم؟ كيف سكت عن مقاومتهم أصلا؟ إن الساكت عن الخطأ مشترك فيه بشكل ما. زاد الصمت عمقا بعد جملة موسى الغاضبة. وتحدث هارون إلى موسى. رجا منه أن يترك رأسه ولحيته. بحق انتمائهما لأم واحدة. وهو يذكره بالأم ولا يذكره بالأب ليكون ذلك أدعى لاستثارة مشاعر الحنو في نفسه.

    أفهمه أن الأمر ليس فيه عصيان له. وليس فيه رضا بموقف عبدة العجل. إنما خشي أن يتركهم ويمضي، فيسأله موسى كيف لم يبق فيهم وقد تركه موسى مسؤولا عنهم، وخشي لو قاومهم بعنف أن يثير بينهم قتالا فيسأله موسى كيف فرق بينهم ولم ينتظر عودته.

    أفهم هارون أخاه موسى برفق ولين أن القوم استضعفوه، وكادوا يقتلونه حين قاومهم. رجا منه أن يترك رأسه ولحيته حتى لا يشمت به الأعداء، ويستخف به القوم زيادة على استخفافهم به. أفهمه أنه ليس ظالما مثلهم عندما سكت عن ظلمهم.

    أدرك موسى أنه ظلم هارون في غضبه الذي أشعلته غيرته على الله تعالى وحرصه على الحق. أدرك أن هارون تصرف أفضل تصرف ممكن في هذه الظروف. ترك رأسه ولحيته واستغفر الله له ولأخيه. التفت موسى لقومه وتساءل بصوت لم يزل يضطرب غضبا: (يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي).
    إنه يعنفهم ويوبخهم ويلفتهم بإشارة سريعة إلى غباء ما عملوه. عاد موسى يقول غاضبا أشد الغضب: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ).

    لم تكد الجبال تبتلع أصداء الصوت الغاضب حتى نكس القوم رءوسهم وأدركوا خطأهم. كان افتراؤهم واضحا على الحق الذي جاء به موسى. أبعد كل ما فعله الله تعالى لهم، ينكفئون على عبادة الأصنام؟! أيغيب موسى أربعين يوما ثم يعود ليجدهم يعبدون عجلا من الذهب. أهذا تصرف قوم، عهد الله إليهم بأمانة التوحيد في الأرض؟

    التفت موسى إلى السامري بعد حديثه القصير مع هارون. لقد أثبت له هارون براءته كمسئول عن قومه في غيبته، كما سكت القوم ونكسوا رءوسهم أمام ثورة موسى، لم يبق إلا المسئول الأول عن الفتنة. لم يبق إلا السامري.

    تحدث موسى إلى السامري وغضبه لم يهدأ بعد: قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ
    إنه يسأله عن قصته، ويريد أن يعرف منه ما الذي حمله على ما صنع. قال السامري: بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ
    رأيت جبريل وهو يركب فرسه فلا تضع قدمها على شيء إلا دبت فيه الحياة. فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ
    أخذت حفنة من التراب الذي سار عليه جبريل وألقيتها على الذهب. فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي
    هذا ما ساقتني نفسي إليه.

    لم يناقش موسى، عليه السلام السامري في ادعائه. إنما قذف في وجهه حكم الحق. ليس المهم أن يكون السامري قد رأى جبريل، عليه السلام، فقبض قبضة من أثره. ليس المهم أن يكون خوار العجل بسبب هذا التراب الذي سار عليه فرس جبريل، أو يكون الخوار بسبب ثقب اصطنعه السامري ليخور العجل. المهم في الأمر كله جريمة السامري، وفتنته لقوم موسى، واستغلاله إعجاب القوم الدفين بسادتهم المصريين، وتقليدهم لهم في عبادة الأوثان. هذه هي الجريمة التي حكم فيها موسى عليه النقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي (قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا).

    حكم موسى على السامري بالوحدة في الدنيا. يقول بعض المفسرين: إن موسى دعا على السامري بأن لا يمس أحدا، معاقبة له على مسه ما لم يكن ينبغي له مسه.

    ونعتقد أن الأمر أخطر كثيرا من هذه النظرة السريعة. إن السامري أراد بفتنته ضلال بني إسرائيل وجمعهم حول عجله الوثني والسيادة عليهم، وقد جاءت عقوبته مساوية لجرمه، لقد حكم عليه بالنبذ والوحدة. هل مرض السامري مرضا جلديا بشعا صار الناس يأنفون من لمسه أو مجرد الاقتراب منه؟ هل جاءه النبذ من خارج جسده؟ لا نعرف ماذا كان من أمر الأسلوب الذي تمت به وحدة السامري ونبذ المجتمع له. كل ما نعرفه أن موسى أوقع عليه عقوبة رهيبة، كان أهون منها القتل، فقد عاش السامري منبوذا محتقرا لا يلمس شيئا ولا يمس أحدا ولا يقترب منه مخلوق. هذه هي عقوبته في الدنيا، ويوم القيامة له عقوبة ثانية، يبهمها السياق لتجيء ظلالها في النفس أخطر وأرعب.

    نهض موسى بعد فراغه من السامري إلى العجل الذهب وألقاه في النار. لم يكتف بصهره أمام عيون القوم المبهوتين، وإنما نسفه في البحر نسفا. تحول الإله المعبود أمام عيون المفتونين به إلى رماد يتطاير في البحر. ارتفع صوت موسى: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) هذا هو إلهكم، وليس ذلك الصنم الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.

    بعد أن نسف موسى الصنم، وفرغ من الجاني الأصلي، التفت إلى قومه، وحكم في القضية كلها فأفهمهم أنهم ظلموا أنفسهم وترك لعبدة العجل مجالا واحدا للتوبة. وكان هذا المجال أن يقتل المطيع من بني إسرائي من عصى.

    قال تعالى:

    وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم (54) (البقرة)

    كانت العقوبة التي قررها موسى على عبدة العجل مهولة، وتتفق مع الجرم الأصلي. إن عبادة الأوثان إهدار لحياة العقل وصحوته، وهي الصحوة التي تميز الإنسان عن غيره من البهائم والجمادات، وإزاء هذا الإزهاق لصحوة العقل، تجيء العقوبة إزهاقا لحياة الجسد نفسه، فليس بعد العقل للإنسان حياة يتميز بها. ومن نوع الجرم جاءت العقوبة. جاءت قاسية ثم رحم الله تعالى وتاب. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم .

    أخيرا. سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ. تأمل تعبير القرآن الكريم الذي يصور الغضب في صورة كائن يقود تصرفات موسى، ابتداء من إلقائه لألواح التوراة، وشده للحية أخيه ورأسه. وانتهاء بنسف العجل في البحر، وحكمه بالقتل على من اتخذوه ربا. أخيرا سكت عن موسى الغضب. زايله غضبه في الله، وذلك أرفع أنواع الغضب وأجدرها بالاحترام والتوقير. التفت موسى إلى مهمته الأصلية حين زايله غضبه فتذكر أنه ألقى ألواح التوراة. وعاد موسى يأخذ الألواح ويعاود دعوته إلى الله.

    رفع الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل:

    عاد موسى إلى هدوئه، واستأنف جهاده في الله، وقرأ ألواح التوراة على قومه. أمرهم في البداية أن يأخذوا بأحكامها بقوة وعزم. ومن المدهش أن قومه ساوموه على الحق. قالوا: انشر علينا الألواح فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها. فقال موسى: بل اقبلوها بما فيها. فراجعوا مرارا، فأمر الله تعالى ملائكته فرفعت الجبل على رءوسهم حتى صار كأنه غمامة فوقهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوها بما فيها سقط ذلك الجبل عليكم، فقبلوا بذلك، وأمروا بالسجود فسجدوا. وضعوا خدودهم على الأرض وراحوا ينظرون إلى الجبل فوقهم هلعا ورعبا.

    وهكذا أثبت قوم موسى أنهم لا يسلمون وجوههم لله إلا إذا لويت أعناقهم بمعجزة حسية باهرة تلقي الرعب في القلوب وتنثني الأقدام نحو سجود قاهر يدفع الخوف إليه دفعا. وهكذا يساق الناس بالعصا الإلهية إلى الإيمان. يقع هذا في ظل غياب الوعي والنضج الكافيين لقيام الاقتناع العقلي. ولعلنا هنا نشير مرة أخرى إلى نفسية قوم موسى، وهي المسئول الأول عن عدم اقتناعهم إلا بالقوة الحسية والمعجزات الباهرة. لقد تربى قوم موسى ونشئوا وسط هوان وذل، أهدرت فيهما إنسانيتهم والتوت فطرته. ولم يعد ممكنا بعد ازدهار الذل في نفوسهم واعتيادهم إياه، لم يعد ممكنا أن يساقوا إلى الخير إلا بالقوة. لقد اعتادوا أن تسيرهم القوة القاهرة لسادتهم القدامى، ولا بد لسيدهم الجديد (وهو الإيمان) من أن يقاسي الأهوال لتسييرهم، وأن يلجأ مضطرا إلى أسلوب القوة لينقذهم من الهلاك. لم تمر جريمة عبادة العجل دون آثار.

    اختيار سبعين رجلا لميقات الله:

    أمر موسى بني إسرائيل أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه. اختار منهم سبعين رجلا، الخيّر فالخيّر، وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم. صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. خرج موسى بهؤلاء السبعين المختارين لميقات حدده له الله تعالى. دنا موسى من الجبل. وكلم الله تعالى موسى، وسمع السبعون موسى وهو يكلم ربه.

    ولعل معجزة كهذه المعجزة تكون الأخير، وتكون كافية لحمل الإيمان إلى القلوب مدى الحياة. غير أن السبعين المختارين لم يكتفوا بما استمعوا إليه من المعجزة. إنما طلبوا رؤية الله تعالى. قالوا سمعنا ونريد أن نرى. قالوا لموسى ببساطة: (يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً).

    هي مأساة تثير أشد الدهشة. وهي مأساة تشير إلى صلابة القلوب واستمساكها بالحسيات والماديات. كوفئ الطلب المتعنت بعقوبة صاعقة. أخذتهم رجفة مدمرة صعقت أرواحهم وأجسادهم على الفور. ماتوا.

    أدرك موسى ما أحدثه السبعون المختارون فملأه الأسى وقام يدعو ربه ويناشده أن يعفو عنهم ويرحمهم، وألا يؤاخذهم بما فعل السفهاء منهم، وليس طلبهم رؤية الله تبارك وتعالى وهم على ما هم فيه من البشرية الناقصة وقسوة القلب غير سفاهة كبرى. سفاهة لا يكفر عنها إلا الموت.

    قد يطلب النبي رؤية ربه، كما فعل موسى، ورغم انطلاق الطلب من واقع الحب العظيم والهوى المسيطر، الذي يبرر بما له من منطق خاص هذا الطلب، رغم هذا كله يعتبر طلب الرؤية تجاوزا للحدود، يجازى عليه النبي بالصعق، فما بالنا بصدور هذا الطلب من بشر خاطئين، بشر يحددون للرؤية مكانا وزمانا، بعد كل ما لقوه من معجزات وآيات..؟ أليس هذا سفاهة كبرى..؟ وهكذا صعق من طلب الرؤية.. ووقف موسى يدعو ربه ويستعطفه ويترضاه.. يحكي المولى عز وجل دعاء موسى عليه السلام بالتوبة على قومه في سورة الأعراف:

    وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِين (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) (الأعراف)

    هذه كانت كلمات موسى لربه وهو يدعوه ويترضاه. ورضي الله تعالى عنه وغفر لقومه فأحياهم بعد موتهم، واستمع المختارون في هذه اللحظات الباهرة من تاريخ الحياة إلى النبوءة بمجيء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

    سنلاحظ طريقة الربط بين الحاضر والماضي في الآية، إن الله تعالى يتجاوز زمن مخاطبة الرسول في الآيات إلى زمنين سابقين، هما نزول التوراة ونزول الإنجيل، ليقرر أنه (تعالى) بشّر بمحمد في هذين الكتابين الكريمين. نعتقد أن إيراد هذه البشرى جاء يوم صحب موسى من قومه سبعين رجلا هم شيوخ بني إسرائيل وأفضل من فيهم، لميقات ربه. في هذا اليوم الخطير بمعجزاته الكبرى، تم إيراد البشرى بآخر أنبياء الله عز وجل.

    يقول ابن كثير في كتابه قصص الأنبياء، نقلا عن قتادة:


    نزول المن والسلوى:

    سار موسى بقومه في سيناء. وهي صحراء ليس فيها شجر يقي من الشمس، وليس فيها طعام ولا ماء. وأدركتهم رحمة الله فساق إليهم المن والسلوى وظللهم الغمام. والمن مادة يميل طعمها إلى الحلاوة وتفرزها بعض أشجار الفاكهة. وساق الله إليهم السلوى، وهو نوع من أنواع الطيور يقال إنه (السمان). وحين اشتد بهم الظمأ إلى الماء، وسيناء مكان يخلو من الماء، ضرب لهم موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من المياه. وكان بنو إسرائيل ينقسمون إلى 12 سبطا. فأرسل الله المياه لكل مجموعة. ورغم هذا الإكرام والحفاوة، تحركت في النفوس التواءاتها المريضة. واحتج قوم موسى بأنهم سئموا من هذا الطعام، واشتاقت نفوسهم إلى البصل والثوم والفول والعدس، وكانت هذه الأطعمة أطعمة مصرية تقليدية. وهكذا سأل بنو إسرائيل نبيهم موسى أن يدعو الله ليخرج لهم من الأرض هذه الأطعمة.

    وعاد موسى يستلفتهم إلى ظلمهم لأنفسهم، وحنينهم لأيام هوانهم في مصر، وكيف أنهم يتبطرون على خير الطعام وأكرمه، ويريدون بدله أدنى الطعام وأسوأه.

    السير باتجاه بيت المقدس:

    سار موسى بقومه في اتجاه البيت المقدس. أمر موسى قومه بدخولها وقتال من فيها والاستيلاء عليها. وها قد جاء امتحانهم الأخير. بعد كل ما وقع لهم من المعجزات والآيات والخوارق. جاء دورهم ليحاربوا -بوصفهم مؤمنين- قوما من عبدة الأصنام.

    رفض قوم موسى دخول الأراضي المقدسة. وحدثهم موسى عن نعمة الله عليهم. كيف جعل فيهم أنبياء، وجعلهم ملوكا يرثون ملك فرعون، وآتاهم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ.

    وكان رد قومه عليه أنهم يخافون من القتال. قالوا: إن فيها قوما جبارين، ولن يدخلوا الأرض المقدسة حتى يخرج منها هؤلاء.

    وانضم لموسى وهارون اثنان من القوم. تقول كتب القدماء إنهم خرجوا في ستمائة ألف. لم يجد موسى من بينهم غير رجلين على استعداد للقتال. وراح هذان الرجلان يحاولان إقناع القوم بدخول الأرض والقتال. قالا: إن مجرد دخولهم من الباب سيجعل لهم النصر. ولكن بني إسرائيل جميعا كانوا يتدثرون بالجبن ويرتعشون في أعماقهم.

    مرة أخرى تعاودهم طبيعتهم التي عاودتهم قبل ذلك حين رأوا قوما يعكفون على أصنامهم. فسدت فطرتهم، وانهزموا من الداخل، واعتادوا الذل، فلم يعد في استطاعتهم أن يحاربوا. وإن بقي في استطاعتهم أن يتوقحوا على نبي الله موسى وربه. وقال قوم موسى له كلمتهم الشهيرة:
    (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) هكذا بصراحة وبلا التواء.
    أدرك موسى أن قومه ما عادوا يصلحون لشيء. مات الفرعون ولكن آثاره في النفوس باقية يحتاج شفاؤها لفترة طويلة. عاد موسى إلى ربه يحدثه أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه. دعا موسى على قومه أن يفرق الله بينه وبينهم.

    وأصدر الله تعالى حكمه على هذا الجيل الذي فسدت فطرته من بني إسرائيل. كان الحكم هو التيه أربعين عاما. حتى يموت هذا الجيل أو يصل إلى الشيخوخة. ويولد بدلا منه جيل آخر، جيل لم يهزمه أحد من الداخل، ويستطيع ساعتها أن يقاتل وأن ينتصر.


    قصة البقرة:

    بدأت أيام التيه. بدأ السير في دائرة مغلقة. تنتهي من حيث تبدأ، وتبدأ من حيث تنتهي، بدأ السير إلى غير مقصد. ليلا ونهارا وصباحا ومساء. دخلوا البرية عند سيناء.

    مكث موسى في قومه يدعوهم إلى الله. ويبدو أن نفوسهم كانت ملتوية بشكل لا تخطئه عين الملاحظة، وتبدو لجاجتهم وعنادهم فيما يعرف بقصة البقرة. فإن الموضوع لم يكن يقتضي كل هذه المفاوضات بينهم وبين موسى، كما أنه لم يكن يستوجب كل هذا التعنت. وأصل قصة البقرة أن قتيلا ثريا وجد يوما في بني إسرائيل، واختصم أهله ولم يعرفوا قاتله، وحين أعياهم الأمر لجئوا لموسى ليلجأ لربه. ولجأ موسى لربه فأمره أن يأمر قومه أن يذبحوا بقرة. وكان المفروض هنا أن يذبح القوم أول بقرة تصادفهم. غير أنهم بدءوا مفاوضتهم باللجاجة. اتهموا موسى بأنه يسخر منهم ويتخذهم هزوا، واستعاذ موسى بالله أن يكون من الجاهلين ويسخر منهم. أفهمهم أن حل القضية يكمن في ذبح بقرة.

    إن الأمر هنا أمر معجزة، لا علاقة لها بالمألوف في الحياة، أو المعتاد بين الناس. ليست هناك علاقة بين ذبح البقرة ومعرفة القاتل في الجريمة الغامضة التي وقعت، لكن متى كانت الأسباب المنطقية هي التي تحكم حياة بني إسرائيل؟ إن المعجزات الخارقة هي القانون السائد في حياتهم، وليس استمرارها في حادث البقرة أمرا يوحي بالعجب أو يثير الدهشة.

    لكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل. مجرد التعامل معهم عنت. تستوي في ذلك الأمور الدنيوية المعتادة، وشؤون العقيدة المهمة. لا بد أن يعاني من يتصدى لأمر من أمور بني إسرائيل. وهكذا يعاني موسى من إيذائهم له واتهامه بالسخرية منهم، ثم ينبئهم أنه جاد فيما يحدثهم به، ويعاود أمره أن يذبحوا بقرة، وتعود الطبيعة المراوغة لبني إسرائيل إلى الظهور، تعود اللجاجة والالتواء، فيتساءلون: أهي بقرة عادية كما عهدنا من هذا الجنس من الحيوان؟ أم أنها خلق تفرد بمزية، فليدع موسى ربه ليبين ما هي. ويدعو موسى ربه فيزداد التشديد عليهم، وتحدد البقرة أكثر من ذي قبل، بأنها بقرة وسط. ليست بقرة مسنة، وليست بقرة فتية. بقرة متوسطة.

    إلى هنا كان ينبغي أن ينتهي الأمر، غير أن المفاوضات لم تزل مستمرة، ومراوغة بني إسرائيل لم تزل هي التي تحكم مائدة المفاوضات. ما هو لون البقرة؟ لماذا يدعو موسى ربه ليسأله عن لون هذا البقرة؟ لا يراعون مقتضيات الأدب والوقار اللازمين في حق الله تعالى وحق نبيه الكريم، وكيف أنهم ينبغي أن يخجلوا من تكليف موسى بهذا الاتصال المتكرر حول موضوع بسيط لا يستحق كل هذه اللجاجة والمراوغة. ويسأل موسى ربه ثم يحدثهم عن لون البقرة المطلوبة. فيقول أنها بقرة صفراء، فاقع لونها تسر الناظرين.

    وهكذا حددت البقرة بأنها صفراء، ورغم وضوح الأمر، فقد عادوا إلى اللجاجة والمراوغة. فشدد الله عليهم كما شددوا على نبيه وآذوه. عادوا يسألون موسى أن يدعو الله ليبين ما هي، فإن البقر تشابه عليهم، وحدثهم موسى عن بقرة ليست معدة لحرث ولا لسقي، سلمت من العيوب، صفراء لا شية فيها، بمعنى خالصة الصفرة. انتهت بهم اللجاجة إلى التشديد. وبدءوا بحثهم عن بقرة بهذه الصفات الخاصة. أخيرا وجدوها عند يتيم فاشتروها وذبحوها.

    وأمسك موسى جزء من البقرة (وقيل لسانها) وضرب به القتيل فنهض من موته. سأله موسى عن قاتله فحدثهم عنه (وقيل أشار إلى القاتل فقط من غير أن يتحدث) ثم عاد إلى الموت. وشاهد بنو إسرائيل معجزة إحياء الموتى أمام أعينهم، استمعوا بآذانهم إلى اسم القاتل. انكشف غموض القضية التي حيرتهم زمنا طال بسبب لجاجتهم وتعنتهم.

    نود أن نستلفت انتباه القارئ إلى سوء أدب القوم مع نبيهم وربهم، ولعل السياق القرآني يورد ذلك عن طريق تكرارهم لكلمة "ربك" التي يخاطبون بها موسى. وكان الأولى بهم أن يقولوا لموسى، تأدبا، لو كان لا بد أن يقولوا: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) ادع لنا ربنا. أما أن يقولوا له: فكأنهم يقصرون ربوبية الله تعالى على موسى. ويخرجون أنفسهم من شرف العبودية لله. انظر إلى الآيات كيف توحي بهذا كله. ثم تأمل سخرية السياق منهم لمجرد إيراده لقولهم: (الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) بعد أن أرهقوا نبيهم ذهابا وجيئة بينهم وبين الله عز وجل، بعد أن أرهقوا نبيهم بسؤاله عن صفة البقرة ولونها وسنها وعلاماتها المميزة، بعد تعنتهم وتشديد الله عليهم، يقولون لنبيهم حين جاءهم بما يندر وجوده ويندر العثور عليه في البقر عادة.

    ساعتها قالوا له: "الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ". كأنه كان يلعب قبلها معهم، ولم يكن ما جاء هو الحق من أول كلمة لآخر كلمة. ثم انظر إلى ظلال السياق وما تشي به من ظلمهم: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) ألا توحي لك ظلال الآيات بتعنتهم وتسويفهم ومماراتهم ولجاجتهم في الحق؟ هذه اللوحة الرائعة تشي بموقف بني إسرائيل على موائد المفاوضات. هي صورتهم على مائدة المفاوضات مع نبيهم الكريم موسى.

    إيذاء بني إسرائيل لموسى:

    قاسى موسى من قومه أشد المقاساة، وعانى عناء عظيما، واحتمل في تبليغهم رسالته ما احتمل في سبيل الله. ولعل مشكلة موسى الأساسية أنه بعث إلى قوم طال عليهم العهد بالهوان والذل، وطال بقاؤهم في جو يخلو من الحرية، وطال مكثهم وسط عبادة الأصنام، ولقد نجحت المؤثرات العديدة المختلفة في أن تخلق هذه النفسية الملتوية الخائرة المهزومة التي لا تصلح لشيء. إلا أن تعذب أنبيائها ومصلحيها.

    وقد عذب بنو إسرائيل موسى عذابا نستطيع -نحن أبناء هذا الزمان- أن ندرك وقعه على نفس موسى النقية الحساسة الكريمة. ولم يقتصر العذاب على العصيان والغباء واللجاجة والجهل وعبادة الأوثان، وإنما تعدى الأمر إلى إيذاء موسى في شخصه.

    قال تعالى:

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) (الأحزاب)

    ونحن لا تعرف كنه هذا الإيذاء، ونستبعد رواية بعض العلماء التي يقولون فيها أن موسى كان رجلا حييا يستتر دائما ولا يحب أن يرى أحد من الناس جسده فاتهمه اليهود بأنه مصاب بمرض جلدي أو برص، فأراد الله أن يبرئه مما قالوا، فذهب يستحم يوما ووضع ثيابه على حجر، ثم خرج فإذا الحجر يجري بثيابه وموسى يجري وراء الحجر عاريا حتى شاهده بنو إسرائيل عاريا وليس بجلده عيب. نستبعد هذه القصة لتفاهتها، فإنها إلى جوار خرافة جري الحجر بملابسه، لا تعطي موسى حقه من التوقير، وهي تتنافى مع عصمته كنبي.

    ونعتقد أن اليهود آذوا موسى إيذاء نفسيا، هذا هو الإيذاء الذي يدمي النفوس الكريمة ويجرحها حقا، ولا نعرف كيف كان هذا الإيذاء، ولكننا نستطيع تخيل المدى العبقري الآثم الذي يستطيع بلوغه بنو إسرائيل في إيذائهم لموسى.

    فترة التيه:

    ولعل أعظم إيذاء لموسى، كان رفض بني إسرائيل القتال من أجل نشر عقيدة التوحيد في الأرض، أو على أقل تقدير، السماح لهذه العقيدة أن تستقر على الأرض في مكان، وتأمن على نفسها، وتمارس تعبدها في هدوء. لقد رفض بنو إسرائيل القتال. وقالوا لموسى كلمتهم الشهيرة: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ).

    وبهذه النفسية حكم الله عليهم بالتيه. وكان الحكم يحدد أربعين عاما كاملة، وقد مكث بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة، حتى فني جيل بأكمله. فنى الجيل الخائر المهزوم من الداخل، وولد في ضياع الشتات وقسوة التيه جيل جديد. جيل لم يتربى وسط مناخ وثني، ولم يشل روحه انعدام الحرية. جيل لم ينهزم من الداخل، جيل لم يعد يستطيع الأبناء فيه أن يفهموا لماذا يطوف الآباء هكذا بغير هدف في تيه لا يبدو له أول ولا تستبين له نهاية. إلا خشية من لقاء العدو. جيل صار مستعدا لدفع ثمن آدميته وكرامته من دمائه. جيل لا يقول لموسى (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ).

    جيل آخر يتبنى قيم الشجاعة العسكرية، كجزء مهم من نسيج أي ديانة من ديانات التوحيد. أخيرا ولد هذا الجيل وسط تيه الأربعين عاما.

    ولقد قدر لموسى. زيادة في معاناته ورفعا لدرجته عند الله تعالى. قدر له ألا تكتحل عيناه بمرأى هذا الجيل. فقد مات موسى عليه الصلاة والسلام قبل أن يدخل بنو إسرائيل الأرض التي كتب الله عليهم دخولها.

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان قومه يؤذونه في الله: قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر.

    مات هارون قبل موسى بزمن قصير. واقترب أجل موسى، عليه الصلاة والسلام. وكان لم يزل في التيه. قال يدعو ربه: رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر.

    أحب أن يموت قريبا من الأرض التي هاجر إليها. وحث قومه عليها. ولكنه لم يستطع، ومات في التيه. ودفن عند كثيب أحمر حدث عنه آخر أنبياء الله في الأرض حين أسرى به. قال محمد صلى الله عليه وسلم: لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر.

    تروي الأساطير عديدا من الحكايات حول موت موسى، وتحكي أنه ضرب ملك الموت حين جاء يستل روحه، وأمثال هذه الروايات كثيرة. لكننا لا نحب أن نخوض في هذه الروايات حتى لا ننجرف وراء الإسرائيليات التي دخلت بعض كتب التفسير.

    مات موسى -عليه الصلاة والسلام- في التيه، وتولى يوشع بن نون أمر بني إسرائيل


    مصادر كل ذلك مواقع اسلاميه

    وقصص الأنبياء، للإمام ابن كثير.

    تفسير القرآن، للإمام القرطبي

  2. #22
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية جبران حكمي
    عضو موقوف
    تاريخ التسجيل
    11 2007
    الدولة
    الاحساء
    المشاركات
    1,364

    رد: قصص عظيمة ومعارك جسيمة

    غزوة مؤتة

    اتّسمت العلاقات بين المسلمين والروم بالتوتّر ، فقد دأبت الروم ومن والاها من العرب على مضايقة المسلمين واستفزازهم بكل الطرق ، وكان من أظهرها المحاولات المتكرّرة للتعرّض لتجارة المسلمين القادمة من الشام ، والقيام بالسلب والنهب للقوافل التي تمرّ بطريقهم ، ناهيك عمّا مارسوه من ضغوطاتٍ ومضايقاتٍ طالت كل مسلم وقع تحت أيديهم .

    وبلغ الأذى ذروته حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي رسولاً إلى ملك بصرى من أرض الشام يدعوه إلى الإسلام ، فما كان من ملك بصرى شرحبيل بن عمرو الغساني إلا أن قتل رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ كان هذا هو أول رسولٍ له يُقتل على خلاف ما جرت العادة من إكرام الرسل وعدم التعرّض لهم .


    فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس للخروج ومقاتلة الروم حتى يضع حداً لهذه التصرّفات الهمجية ولأجل تأديبهم ، وسرعان ما اجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف مقاتل ، فعقد الراية لثلاثة منهم وجعل إمرتهم بالتناوب ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن أصيب زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة ) رواه البخاري ومسلم ، فتجهّز الناس وخرجوا ، وكان ذلك يوم الجمعة من السنة الثامنة للهجرة النبوية ، فلما ودّع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلّموا عليهم ، بكى عبد الله بن رواحة فقالوا : ما يبكيك يا ابن رواحة فقال : " أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } ( مريم : 71 ) فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود ؟ ".


    فقال المسلمون : " صحبكم الله ، ودفع عنكم ، وردّكم إلينا صالحين ، فأجابهم عبد الله بن رواحة :

    لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
    أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبــدا
    حتى يقال إذا مروا على جدثي أرشده الله من غاز وقد رشدا




    وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته قائلاً : ( اغزوا باسم الله وفي سبيل الله ، وقاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغدروا ، ولا تغلوا ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا وليدا ولا أصحاب الصوامع ) رواه أحمد وغيره من أصحاب السنن .


    وسار المسلمون حتى نزلوا معانا - اسم قرية - من أرض الشام ، فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم ، وانضم إليه مائة ألف أخرى من القبائل العربية الموالية له كلخم ، وجذام ، وبلقين ، وبهراء ، فاجتمع لهرقل مائتي ألف مقاتل ، فعقد المسلمون مجلسا للتشاور ، فقال بعضهم : نكتب للنبي صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا ، فإما أن يمدنا بالرجال ، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له ، وقال آخرون : قد وطئتَ البلاد وأخفتَ أهلها ، فانصرف ؛ فإنه لا يعدلُ العافية شيء . و عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ساكت ، فسأله زيد عن رأيه فقال : يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون الشهادة ، ما نقاتل الناس بعدد ، ولا عدة ، ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور ، وإما شهادة ، فقال الناس : صدق والله ابن رواحة ، فمضوا حتى إذا قاربوا البلقاء - منطقة بالشام - ، لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية يقال لها مشارف ، فدنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها : مؤتة وتسمى اليوم بالكرك ، فالتقى الناس عندها ، فتجهز المسلمون وجعلوا على ميمنة الجيش قطبة بن قتادة رجل من بني عذرة ، وعلى الميسرة أنصاريٌّ يقال له عبادة بن مالك .

    والتحم الجيشان وحمي الوطيس ، واقتتلوا قتالا شديداً ، وقتل أول قادة المسلمين زيد بن حارثة رضي الله عنه ، مقبلاً غير مدبر ، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب بيمينه ، وأخذ ينشد :

    يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
    والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
    علي إن لاقيتها ضرابها


    فقطعت يمينه رضي الله عنه ، فأخذ الراية بشماله فقطعت ، فاحتضنها بعضديه حتى قتل رضي الله عنه ، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، ثم تقدم بها على فرسه فجعل يستنزل نفسه ، ويقول :

    أقسمت يا نفس لتنزلن لتنزلن أو لتكرهنه
    إن أجلب الناس وشدوا الرنة ما لي أراك تكرهين الجنة
    قد طال ما قد كنت مطمئنة هل أنت إلا نطفة في شنة
    وقال أيضا :

    يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت

    وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت

    ولما نزل أتاه ابن عم له بقطعة لحم ، فقال : اشدد بها صلبك ، فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت ، فأخذه من يده ، فنهش منه نهشة ، ثم سمع تدافع الناس للقتال فقال : وأنت في الدنيا ! ثم ألقاه من يده ، وأخذ سيفه ، فتقدم فقاتل حتى قُتل ، ثم أخذ الراية ثابت بن أرقم بن ثعلبة الأنصاري فقال : يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم ، فقالوا : أنت فقال : ما أنا بفاعل ، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد .


    وقد سارع الوحي إلى إبلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحداث المعركة ، فعن أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا و جعفرا و ابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال : (أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذها جعفر فأصيب ، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ، حتى فتح الله عليهم ) رواه البخاري .


    وبعد أن استلم الإمرة خالد أراد أن ينقذ الجيش الإسلامي بطريقة تحفظ له كيانه وتبقي هيبته ، وقدّر أن الحل يكمن بالانسحاب بعد إرهاب العدوّ وإيهامه بوصول إمدادات جديدة ، فصمد حتى الليل واستغلّ الظلام ليغيّر مراكز المقاتلين ، وحوَّل الميسرة ميمنة ، والميمنة ميسرة ، والمؤخرة مقدمة والعكس ، وطلب من خيّالة المسلمين اصطناع غبارٍ وجلبة قويّة ، فظن الروم أن المسلمين جاءهم مدد ، فخارت عزائمهم ، واشتدّ عليهم المسلمون حتى يقول خالد رضي الله عنه : لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية ، وهكذا نجح خالد في العودة بالجيش إلى المدينة بأقلّ خسارة ممكنة ، وقُتل من الروم خلقٌ كثير لا يُعرف عددهم وكان في ذلك نصرٌ كبير للإسلام والمسلمين .


    ولما وصل خالد إلى المدينة ، أخذ بعض المسلمين في عتاب من فرّ في بداية المعركة ، فخشي أولئك من غضب الله ورسوله حتى همّوا أن يركبوالبحر ، ثم قالوا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله ، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ، فأتوه قبل صلاة الغداة فخرج فقال : (من القوم ) ؟ فقالوا : نحن الفرارون فقال : (لا ، بل أنتم الكرارون ، أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ) فأتوه وقبلوا يده الشريفة .


    هذه هي غزوة مؤتة تكاد تتفجر عظة وعبرة ، فما إن يقرأ القارئ هذه الأحداث إلا ويجد الإعجاب قد عقد لسانه ، فأي بشر هؤلاء ، يقفون بجيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل أمام جيش هائل قوامه مائتي ألف مقاتل ، إن تصورا سريعا للقوتين ليعطي نتائج حاسمة بانتصار الجيش الكبير على الجيش المقابل ، ومع ذلك يتقدم المسلمون على قلة عددهم ، وضعف عُدَدَهِم - آلة الحرب - ليضربوا أعظم صور التضحية والفداء ، بل ولينتصروا على ذلك العدو ، في أعظم مهزلة يتعرض لها جيش الإمبراطورية الرومانية ، إن غزوة مؤتة بكل المقاييس العسكرية معجزة من المعجزات ، وكرامة من الكرامات ، لقد وضعت معركة مؤتة القاعدة العسكرية الإسلامية في مواجهة العدو ، فنحن لا نقاتل بعدد ولا عدة ولكن نقاتل بهذا الدين ، فإذا تمحض قتالنا نصرة لدين الله ، وقمنا - ما استطعنا - بما أوجبه الله علينا من الأخذ بالأسباب الظاهرة ، كان النصر حليفنا بإذن الله .


    إن ما يتمتع به المسلم من حب البذل والتضحية بالنفس والمال في سبيل هذا الدين نابع من إيمانه بالله ويقينه بما عنده ، فهل تُحيا في الأمة هذه البسالة ، وهل نستخلص من غزوة مؤتة - خاصة - وتاريخ المسلمين الجهادي - عامة - دروسا تزرع التضحية والفداء في قلوب فتيانه حتى يعود للأمة سابق مجدها وغابر عزها .

    خطة خالد بن الوليد

    اعتمد خالد بن الوليد في خطته على الحرب النفسية حيث أمر عدد من الفرسان بأثارة الغبار خلف الجيش ، وتعلو اصواتهم بالتكبير والتهليل ، كذلك قام بتبديل الرايات بحيث جعل المقدمة مؤخرة والميسرة ميمنة ، وكان ذلك لكي يظن الروم ان مددا كبيرا وصل المسلمون من المدينة ، فرتعبوا عندها انسحب خالد بن الوليد بالجيش بطريقة منظمة وادرك الروم انهم وقعوا في الخدعة ، ولكنهم لم يستطيعوا اللحاق بالمسلمين ، وعاد الجيش إلى المدينة المنورة.





    أسماء شهداء المسلمين :

    1-جعفر بن ابي طالب

    2-زيد بن حارثة

    3-عبدالله رواحة

    4-مسعود بن الاسود

    5-وهب بن سعد

    6-عبادبن قيس

    7-عمرو بن سعد

    8-الحارث بن النعمان

    9-سراقة بن عمرو

    10-ابو كليببن عمرو

    11-جابر بن عمرو

    12-عامر بن سعد

  3. #23
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية عجاج الليل

    طـيــر شــلوى

    أبـوريـاض
    تاريخ التسجيل
    10 2007
    الدولة
    بين المسافي والخبوت
    المشاركات
    14,557

    رد: قصص عظيمة ومعارك جسيمة

    جزاك الله خيراً ونفع بك


    أخي/جبران



    سلمت الأنامــل

    لا خلا ولا عدم

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  4. #24
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية جبران حكمي
    عضو موقوف
    تاريخ التسجيل
    11 2007
    الدولة
    الاحساء
    المشاركات
    1,364

    رد: قصص عظيمة ومعارك جسيمة

    قصة نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام

    قال الله تعالى في كتابه العزيز : بسم الله الرحمن الرحيم :" كهيعص * ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا * يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا * قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا * يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا * وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ".
    وقال تعالى :" وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب * هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين * قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء * قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ".

    وقال تعالى في سورة الأنبياء :" وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ".

    وقال تعالى :" وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ".

    قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر في كتابه التاريخ المشهور الحافل : زكريا بن برخيا ويقال زكريا بن دان ، ويقال زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخيا بن بلعطة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاط بن اينامن ابن رحيعام بن سليمان بن داود ، أبو يحيى النبي عليه السلام من نبي إسرائيل .

    دخل البثنة من أعمال دمشق في طلب ابنه يحيى . وقيل إنه كان بدمشق حين قتل ابنه يحيى . . والله أعلم . وقد قيل غير ذلك في نسبه . ويقال فيه زكريا بالمد والقصر ، ويقال زكري أيضاً .

    والمقصود أن الله تعالى أمر رسوله (صلى الله عليه وسلم) أن يقص على الناس خبر زكريا عليه السلام وما كان من أمره حين وهبه الله ولداً على الكبر وكانت امرأته مع ذلك عاقراً في حال شبيبتها وقد أسنت أيضاً حتى لا ييأس أحد من فضل الله ورحمته ولا يقنط من فضله تعالى :" ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا " قال قتادة عند تفسيرها : إن الله يعلم القلب النقي ويسمع الصوت الخفي ، وقال بعض السلف : قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضراً عنده مخافته فقال : يا رب يا رب يا رب . . فقال الله : لبيك لبيك لبيك ." قال رب إني وهن العظم مني " أي ضعف وخار من الكبر " واشتعل الرأس شيبا " استعارة من اشتعال النار في الحطب أي غلب على سواد الشعر شيبه كما قال ابن دريد في مقصورته :

    أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجا

    واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جمر الغضا

    وآض عود اللهم يبساً ذاوياً من بعد ما قد كان مجاج الثرى

    يذكر أن الضعف قد استحوذ عليه باطناً وظاهراً . وهكذا قال زكريا عليه السلام :" إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ".
    وقوله :" ولم أكن بدعائك رب شقيا " أي ما عودتني فيما أسألك إلا الإجابة وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران بن ماثان ، وكانت كلما دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير إبانها ولا في أوانها وهذه من كرامات الأولياء ، فعلم أن الرزاق للشيء في غير أوانه قادر على ان يرزقه ولداً وإن كان قد طعن في سنه " هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " وقوله :" وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا " قيل المراد بالموالي العصبة ، وكأنه خاف من تصرفهم بعده في بني إسرائيل بما لا يوافق شرع الله وطاعته فسأل وجود ولد من صلبه يكون براً تقياً مرضياً ولهذا قال :" فهب لي من لدنك " أي من عندك بحولك وقوتك " وليا * يرثني " أي في النبوة والحكم في بني إسرائيل " ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " يعني كما كان آباؤه وأسلافه من ذرية يعقوب أنبياء فاجعله مثلهم في الكرامة التي أكرمتهم بها من النبوة والوحي ، وليس المراد هاهنا وراثة المال كما زعم ذلك من زعمه من الشيعة ووافقهم ابن جرير هاهنا وحكاه عن أبي صالح من السلف ، لوجوه :

    أحدها : ما قدمناه عند قوله تعالى :" وورث سليمان داود " أي في النبوة والملك لما ذكرنا في الحديث المتفق عليه بين علماء الموري في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من طرق عن جماعة من الصحابة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" لا نورث ما تركنا فهو صدقة " فهذا نص على أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يورث ، ولهذا منع الصديق أن يصرف ما كان يختص به في حياته إلى أحد من ورثته الذين لولا هذا النص لصرف إليهم ، وهم ابنته فاطمة وأزواجه التسع وعمه العباس رضي الله عنهم ، تواحتج عليهم الصديق في منعه إياهم بهذا الحديث ، وقد وافقه على روايته عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب والعباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وأبو هريرة وآخرون رضي الله عنهم .

    والثاني : أن الترمذي رواه بلفظ يعم سائر الأنبياء :" نحن معاشر الأنبياء لا نورث " وصححه .

    الثالث : أن الدنيا كانت أحقر عند الأنبياء من أن يكنزوا لها أو يلتفتوا إليها أو يهمهم أمرها حتى يسالوا الأولاد ليحوزوها بعدهم ، فإن من لا يصل إلى قريب من منازلهم في الزهادة لا يهتم بهذا المقدار أن يسأل ولداً يكون وارثاً له فيها .

    الرابع : أن زكريا عليه السلام كان نجاراً بعمل بيده ويأكل من كسبها ، كما كان داود عليه السلام يأكل من كسب يده ، والغالب ولا سيما من مثل حال الأنبياء أنه لا يجهد نفسه في العمل إجهاداً يستفضل منه مالاً يكون ذخيرة له ولمن يخلفه من بعده ، وهذا أمر بين واضح لكل من تأمله وتدبره وتفهمه . . إن شاء الله .

    قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، يعني ابن هارون ، أنبأنا حماد بن سلمة ن عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" كان زكريا نجاراً " وهكذا رواه مسلم و ابن ماجه من غير وجه ، عن حماد بن سلمة به .

    وقوله :" يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا " وهذا مفسر بقوله :" فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ".

    فلما بشر بالولد وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد له والحالة هذه " قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا " أي كيف يوجد ولد من شيخ كبير ، قيل كان عمره إذ ذاك سبعاً وسبعين سنة ، والأشبه والله أعلم أنه كان أسد من ذلك " وكانت امرأتي عاقرا " يعني وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقراً لا تلد . . والله أعلم .

    كما قال الخليل :" أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون " وقالت سارة :" يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ".

    وهكذا أجيب زكريا عليه السلام قال له الملك الذي يوحي إليه بأمر ربه :" كذلك قال ربك هو علي هين " أي هذا سهل يسير عليه " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " أي قدرته ، أوجدتك بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً أفلا يوجد منك ولد وإن كنت شيئاً ؟ !

    وقال تعالى :" فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين " ومعنى إصلاح زوجته أنها كانت لا تحيض فحاضت . وقيل كان في لسانها شيء ، أي بذاءة .

    " قال رب اجعل لي آية " أي علامة على وقت تعلق مني المرأة بهذا الولد المبشر به " قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " يقول علامة ذلك أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزاً وأنت في ذلك سوى الخلق صحيح المزاج معتدل البنية ، وأمر بكثرة الذكر في هذه الحال بالقلب واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والإبكار ، فلما بشر بهذه البشارة خرج مسروراً بها على قومه من محرابه " فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا " والوحي هاهنا هو الأمر الخفي إما بكتابة ، كما قاله مجاهد والسدي ، أو إشارة كما قاله مجاهد أيضاً ووهب وقتادة ، قال مجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتادة : اعتقل لسانه من غير مرض . وقال ابن زيد : كان يقرأ ويسبح ولكن لا يستطيع كلام أحد .

    وقوله تعالى :" يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا " يخبر تعالى عن وجود الولد وفق البشارة الإلهية لأبيه زكريا عليه السلام وأن الله علمه الكتاب والحكمة وهو صغير في حال صباه .

    قال عبد الله بن المبارك : قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب . فقال : ماللعب خلقنا . قال : وذلك قوله :" وآتيناه الحكم صبيا ".

    وأما قوله :" وحنانا من لدنا " فروى ابن جرير عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : لا أدري ما الحنان . وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك : " وحنانا من لدنا " أي رحمة من عندنا رحمنا بها زكريا فوهبنا له هذا الولد ، وعن عكرمة : " وحنانا " أي محبة عليه ، ويحتمل أن يكون ذلكصفة لتحنن يحيى على الناس ولا سيما على أبويه ، وهو محتبهما والشفقة عليهما وبره بهما .

    وأما الزكاة فهو طهارة الخلق وسلامته من النقائص والرذائل . والتقوى طاعة الله بامتثال أوامره وترك زواجره .

    ثم ذكر بره بوالديه وطاعته لهما أمراً ونهياً وترك عقوقهما قولاً وفعلاً فقال :" وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا " ثم قال " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا " هذه الأوقات الثلاثة أشد ما تكون على الإنسان ، فإنه ينتقل في كل منها من عالم إلى عالم آخر ، فيفقد الأول بعد ما كان ألفه وعرفه ، ويصير إلى الأخر ولا يدري ما بين يديه ، ولهذا يستهل صارخاً إذا خرج من بين الأحشاء وفارق لينها وضمها ، وينتقل إلى هذه الدار ليكابد همومها وغمها !

    وكذلك إذا فارق هذه الدار وانتقل إلى عالم البرزخ بينهما وبين دار القرار ، وصار بعد الدور والصور إلى عرصة الأموات سكان القبور ، وانتظر هناك النفخة في الصور ليوم البعث والنشور ، فمن مسرور ومحبور ومن محزون ومثبور ، وما بين جيبر وكسير وفريق في الجنة وفريق في السعير ، ولقد أحسن بعض الشعراء حيث يقول :

    ولدتك أمك باكياً مستصرخاً والناس حولك يضحكون سرورا

    فاحرص لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا

    ولما كانت هذه الواطن الثلاثة أشق ما تكون على ابن آدم سلم الله على يحيى في كل مواطن منها فقال :" وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ".

    وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة أن الحسن قال : إن يحيى وعيسى التقيا ، فقال له عيسى : استغفر لي أنت خير مني ، فقال له الآخر : استغفر لي أنت خير مني ، فقال له عيسى : أنت خير مني سلمت على نفسير وسلم الله عليك . فعرف والله فضلهما .

    وأما قوله في الآية الأخرى :" وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين " فقيل المراد بالحصور الذي لا يأتي النساء ، وقيل غير ذلك ، وهو أشبه لقوله :" هب لي من لدنك ذرية طيبة ".

    وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عفان : حدثنا حماد ، أنبأنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا ، وما ينبغي لأحد يقول أنا خير من يونس بن متى ".

    علي بن زيد بن جدعان تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، وهو منكر الحديث . وقد رواه ابن خزيمة والدارقطني من طريق أبي عاصم العباداني ، عن علي بن زيد بن جدعان به مطولاً . ثم قال ابن خزيمة : وليس على شرطنا .

    وقال ابن وهب : حدثني بن لهيعة ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أصحابه يوماً وهم يتذاكرون فضل الأنبياء فقال قائل : موسى كليم الله . وقال قائل : عيسى روح الله وكلمته ، وقال قائل : إبراهيم خليل الله ، وهم يذكرون ذلك فقال :" أين الشهيد بن الشهيد ، يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب " قال ابن وهب : يريد يحيى بن زكريا .

    وقد رواه محمد بن إسحاق وهو مدلس ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب ، حدثني ابن العاص ، أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول :" كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا ".

    فهذا من رواية ابن إسحاق وهو من المدلسين وقد عنعن هاهنا .

    ثم قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب مرسلاً .

    ثم رأيت ابن عساكر ساقه من طريق أبي أسامة ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، ثم رواه ابن عساكر من طريق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق : حدثنا محمد بن الأصبهاني ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الله ابن عمرو قال : ما أحد إلا يلقى الله بذنب إلا يحيى بن زكريا . ثم تلا " وسيدا وحصورا " ثم رفع شيئاً من الأرض فقال : ما كان معه إلا مثل هذا ، ثم ذبح ذبحاً !

    وهذا موقوف من هذا الطريق وكونه موقوفاً أصح من رفعه . . والله أعلم ، وأورده ابن عساكر من طرق عن معمر : من ذلك ما أورده من حديث إسحاق بن بشر ، وهو ضعيف ، عن عثمان بن ساج ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن معاذ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بنحوه .

    وروى عن طريق أبي داود الطيالسي وغيره ، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعيم ، عن أبيه ،عن أبي سعيد قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة يحيى وعيسى عليهما السلام ".

    وقال أبو نعيم الحافظ الأصبهاني : حدثنا إسحاق بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، سمعت أبا سليمان يقول : خرج عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا يتماشيان ، فصدم يحيى امرأة فقال له عيسى : يا ابن خالة . . لقد أصبت اليوم خطيئة ما أظن أنه يغفر لك أبداً . قال : وما هي يا ابن خالة ؟ قال : امرأة صدمتها . قال : والله ما شعرت بها . قال : سبحان الله . . بدنك معي فأين روحك ؟ قال : معلق بالعرش ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل لظننت أني ما عرفت الله طرقة عين . فيه غرابة وهو من الإسرائيليات .

    وقال إسرائيل عن أبي حصين ، عن خيثمة ، قال : كان عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابني خالة وكان عيسى يلبس الصوف وكان يحيى يلبس الوبر ولم يكن لواحد منهما دينار ولا درهم ولا عبد ولا أمة ولا مأوى يأويان إليه ، أين ما جنهما الليل أويا ، فلما أرادا أن يتفرقا قال يحيى : أوصني . قال : لا تغضب . قال : لا أستطيع إلا أن أغضب . قال : لا تقتن مالاً . قال : أما هذه فعسى .

    وقد اختلفت الرواية عن وهب بن منبه : هل مات زكريا عليه السلام موتاً أو قتل قتلاً ؟ على روايتين فروى عبد المنعم بن إدريس بن سنان ، عن أبيه ، عن وهب بن منبه ، أنه قال : هرب من قومه فدخل شجرة فجاءوا فوضعوا المنشار عليهما ، فلما وصل المنشار إلى أضلاعه أن ، فأوحى الله إليه : لئن لم يسكن انينك لأقلبن الأرض ومن عليها . فسكن أنينه حتى قطع باثنتين .

    وقد روى هذا في حديث مرفوع سنورده بعد إن شاء الله .

    وروى إسحاق بن بشر ، عن إدريس بن سنان ، عن وهب أنه قال : الذي انصدعت له الشجرة هو شعيا ، فأما زكريا فمات موتاً . . فالله أعلم .

    وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، أنبأنا أبو خلف موسى بن خلف ، - وكان يعد من البدلاء - حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن الحارث الأشعري أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن . فقال : يا أخي . . إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أويخف بي . قال : فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله عز وجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركن أن تعملوا بهن . وأولهن أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً ، فإن مثل ذلك مثل من اتشرى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلبته إلى غير سيده ، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك ، وإن الله خلقكم ورزقكم فاعدوه ولا تشركوا به شيئاً .

    آمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجه قبل عبده مالم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفتوا .

    وآمركم بالصيام فإن الله مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك ، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك .

    وآمركم بالصدقة ، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال : هل لكم أن أفتدي نفسي منكم فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه .

    وآمركم بذكر الله عز وجل كثيراً ، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل .

    قال : وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله ، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلق ربق الإسلام من عنقه إلا أن يرجع ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثا جهنم ، قال : يا رسول الله . . وإن صام وصلى ؟ قال : وإن صام بدعوى الجاهلية وزعم أنه مسلم ، ادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله عز وجل ".

    وهكذا رواه أبو يعلى عنهدبة بن خالد ،عن أبان بن زيد ، عن يحيى بن أبي كثير به . وكذلك رواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي وموسى بن إسماعيل ، وكلاهما عن أبان بن يزيد العطار به ، ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار ، عن محمد بن شعيب بن سابور ، عن معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام ، عن أبي سلام ، عن الحارث الأشعري به ، ورواه الحاكم من طريق مروان بن محمد الطاطري ، عن معاوية بن سلام ، عن أخيه به . ثم قال : تفرد به مروان الطاطري ، عن معاوية بن سلام .

    قلت : وليس كما قال . ورواه الطبراني عن محمد بن عبدة ، عن أبي توبة الربيع بن نافع ، عن معاوية بن سلام ، عن أبي سلام ، عن الحارث الأشعري . فذكر نحوه فسقط ذكر زيد بن سلام ، عن أبي سلام ، عن الحارث الأشعري فذكر نحو هذه الرواية .

    ثم روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ذكر لنا عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيم سمعوا من علماء بني إسرائيل أن يحيى بن زكريا أرسل بخمس كلمات وذكر نحون ما تقدم .

    وقد ذكروا أن يحيى عليه السلام كان كثير الانفراد من الناس ، إنما كان يأنس إلى البراري ويأكل من ورق الأشجار ويرد ماء الأنهار ويتغذى بالجراد في بعض الأحيان ، ويقول : من أنعم منك يا يحيى ؟

    وروى ابن عساكر أن أبويه خرجا في تطلبه فوجداه عند بحيرة الأردن فلما اجتمعا به أبكاهما بكاء شديداً لما هو فيه من العبادة والخوف من الله عز وجل .

    وقال ابن وهب عن مالك ، عن حميد بن قيس عن مجاهد قال كان طعام يحيى بن زكريا العشب ، وإنه كان ليبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه .

    وقال محمد بن يحيى الذهلي : حدثنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهار ، قال : جلست يوماً إلى أبي إدريس الخولاني وهو يقص فقال : ألا أخبركم بمن كان أطيب الناس طعاماً ؟ فلما رأى الناس قد نظروا إليه قال : إن يحيى بن زكريا كان أطيب الناس طعاماً ؟ إنما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس في معايشتهم .

    وقال ابن المبارك عن وهيب بن الورد قال : فقد زكريا ابنه يحيى ثلاثة أيام فخرج يلتمسه في البرية فإذا هو قد احتفر قبراً وأقام فيه يبكي على نفسه ، فقال : يا بني . . أنا أطلبك من ثلاثة أيام وأنت في قبر احتفرته قائم تبكي فيه ؟ فقال : يا أبت . . ألست أنت أخبرتني أن بيت الجنة والنار مفازة لا تقطع إلا بدموع البكائين . فقال له : ابك يا بني . فبكيا جميعاً . وهكذا حكاه وهب بن منبه ومجاهد بنحوه .

    وروى ابن عساكر عنه أنه قال : إن أهل الجنة لا ينامون للذة ما هم فيه من النعيم ، فكذا ينبغي للصديقين ألا يناموا لما في قلوبهم من نعيم المحبة لله عز وجل ثم قال : كم بين النعيمين وكم بينهما .

    وذكروا أنه كان كثير البكاء حتى أثر البكاء في خديه من كثرة دموعه .



    بيان سبب قتل يحيى عليه السلام

    وذكروا في قتله أسباباً من أشهرها أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه أو من لا يحل له تزويجها ، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك فبقي في نفسها منه . فلما كان بينها وبين الملك ما يجب منها استوهبت منه دم يحيى ، فوهبه لها فبعثت إليه من قتله وجاء براسه ودمه في طست إلى عندها ، فيقال إنها هلكت من فورها وساعتها .

    وقيل بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها ، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك ، فتمنع عليها الملك ثم أجابها إلى ذلك فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طست .

    وقد ورد معناه في حديث رواه إسحاق بن بشر في كتابه المبتدأ حيث قال : أنبأنا يعقوب الكوفي ، عن عمرو بن ميمون ، عن أبيه ، عن ابن يحيى . . خبرني عن قتلك كيف كان ولم قتلك بنو إسرائيل ؟ قال : يا محمد . . أخبرك أن يحيى كان خير أهل زمانه ، وكان أجملهم وأصبحهم وجهاً ، وكان كما قال تعالى :" سيدا وحصورا " وكان لا يحتاج إلى النساء فهويته امرأة ملك بني إسرائيل ، وكانت بغية ، فأرسلت إليه وعصمه الله وامتنع يحيى وأبى عليها فأجمعت على قتل يحيى ولهم عيد يجتمعون في كل عام ، وكانت سنة الملك أن يعد ولا يخلف ولا يكذب .

    قال : فخرج الملك إلى العيد فقامت امرأته فشيعته ، وكان بها معجباً ولم تكن تفعله فيما مضى ، فلما أن شيعته قال الملك : سليني ، فما سألتني شيئاً إلا أعطيتك . قالت : أريد دم يحيى ابن زكريا . قال لها : سليني غيره . قالت : هو ذاك : قال هو لك . قال فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو في محرابه يصلي وأنا إلى جانبه أصلي ، قال : فذبح في طست وحمل رأسه ودمه إليها . قال : فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : فما بلغ من صبرك ؟ قال : ما انفلت من صلاتي .

    قال : فلما حمل رأسه إليها فوضع بين يديها فلما أمسوا خسف الله بالملك وأهل بيته وحشمه ، فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل : قد غضب إله زكريا لزكريا ، فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكريا . قال : فخرجوا في طلبي ليقتلوني وجاءني النذير ، فهربت منهم وإبليس أمامهم يدلهم علي فلما تخوفت ألا أعجزهم عرضت لي شجرة فنادتني وقالت : إلي إلي . وانصدعت لي ودخلت فيها .

    وقال : وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجاً من الشجرة ن وجاءت بنو إسرائيل فقال إبليس : أما رأيتموه دخل هذه الشجرة ، هذا طرف ردائه دخلها بسحره . فقال : نحرق هذه الشجرة . فقال إبليس : شقوها بالمنشار شقاً . قال : فشققت مع الشجرة بالمنشار .

    قال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : هل وجدت له مساً أو وجعاً ؟ قال : لا إنما وجدت ذلك الشجرة التي جعل الله روحي فيها .

    هذا سياق غريب جداً وحديث عجيب ورفعه منكر ، وفيه ما ينكر على كل حال ، ولم ير في شيء من أحاديث الإسراء ذكر زكريا عليه السلام إلا في هذا الحديث ، وإنما المحفوظ في بعض ألفاظ الصحيح في حديث الإسراء : فمررت بابني الخالة يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة . فجاء على قول الجمهور كما في ظاره الحديث ، فإن أم يحيى أشياع بنت عمران أخت مريم بنت عمران . وقيل بل أشياع وهي امرأة زكريا ، أم يحيى هي أخت حنة امرأة عمران أم مريم ، فيكون يحيى ابن خالة مريم . . فالله أعلم .

    ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا هل كان في المسجد الأقصى أم بغيره على قولين : فقال الثوري عن الأعمش عن شملة بن عطية قال : قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبياً ، منهم يحيى بن زكريا عليه السلام .

    وقال أبو عبيدة القاسم بن سلام : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال : قدم بختنصر دمشق ، فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي ، فسأل عنه فأخبروه ، فقتل على دمه سبعين ألفاً فسكن . وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب وهو يقتضي أنه قتل بدمشق وأن قصة بختنصر كانت بعد المسيح كما قاله عطاء والحسن البصري . . فالله أعلم . وروى الحافظ ابن عساكر من طريق الوليد بن مسلم . عن زيد بن واقد ، قال : رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبلة الذي يلي المحراب مما يلي الشرق ، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير . وفي رواية : كأنما قتل الساعة .

    وذكر في بناء مسجد دمشق أنه جعل تحت العمود المعروف بعمود السكاسكة . . فالله أعلم .

    وقد روى الحافظ ابن عساكر في المستقصي في فضائل الأقصى من طريق العباس بن صبح ، عن مروان ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن قاسم مولى معاوية ، قال : كان ملك هذه المدينة - يعني دمشق - هداد بن هدار ، وكان قد زوج ابنه بابنة أخيه أريل ملكة صيدا ، وقد كان من جملة أملاكها سوق الملوك بدمشق وهو الصاغة العتيقة ، وقال كان قد حلف بطلاقها ثلاثاً . ثم إنه أراد مراجعتها فاستفتى يحيى بن زكريا فقال : لا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك ، فحقدت عليه وسألت من الملك رأس يحيى بن زكريا ، وذلك بإشارة أمها . فأبى عليها ثم أجباها إلى ذلك وبعث إليه وهو قائم يصلي بمسجد جبرون من أتاه برأسه في صينية ، فجعل الرأس يقول له : لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ، فأخذت المرأة الطبق فحملته على رأسها وأتت به أمها وهو يقول كذلك ، فلما تمثلت بين يدي أمها خسف بها إلى قدميها ثم إلى حقويها ، وجعلت أمها تولول والجواري يصرخن ويلطمن وجوههن ، ثم خسف بها إلى منكبيها فأمرت أمها السياق أن يضرب عنقها لتتسلى برأسها ، ففعل فلفظت الأرض جثتها عند ذلك ، ووقعوا في الذل والفناء ، ولم يزل دم يحيى يفور حتى قدم بختنصر فقتل عليه خمسة وسبعين ألفاً .

    قال سعيد بن عبد العزيز : وهي دم كل نبي . ولم يزل يفور حتى وقف عنده أرميا عليه السلام فقال : ايها الدم . . أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن الله . فسكن فرفع السيف وهرب من هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس فتبعهم إليها فقتل خلقاً كثيراً لا يحصون كثرة وسبى منهم ثم رجع عنهم .


    يحيى بن زكريا في القرآن
    ورد لفظ "يحيى" -مقصودا به يحيى بن زكريا- 4 مرات في القرآن الكريم وهي:

    {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ }الأنعام85
    {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً }مريم7
    {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً }مريم12
    {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }الأنبياء9
    0

    يحي بن زكريا ووعظه بني إسرائيل

    حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَعِيلَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَعِيلَ حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّ أَبَا سَلَّامٍ حَدَّثَهُ أَنَّ الْحَارِثَ الْأَشْعَرِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ
    يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا فَقَالَ عِيسَى إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ وَإِمَّا أَنْ آمُرَهُمْ فَقَالَ يَحْيَى أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِي أَوْ أُعَذَّبَ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَامْتَلَأَ الْمَسْجِدُ وَتَعَدَّوْا عَلَى الشُّرَفِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ فَقَالَ هَذِهِ دَارِي وَهَذَا عَمَلِي فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ فَكُلُّهُمْ يَعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ رِيحُهَا وَإِنَّ رِيحَ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ أَنَا أَفْدِيهِ مِنْكُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ قَالَ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ قَالَ أَبمو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَعِيلَ الْحَارِثُ الْأَشْعَرِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ وَلَهُ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ أَبِي سَلَّامٍ عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ قَالَ أَبمو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَأَبُو سَلَّامٍ الْحَبَشِيُّ اسْمُهُ مَمْطُورٌ وَقَدْ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ

    اين قبر يحيى عليه السلام

    قبر سيدنا يحيى علية السلام موجود في داخل الجامع الاموى في مدينة دمشق ويأمة الزوار من كل مكان . وتوجد كنيسة بإسمه في فلسطين وتزار حتى يومنا هذا.

    فقد زكريا ابنه ثلاثة أيام، فخرج يلتمسه في البرية، فإذا هو قد احتفر قبراً وأقام فيه يبكي على نفسه، فقال: يا بني أنا أطلبك من ثلاثة أيام وأنت في قبر قد احتفرته قائم تبكي فيه؟ فقال: ياأبت ألست أنت أخبرتني أن بين الجنة والنار مقام لا يقطع إلا بدموع البكائين؟ فقال له: أبك يا بني، فبكيا جميعاً.

    وذكروا أنه كان كثير البكاء حتى أثر البكاء في خديه من كثرة دموعه. وذكروا في قتله أسباباً من أشهرها أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه أو من لا يحل له تزويجها، فنهاه يحيى عن ذلك، فبقى في نفسها منه، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها استوهبت منه دم يحيى، فوهبه لها، فبعثت إليه من قتله وجاء برأسه ودمه في طست إلي عندها، فيقال أنها هلكت من فورها وساعتها. وقيل: بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك، فتمنع عليها الملك، ثم أجابها إلي ذلك، فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طست. ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا هل كان بالمسجد الأقصى أم بغيره على قولين. فقال الثوري عن الأعمش عن شمر بن عطية قال: قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبياً منهم يحيى بن زكريا . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام، حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يحيى ابن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قدم بختنصر دمشق فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي، فسأل عنه فأخبروه، فقتل على دمه سبعين ألفاً فسكن وهذه كلها روايات ليست اكيدة

    وجاء في قتل النبي يحي بن زكريا عليهما السلام


    قال الحافظ بن كثير: روى الحافظ ابن عساكر في(المستقصي في فضائل الاقصى عن قاسم مولى معاويه قال كان ملك هذة المدينه يعني دمشق هداد بن هدار وكان قد زوج ابنه بأبنه اخيه أربل ملكه صيدا وقد كان من جمله أملاكها سوق الملوك بدمشق وهو الصاغه العتيقه -قال: وكان قد حلف بطلاقها ثلاثا ثم إنه أراد مراجعتها
    فأستفتى يحي بن زكريا فقال: لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك فحقدت عليه وسألت من الملك رأس يحي بن زكريا وذلك بإشارة من أمها فأبى عليها ثم أجابها إلى ذلك وبعث إليه وهو قائم يصلي في مسجد جيرون من أتاه برأسه في صينيه فجعل الرأس يقول لا تحل له لا تحل له حتى تنكح زوجا غيرة فأخذت المرأة الطبق وحملته على رأسها وأتت به أمها وهو يقول كذلك فلما تمثلت بين يدي أمها خسف الله بها إلى قدميها ثم إلى حقويها فجعلت أمها تولول والجواري يصرخن ويلطمن وجوههن ثم خسف بها إلى منكبيها فأمرت أمها السياف أن يضرب عنقها لتتسلى برأسها فقطع السايف رأسها فلفضت الارض جثتها عند ذلك ووقعوا في الذل والفناء ولم يزل دم يحي يفور حتى قدم الملك بختنصر فقتل عليه خمسه وسبعين ألفا وكان جزاؤها من جنس عملها لما أحتجزت رأس يحي بن زكريا عليها السلام أحتجز رأسها جزاء وفاقا ملخص القصه أن هذه المرأة الحقيرة حقدت على النبي يحي عليه السلام هي وأمها وطلبت أن يأتي زوجها الذي طلقها برأس يحي ليكون مهرا وأنتقم الله منها بأن خسف بها الارض فلم يبقى سوى رأسه فكلنوا في ذهول فأمرت امها السياف أن يقطع رأس بنتها لكي تحتفظ به سبحان الله أتقتلون نبيا يقول ربي الله ويحكم بجكم الله نسأل الله السلامه والعافيه والله أعلم إن أأصبت فمن الله وإن أخطأت فمن الشيطان والحمدلله رب العالمين وهذة نهايه الظالمين

  5. #25
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية جبران حكمي
    عضو موقوف
    تاريخ التسجيل
    11 2007
    الدولة
    الاحساء
    المشاركات
    1,364

    رد: قصص عظيمة ومعارك جسيمة

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    موقعة بدر الكبرى

    معركة بدر هي معركة وقعت في 13 مارس 624/17 رمضان 2 للهجرة بين المسلمين بقيادة النبي و بين قريش بقيادة عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي عند آبار بدر جنوب المدينة في إنتهت بانتصار المسلمين و مقتل سيد قريش عمرو بن هشام بن المغيرة المخزوميٍ

    أسباب المعركة

    وصل الخبر للمسلمين بأن أبو سفيان بن حرب جاء من الشام في قافلة كبيرة لقريش، تحمل أموال و تجارة لهم، و قُدّر عدد الرجال بها ما بين ثلاثين إلى أربعين رجلا من قريش ، منهم مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص‏‏ فلما وصل الخبر للنبي ندب المسلمين إليهم، وقال ‏‏:‏‏ هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله يُنْفِلُكُموها‏‏.‏‏

    فبدأ الناس ييستعدون للإنطلاق، البعض جهز سلاحا والبعض الأخر لم يجهز سلاح بل وسيلة نقل من ناقة و خلافة، إذ أنهم لم يعتقدوا بإحتمالية قيام الحرب.‏‏

    وكان أبو سفيان حينما أقترب من الحجاز يتحسس الأخبار ممن كان يلقى من المسافرين و القوافل، تخوفا على أموال قريش من المسلمين‏‏.‏‏ و وصله من بعض المسافرين‏‏ أن محمد قد استنفر المسلمين للقافلة، فأخذ حذره، و استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ، ليستنفر قريش للدفاع عن أموالهم، وليخبرهم بأن محمدا قد يهاجم القافلة‏‏.‏‏ فإنطلق ضمضم سريعا إلى مكة.

    ما أن وصل ضمضم مكة حتى جدع بعيره، وحوّل رحله، وشق قميصه ، و وقف فوق بعيره ببطن الوادي و هو يصرخ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، اللطيمةَ اللطيمةَ ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوثَ الغوثَ


    إستعداد قريش للخروج

    بدأت قريش بتجهيز سلاحها و رجالها للقتال، وقالوا‏‏:‏‏ أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ، كلا والله ليعلمن غير ذلك‏‏.‏‏ و أتفقوا أن يخرج جميع رجالها و ساداتها إلى محمد، فمن تخلف أرسل مكانه رجلا أخر، فلم يتخلف أحد من أشرافها عن الخروج‏‏ إلا أبو لهب، حيث أرسل العاصي بن هشام ابن المغيرة بدلا عنه، و ذلك لكون العاصي مدينا له بأربعة آلاف درهم، فاستأجره أبو لهب بها.

    و حاول أمية بن خلف التخلف، فقد كان شيخا ثقيلا ، فأتاه عقبة بن أبي معيط ، وهو جالس بين ظهراني قومه، بمجمرة يحملها ، و وضعها بين يديه قائلا‏‏:‏‏ يا أبا علي ، استجمر ، فإنما أنت من النساء، فرد عليه أمية‏‏:‏‏ قبحك الله وقبح ما جئت به، ثم جهز سلاحه و فرسه وخرج مع الناس.‏‏

    عند بدء التحرك تخوف البعض بسبب الحرب بين قريش و بين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة، إذ إعتقدوا ان يغدر بهم بنو بكر و هم منشغلون بملاقاة المسلمين. فقال سراقة بن مالك بن ‏جعشم المدلجي، و هو أحد أشراف بني كنانة‏‏:‏‏ أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه.

    يؤمن الكثير من المسلمين بأن من أجار قريش من بني بكر لم يكن سراقة بل كان إبليس، الشيطان، و هم يعتقدون أنه تقمص شكل سراقة و قال ما قال لقريش.


    حال المسلمين عند مغادرتهم المدينة

    يُعتقدُ بأن المسلمين غادروا المدينة يوم الأثنين الثامن من رمضان. و قد قام محمد بالطلب من عمرو بن أم مكتوم بإمامة الصلاة، بعض المصادر تذكر أن إسمه هو عبدالله بن أم مكتوم، و وضع المدينة تحت إدارة أبا لبابة.‏‏

    تذكر المصادر أن اللواء سُلّم إلى مصعب بن عمير وكان أبيض ‏‏اللون، بينما تذكر مصادرأخرى أنه كان أمام محمد (صلى الله عليه وسلم) رايتان سوداوان ، واحدة مع علي بن أبي طالب تسمى‏‏ العقاب، والأخرى مع الأنصار، و قيل أنها كانت مع سعد بن معاذ.

    واتعمل المسلمون سبعين بعيرا للسفر، و كانوا يتناوبون في الركوب عليها كل ثلاثة على جمل

    طريق المسلمين إلى بدر

    إنطلق المسلمون من المدينة بإتجاه مكة، مرورا بنقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحليفة، ثم على أولات الجيش (و قيل أم إسمها ذات الجيش). ‏‏ثم مر على تُرْبان، ثم على ملل، ثم غَميس الحمام من مريين، ثم على صخيرات اليمام، ثم على السيَّالة، ثم على فج الروحاء، إلى أن وصلو إلى عرق الظبية.

    ثم أكمل المسلمون طريقهم فمروا بسجسج، وهي بئر الروحاء، ثم وصلوا المنصرف، هنالك تركوا طريق مكة بيسار، و اتجهوا يمينا من خلال النازية بإتجاه بدر، إلى أن وصلوا وادي‏‏ رُحْقان، و هو وادٍ بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم وصلوا إلى المضيق، إلى أن إقتربوا من قرية الصفراء.

    هنا بعث محمد (صلى الله عليه وسلم) بسبس بن الجهني ،(من بني ساعدة) ، وعدي بن أبي الزغباء الجهني، (من بني النجار)، بمهمة إستكشافية إلى بدر ليحضرا له أخبار قافل أبي سفيان بن حرب. لدى وصول المسلمون قرية الصفراء، وهي تقع بين جبلي ، سأل محمد(صلى الله عليه وسلم) عن اسم الجبلين وعن أهل القرية، فأخبروه بأن الجبلين أحدما يطلق عليه اسم مسلح والآخر مخرىء، أما أهل القرية فهم بنو النار وبنو حراق، بطنان من بني غفار ، فكره المرور بينهم‏‏.‏‏ ثم تركهم و إتجه نحو اليمين إلى واد‏‏ ذَفِران.

    وصول خبر خروج قريش للمسلمين وحذرهم

    وصل خبر خروج جيش قريش إلى المسلمين، و لم يكن خروج المسلمين لقتال قريش هو خيار مطروح في الأصل، بل كان الخروج من أجل الغنيمة بالقافلة. كما أن الأنصار في بيعة العقبة إشترطوا حماية النبي محمد في المدينة فقط و تبرؤا من ذلك حتى دخوله اليهم في المدينة حيث قالوا له وقتها:

    يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا ، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا
    فقام النبي محمد بإستشارة من معه، فتكلم كل من أبو بكر و عمر بن الخطاب، ثم قام المقداد بن عمرو فقال:

    يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : " اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا ههنا قاعدون " ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه
    ثم وجه النبي كلامه إلى الأنصار قائلا :أشيروا علي أيها الناس، فقال له سعد بن معاذ :

    والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟
    فقال النبي محمد : أجل
    فقال سعد
    :

    فقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء . لعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله .
    فقال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): سيروا وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم

    أكمل بعدها المسلمون طريقهم من ذفران، فمروا بمنطقة تسمى الأصافر، ثم إلى بلد تسمى الدبة ثم جعلوا كثيب عظيم كالجبل العظيم يسمى الحنان على يمينهم، و نزلوا قريبا من بدر.

    و أنطلق بعدها النبي محمد و أبو بكر الصديق حتى وصلا إلى سفيان الضمري، أحد شيوخ العرب في المنطقة، فسأله النبي محمد عن قريش ، وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الضمري: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ؟ فقال له: إذا أخبرتنا أخبرناك

    فقال الضمري: أذاك بذاك ؟ ليجيبه محمد: نعم. فقال الضمري: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي أخبرني ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا ، (و هو المكان الذي وصله المسلمون فعلا) وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي فيه قريش . فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما ؟ فقالا: نحن من ماء، ثم إنطلقا

    فلما عادا إلى معسكر المسلمين، خرج علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص، إلى ماء بدر فأسروا غلمان لقريش يحضرون الماء منهم أسلم، و هو غلام بني الحجاج وعريض أبو يسار ، و هو غلام بني العاص بن سعيد، فأعادوهم إلى معسكر المسلمين، و كان النبي محمد يصلي، فأستجوبوهما فقالا : نحن سقاة قريش ، بعثونا نسقيهم من الماء. فلم يصدقوهما و ضربوهما. فإضطر الرجلان للكذب و قول أنهما ملك لأبي سفيان، ليطمع المسلمون بافدية فلا يضربوهم. فلما أنها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) صلاته قال لعلي و أصحابه:إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما ، صدقا ، والله إنهما لقريش أخبراني عن قريش ؟ قالا : هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى - والكثيب العقنقل - فقال لهما النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): كم القوم ؟ قالا : كثير قال: ما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ; قال: كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوما تسعا ، ويوما عشرا ، فقال: القوم فيما بين التسع مئة والألف . ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ، ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر بن نوفل ، وطعيمة بن عدي بن نوفل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود ، وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو ، وعمرو بن عبد ود . فخرج النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى المسلمين و قال لهم: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها .


    هروب أبو سفيان بالقافلة و طلبه من قريش العودة


    استطاعت "الاستخبارات الإسلامية" أن ترصد عملية هروب العير، وأرسل أبو سفيان إلى قريش أن القافلة قد نجت، ولا حاجة لهم في قتال أهل يثرب، لكن أبا جهل أبى إلا القتال، وقال قولته المشهورة: "لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم ثلاثا ننحر الجُزر، ونطعم الطعام، ونشرب الخمر، وتعزف القيان علينا، فلن تزال العرب تهابنا أبدا"، لكنّ "بني زهرة" لم تستجب لهذه الدعوة فرجعت ولم تقاتل

    المعركة

    وصل المشركون إلى بدر ونزلوا العدوة القصوى ، أما المسلمون فنزلوا بالعدوة الدنيا . وقام المسلمون ببناء عريش للرسول صلى الله عليه وسلم على ربوة ، وأخذ لسانه يلهج بالدعاء قائلا : " اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ؟ اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلن تعبد في الأرض " . وسقط ردائه صلى الله عليه وسلم عن منكبيه ، فقال له أبو بكر : " يا رسول الله ، إن الله منجز ما وعدك ".

    قام المسلمون بردم أبار بدر بعد أن استولوا عليه وشربوا منه - حتى لا يتمكن المشركون من الشرب منه . وقبل أن تبدأ المعركة ، تقدم ثلاثة من رجال قريش وهم : عتبة بن ربيعة ، وأخوه شيبة ، وولده الوليد يطلبون من يبارزهم من المسلمين . فتقدم ثلاثة من الأنصار ، فصرخوا بهم قائلين : " يا محمد ، أخرج إلينا نظراءنا من قومنا من بني عمنا" فقدم الرسول عليه الصلاة والسلام عبيدة بن الحارث ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب . فبارز حمزة شيبة فقتله ، وبارز علي الوليد فقتله ، وبارز عبيدة عتبة فجرحا بعضهما ، فهجم حمزة وعلي على عتبة فقتلاه . واشتدت رحى الحرب ، وحمي الوطيس . ولقد أمد الله المسلمين بالملائكة تقاتل معهم . ذكر القرآن : (( بلى إن تصبروا و تتقوا و يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ))وهكذا انتهت المعركة بنصر المسلمين وهزيمة المشركين ، حيث قتل من المشركين سبعون وأسر منهم سبعون آخرون . أما شهداء المسلمين فكانوا أربعة عشر شهيدا . ولقد رمى المسلمون جثث المشركين في البئر ، أما الأسرى فقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف 4000 درهم عن كل أسير امتثالا لمشورة أبي بكر ، أما من كان لا يملك الفداء فقد أعطه عشرة من غلمان المسلمين يعلمهم القراءة والكتابة .


    العودة إلى المدينة

    ثم ارتحل مؤيدا منصورا ، قرير العين بنصر الله له ومعه الأسارى والمغانم فلما كان بالصفراء ، قسم الغنائم وضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة ، ثم لما نزل بعرق الظبية ، ضرب عنق عقبة بن أبي معيط . ودخل النبي المدينة مؤيدا مظفرا منصورا قد خافه كل عدو له المدينة وحولها ، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة ، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه في الإسلام ظاهرا .

    فداء الأسرى

    ولقد اعطى الرسول الاسرى الحريه واطلق صراحهم بشرط ان كل من يعرف الكتابه والقرائه فل يعلم 10 من المسلمين الاميين

    معركة بدر . . وقائع ودروس وعبر



    الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد:

    شهر رمضان هو شهر الجهاد والتضحية ، والعز والتمكين ، وإن تاريخ المسلمين الزاخر بالأمجاد ليحدثنا عن جهاد المسلمين في شهر النصر أحاديث كتبت بنور الإيمان ودماء الشهداء الأبرار ، كما يحدثنا عن صور البطولة والعز ، والمجد الذي بناه السلف وضيّعه الخلف.

    وحديثنا عن معركة من معارك المسلمين الخالدة التي دارت رحاها في هذا الشهر الكريم ، ألا وهي معركة " بدر الكبرى " ، فقد كان يوم بدر يوم الفرقان بين أهل الكفر وأهل الإيمان ، كما قال تعالى { إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } [سورة الأنفال:41].
    وكان يوم بدر فرقاناً بين مرحلتين من تاريخ المسلمين وتشريعهم ، مرحلة الصبر على الأذى وتحمل الشدائد والصعاب ، والصبر على التعذيب والإهانة ، وبين مرحلة تشريع القتال وإيجابه ومشروعية تعقب أهل الكفر كما قال تعالى { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } [سورة الحج:39] ، وقال تعالى: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد } [سورة التوبة:25] ، وقال تعالى { فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } [سورة التوبة:12] ، وقال تعالى { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } [سورة التوبة:36] ، وقد استقر على ذلك التشريع دون نسخ أو إنساء.

    ومعركة بدر كانت مثالاً رائعاً للشجاعة النادرة التي يبذلها أهل الإيمان ومن يوقنون بوعد الله تعالى وفي ذلك يقول الله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } [سورة التوبة:111]. أولاً : وقائع الغزوة :
    إن معركة بدر لموقعة تستحق أن تكتب أحداثها بحروف من نور ، وأن يقف عندها التاريخ طويلا موقف إجلال وتأمل ، فقد خرج فيها المسلمون لا يزيد عددهم عن الثلاثمائة إلا قليلا ، ولم يُعِدّوا للأمر عدّته ، ولم يتخذوا له أهْبَتَه فلم يكن معهم إلا فَرَسان فرس للزبير بن العوام وفرس للمقداد بن الأسود ، وسبعون بعيراً يتعاقب الرجلان والثلاثة منهم على البعير الواحد ولم يحملوا معهم من السلاح إلا ما خف ، فلم يكن قصدهم القتال بل كانوا يقصدون العير [1] ،وبعد انفلات عير أبي سفيان وبلوغ ذلك إلى أهل مكة ، أخذهم الكبرياء وحب الفساد والغطرسة ، فقال طاغيتهم أبو جهل: ( والله لا نرجع حتى نَرِد بدرا فنقيم بها ثلاثا ، نشرب الخمر وننحر الجزور وتعزف لنا القيان وتسمع بنا العرب بمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا ) ، { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [سورة الأنفال:30].

    ونقلت استخبارات دولة الإسلام خبر قدوم قريش بقضّها وقضيضها وطواغيتها وفرسانها المدججين بالسلاح ، يدفعهم الغلُّ على أهل الإسلام ، يريدون استئصال شأفتهم وتدمير دينهم وهدم دولتهم ، فعقد النبي صلى الله عليه وسلم مجلسه العسكري الاستشاري لاستطلاع رأي قادة الجيش وأهل المشورة ، فتكلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فأحسن فدعا له النبي بخير ، وقام عمر الفاروق رضي الله عنه فتكلم فأحسن فدعا له بخير ، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يقول أشيروا علي أيها الناس.

    وهنا تجلت أعظم صور الحب لدين الله وللنبي صلى الله عليه وسلم والتضحية والفداء فقام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال بثبات المؤمن الصادق متحدثا بلسان قومه ، كلمات لم يعرف التاريخ لها مثيلا: "يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق نبيا لو سرت إلى برك الغماد لسرنا معك" ، وهنا تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له ولقومه بالخير.

    وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يكرر على الناس قوله: (أشيروا علي أيها الناس) ، فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه ، وكان حامل لواء الأنصار وزعيمهم ، فقال بلسان الواثق بوعد الله تعالى ، الواثق من موقف قومه أهل الصدق والبطولة والفداء: (لعلك تريدنا يا رسول الله [2] ، قال: أجل ، فقال سعد رضي الله عنه : فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فوالله لا يتخلف عنك اليوم منا رجل واحد ، ولو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله) ، فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد فقال: { سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم].

    ولقد جعل الله تعالى لنصر المؤمنين في هذه المعركة علامات ثبت بها قلوب أوليائه ، وزلزل بها قلوب أعدائه ، فأنزل الله تعالى عليهم النعاس أمنةً منه ، كما أنزل المطر فكان على المؤمنين طلاّ خفيفاً ، طهرهم به وثبت قلوبهم وأرجلهم ، وثبت به الأرض من تحت أقدامهم ، وأذهب عنهم به رجز الشيطان ، وكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم والعمل ، وكانت هذه أول أمارات وإرهاصات سير المعركة ونتيجتها ، قال تعالى { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام } [سورة الأنفال:11].

    وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيش الإيمان.

    وهنا يروي أهل السّير أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل أدنى ماء من مياه بدر ، فأشار عليه الحباب بن المنذر رضي الله عنه كخبير بالمواقع العسكرية بعد أن عرف أن نزول هذا المنزل ليس عن وحي ولكنه اجتهاد من القائد الأعلى ، فقال الحباب: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم يعني قريشا فننزله ونغور نخرب ما وراءه من القُلُب ثم نبني حوضا نملأه ماء فنشرب ولا يشربون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي.

    واقترح سعد بن معاذ في هذه الغزوة المباركة أن يبنى للنبي صلى الله عليه وسلم عريشا يقود منه المعركة ويصدر منه الأوامر ويشرف منه على مكان المعركة فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير وتم بناء العريش للنبي صلى الله عليه وسلم وانتخبت فرقة من شباب الأنصار لحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وقضى النبي صلى الله عليه وسلم ليله كله في ذكر لله تعالى وتسبيح ودعاء ، أن ينزّل نصره على هذه العصابة الضعيفة التي تدافع عن دينه وحرماته ، وظل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويتضرع إليه حتى سقط الرداء عن منكبه ، فقال له الصديق أبو بكر رضي الله عنه : (هون عليه يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك لقد وعدك الله إحدى الطائفتينِ).

    وقضى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليلتهم في هدوء وسكينة ، ولما انبلج الفجر وظهر ضوء النهار نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعدائه وقال: (اللهم إن هذه قريشا قد أقبلت بخيلائها وفخرها تُحادك وتُكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة) ، ثم عدّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف وأمر جنده أن لا يبدءوا القتال حتى يتلقوا منه الأمر بذلك.

    أما المشركون فقد استفتح لهم طاغوتهم قائلا: ( اللهم أقطعنا للرحم ، وأتانا بما لا نعرفه ، فأحنه الغداة ، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم) ، وفي ذلك يقول الله تعالى { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين } [سورة الأنفال:19].
    وكان من أوائل ما أشعل نار المعركة أن خرج ثلاثة من فرسان قريش وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة طالبين للمبارزة ، فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وعبد الله بن رواحة ، فقالوا: من أنتم؟ ، قالوا: رهط من الأنصار ، قالوا: أكفاء كرام ما لنا بكم حاجة إنما نريد بني عمنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا علىّ) ، فلما دنوا منهم وعرفوهم فقالوا: إياكم نريد ، فبارز عبيدة وكان أكبر القوم عتبة بن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز عليّ الوليد ، فأما حمزة وعليّ فلم يمهل كل منهما قرينه حتى أجهز عليه ، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرينه ضربتان ، فأثخن كل واحد منهما صاحبه ثم كرّ علىّ وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله ، فلم يزل كذلك حتى مات في طريق العودة إلى المدينة ، وكان علي رضي الله عنه يقسم بالله أن هذه الآية نزلت فيهم { هذان خصمان اختصموا في ربهم } [سورة الحج:19].
    وحمي وطيس المعركة وسط مناشدة النبي صلى الله عليه وسلم لربه واستدارت رحى الحرب والنبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه قائلا: { اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد اليوم] ، وأوحى الله إلى ملائكته { أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } وأوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم { أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين] ، ثم أغفى النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءة ثم رفع رأسه فقال: { أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع أي الغبار آخذ بعنان فرسه يقوده] ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عريشه وهو يَثِبُ في الدرع ويقول { سيهزم الجمع ويولون الدبر } ، وأخذ حفنة من التراب ورماها في وجوه المشركين ، فما منهم من أحد إلا وأصابه منها شيء ، وفي ذلك أنزل الله تعالى قوله { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه على القتال قائلا: ( والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( قوموا لجنة عرضها السماوات والأرض ) ، وحينئذ قال عمير بن الحمام: بخ بخ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما يحملك على قولك بخ بخ؟ ) ، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنت من أهلها ) ، وأخذ عمير تمرات كن في قرنه فألقى بها قائلا: لئن عشت حتى آكل تمراتي هذه إنها إذاً لحياة طويلة ، ثم قاتلهم حتى قتل رضي الله عنه .

    وسأل عوف بن الحارث نبي الله صلى الله عليه وسلم قائلا: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟ ، قال: ( غمسه يده في العدو حاسرا ) ، فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رضي الله عنه .

    وبدأت أمارات الفشل والاضطراب تظهر في صفوف المشركين بعدما نزلت الملائكة تقاتل مع المؤمنين وانسحب إبليس نصير المشركين بعد ما وعدهم بإعانتهم ثم خذلهم وقد جاء في صورة سراقة بن مالك المدلجي من المعركة ، وأخذت جموع المشركين في الفرار من وجه جند الله المؤمنين ، غير أن طاغوت المشركين أبا جهل أظهر تجلدا أمام قومه داعياً إياهم إلى الصمود والتصدي لهجمات المؤمنين ، وما لبث إلا قليلا حتى أخذت الجموع تهرب والصفوف تتصدع أمام هجمات أهل الإيمان.

    وهنا نسجل صورة من صور الفتيان الأبطال من المسلمين في قتال أئمة الكفر فبينما كان عبد الرحمن بن عوف بين غلامين صغيرين إذ قال له أحدهما سراً: يا عم أرني أبا جهل ، فقال له: يا أبن أخي وما تصنع به؟ ، قال: أُخبرت أنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم ، فوالذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سوداه حتى يموت الأعجل منا ، فتعجب عبد الرحمن بن عوف لذلك ، فغمزه الثاني قائلا له مثل ما قال الأول ، قال عبد الرحمن رضي الله عنه : فلم أنشب أن نظرت فإذا أبو جهل يجول بين الناس فأشرت إليهما وقلت لهما هذا صاحبكما ، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى أثخناه ، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرانه الخبر ، واحتزّ ابن مسعود رأس طاغية قريش وأتى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر ، الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : (هذا فرعون هذه الأمة).

    وصور أخرى من صور الولاء والبراء تتمثل في موقف مصعب بن عمير بعد انتهاء المعركة من أخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين ثم وقع في الأسر ، مر به وأحد الأنصار يشد يده ، فقال مصعب للأنصاري: شد يدك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك ، فقال له أخوه: أهذه وصاتك بي؟ ، فقال مصعب: إنه أخي دونك.

    وهكذا انتهت المعركة الفاصلة بنصر مبين للمسلمين ، وهزيمة ساحقة للمشركين كما لحقتهم خسائر فادحة حيث قتل منهم سبعون وأسر سبعون أكثرهم من القادة والصناديد.

    وأما المسلمون فقد استشهد منهم أربعة عشر رجلاً ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ، وقد تجلت نعمة الله على المسلمين في هذه الغزوة بالنصر والتمكين بعد الضعف ، وبالأمن والطمأنينة بعد الخوف ، وذلك فيما حكاه القرآن حيث قال تعالى { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون } [سورة الأنفال:26].

    ثانياً : بعض الدروس والعبر المستفادة من غزوة بدر :

    هذه بعض الدروس والعبر المستفادة من غزوة بدر الكبرى على وجه الانتقاء لا الحصر ، وعلى وجه الاختصار لا الإسهاب ومنها:

    1) جواز الخروج بقصد أخذ أموال الكفار ، إذ إن أموالهم ودماءهم مباحة للمسلمين.

    قال القرطبي رحمه الله: ( ودل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلقى العير على جواز النفير للغنيمة لأنها كسب حلال ). اهـ [3]

    2) أن الكفار ما يدفعهم إلى قتال المسلمين إلا حب الإفساد في الأرض ، والكبر وإرادة استئصال أهل الإسلام حتى لا يبقى في الأرض من يقول " لا إله إلا الله " ، وقد أخبرنا الله تعالى أن الكفار قد انبعثت همتهم لقتالنا حتى يردونا عن ديننا ولن يرضوا بأقل من ذلك قال تعالى { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } [سورة البقرة:217] ، فالحرب قائمة بين أهل الإيمان والكفر لا محالة ، ولو أراد المسلمون إيقافها فليس هناك ثمن يعطونه لذلك إلا دينهم ، كما قال تعالى { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [سورة البقرة:120].

    3) جواز اتخاذ العيون على الكفار وأهل الحرب ، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الصحابة للاستعلام عن حجم العدو ، كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ومعه صاحبه الصديق لنفس الغرض ، ولذا ينبغي على أمير القوم أن يستطلع عدوه ليُعدّ للأمر عدّته.

    4) أهمية مشورة القائد لأتباعه ، وخاصة أهل البصيرة والرأي والحكمة ومن له بصر بأمر الحروب.

    5) تبين غزوة بدر ما كان عليه الصحابة رجالاً وفتياناً رضوان الله عليهم من الشجاعة والبطولة والفداء وحب التضحية في سبيل الله تعالى ، وحب الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    6) تثبيت الله تعالى لعباده المؤمنين الذين يخرجون دفاعاً عن دينه وابتغاء مرضاته ، فقد أيدهم الله تعالى بالملائكة وإنزال المطر ، ورحمهم بالنعاس الذي ألقاه عليهم أمنة منه ، وبارك في عددهم وعدتهم حتى أظهرهم على عدوهم مع قلة عددهم وعدتهم.

    7) جواز الفتح على الأمير بما يفيد الجيش وإن لم يطلب المشورة في ذلك.

    8) شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبطولته حيث كان مع قومه في قلب المعركة وفي ميدانها ، بل كان يسوي صفوفهم بيده الشريفة الكريمة صلى الله عليه وسلم .

    9) أن النصر لا يتعلق بالأسباب بقدر ما يتعلق بتوفيق الله تعالى لعباده ، فالأسباب وإن كان مأمورا بها إلا أن أعظم عوامل النصر وأسبابه هو التضرع إلى الله تعالى ، وإظهار المذلة والخضوع بين يديه ، والإلحاح في الدعاء ، وحسن العبادة.

    10) أن الله تعالى لا يوفق من أشرك أوكفر به وعادى دينه ، وإن ظهر للناس غير ذلك ، فإن العاقبة للمتقين والآخرة خير وأبقى.

    11) جواز المبارزة وإظهار القوة أمام أعداء الله تعالى لإرهابهم وتقوية عزيمة المؤمنين.

    12) الرد على القدرية الذين يزعمون أن العبد ليس له أي كسب ، والذين يزعمون أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، فلقد أثبت الله لنبيه صلى الله عليه وسلم رميه بالتراب { إذ رميت } ومع ذلك جعل الأثر الأعظم لفعله سبحانه فقال تعالى { ولكن الله رمى } فللعبد فعل ولله تعالى فعل ، وفعل العبد سبب لظهور أثر فعل الله تعالى ، والله أعلم.

    13) جواز حمل الرجل على العدو حاسرا وليس هذا من قبيل الإلقاء في التهلكة ولكن من قبيل حب الشهادة وإهلاك النفس في سبيل الله تعالى.


    والحمد لله أولاً وآخراً

  6. #26
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية جبران حكمي
    عضو موقوف
    تاريخ التسجيل
    11 2007
    الدولة
    الاحساء
    المشاركات
    1,364

    رد: قصص عظيمة ومعارك جسيمة

    فتح بلاد فارس

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    حينما بُويِع أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) خليفةً للمسلمين في اليومِ التالي لوفاة (أبي بكر الصديق) في 22 من جمادى الآخرة 13 هـ الموافق 23 من آب 632 م، بدأ يُواجه الصِعاب والتحدّيات التي قابلتهُ مُنذُ اللحظةِ الأولى وبخاصة الموقف الحربي الدقيق لقوّات المسلمين (بالشام والعراق)، فأرسلَ على الفور جيشاً إلى العراق بقيادة (أبي عبيدة بن مسعود الثقفي) الذي دخلَ في معركةٍ متعجلةٍ مع الفُرس دون أن يرتـِّب قُواته، ولم يستمعْ إلى نصيحةِ قادةِ جيشهِ الذين نبـَّهوهُ إلى خطورةِ عُبورِ جِسر (نهر الفرات)، وأشاروا عليه بأنْ يدعَ الفرسَ يعبُرون إليه؛ لأنّ موقِفَ قواتِ المسلمين غربِي النهر أفضل، حتى إذا ما تحقّقَ للمسلمين النصر.. عَبروا الجسرَ بسهولة.. ولكن (أبا عبيدة) لم يستجبْ لهم، وهو ما أدّى إلىهزيمة المسلمين في موقعة (( الجسر ))، واستشهاد (أبي عبيدة بن مسعود) وأربعة آلاف من جيشالمسلمين.

    بعد تلك الهزيمة التي لحِقت بالمسلمين (في موقعة الجسر) سعى (المثنى بن حارثة الشيباني) إلى رفع الروحِ المعنوية لجيشِ المسلمين في محاولةٍ لمحوِ آثارِ الهزيمة، ومن ثم فقد عملَ على استدراجِ قواتِ الفرس للعبور غربي النهر، ونجح في دفعهم إلى العبور بعد أنْ غرّهم ذلكَ النصرُ السريع الذي حقَّقوه على المسلمين، ففاجأهم (المثنى) بقوَّاتهِ وألحقَ بهم هزيمةً مُنكرة على حافةِ نهر (البويب) الذي سُمّيت به تلك المعركة... ((معركة البويب)).
    وصلتْ أنباءُ ذلك النصر إلى الخليفة (عمر الفاروق) في (المدينة المنورة)، فأرادَ الخروجَ بنفسهِ على رأسِ جيشٍ لقتالِ الفرس، ولكن الصحابةَ الكِرام أشاروا عليه أن يختارَ واحداً غيره مِن قادةِ المسلمين ليكونَ على رأسِ الجيش، ورشَّحوا له (سعد بن أبيوقاص) فأمـَّرهُ (عمر بن الخطاب) على الجيش الذي اتـّجهَ إلى العراق حيث عسكَرَ في (( القادسية )) وأرسل (سعد بن أبي وقاص) وفداً مِن رجاله إلى (بروجرد الثالث) ملك الفُرس؛ ليعرِضَ عليه الإسلام على أن يبقى في مُلكِهِ ويُخيـِّرهُ بين ذلك.. أو الجزية.. أوالحرب، ولكنّ الملِكَ قابلَ الوفدَ بصَلَفٍ وغُرور، وأبى إلاّ الحرب، فدارت الحربُ بينالفريقين، واستمرت المعركة أربعة أيام حتى أسفرت عن انتصار المسلمين في ((معركة القادسية ))، ومُنِيَ جيشُ الفرسِ بهزيمةٍ ساحقة، وقُتلَ قائِدهُ (رستم)،وكانت هذه المعركة مِنْ أهمّ المعاركِ الفاصلةِ في التاريخ الإسلامي، فقد أعادتْ (( العراق )) إلى العربِ والمسلمين بعد أن خضعت لسيطرةِ الفُرسِ قروناً طويلة، وفتحَذلكَ النصرُ الطريقَ أمامَ المسلمين للمزيدِ مِنَ الفتوحات.



    الطريق مِنَ المدائنِ إلى نهاوند



    أصبح الطريقُ إلى (المدائن) عاصمة الفرس ممهداً أمام المسلمين، فأسرعوا بعبور نهر (دجلة)، واقتحموا المدائن، بعد أن فرَّ منها الملك الفارسي، ودخل (سعد بن أبي وقّاص) القصر الأبيض (مقر ملكِ الأكاسرة) فصلّى في إيوان كسرى صلاة الشكر لله على ما أنعمَ عليهم مِنَ النصر العظيم، وأرسل (سعد بن أبي وقاص) إلى (عمر بن الخطاب) يبشـّرهُ بالنصر، ويسوق إليه ما غنِمهُ المسلمون مِنْ غنائمَ.
    بعد فرارِ ملكِ الفرس مِن (المدائن) اتجهَ إلى (نهاوند) حيثُ احتشدَ في جموعٍ هائلةٍ بلغت (مائتي ألف جندي)، فلما علِمَ (عمر بن الخطاب) بذلك استشارَ أصحابهُ، فأشاروا عليه بتجهيزِ جيشٍ لردعِ الفرسِ والقضاءِ عليهم قبلَ أنْ ينقَضـُّوا على المسلمين، فأرسل (عمر بن الخطاب) جيشاً كبيراً بقيادةِ (النعمان بن مقرن) على رأس (أربعين ألف مقاتل)، فاتجه إلى (نهاوند)، ودارتْ معركةٌ كبيرةٌ انتهت بانتصارِ المسلمين، وإلحاقِ هزيمةٍ ساحقةٍ بالفرس، فتفرّقوا وتشتـّت جمعُهُم بعد هذا النصر العظيم الذي أُطلق عليه (( فتح الفتوح ))

    انتصار القادسية

    استطاع سعد في نحو عشرة آلاف فارس أن يحقق نصرًا ساحقًا على الفرس في القادسية، وكان قائد الفرس حينذاك "رستم" ذا الحاجب على رأس جيش بلغ مائة وعشرين ألف مقاتل، حيث دارت معركة عنيفة كانت من أهم المعارك في التاريخ بين المسلمين والفرس، واستمرت المعركة عدة أيام، حتى تحقق النصر للمسلمين، وفر رستم وجنوده، وغنم المسلمون فيها مغانم كثيرة.

    كان انتصار المسلمين في القادسية دافعًا لهم للاستمرار في زحفهم نحو المدائن عاصمة الفرس، وسار سعد بجنوده حتى وصل إلى بهرسير وكانت إحدى حواضر فارس، فنزل سعد قريبًا منها، وأرسل مجموعة من جنوده لاستطلاع الموقف، وعاد هؤلاء الجنود وهم يسوقون أمامهم آلافًا من الفلاحين، من أهل تلك المدينة.

    وحيثما علم "شيرزار" دهقان (أمير) "ساباط" بالأمر أرسل إلى سعد يطلب منه إطلاق سراح هؤلاء الفلاحين، ويخبره أنهم ليسوا مقاتلين، وإنما هم مجرد مزارعين أُجراء، وأنهم لم يقاتلوا جنوده؛ فكتب سعد إلى عمر يعرض عليه الموقف ويسأله المشورة: "إنا وردنا بهرسير بعد الذي لقينا فيما بين القادسية وبهرسير، فلم يأت أحد لقتال، فبثثت الخيول، فجمعت الفلاحين من القرى والآجام.. فرأيك".

    فأجابه عمر: "إن من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به".. فلما جاءه خطاب عمر خلى سعد سبيلهم.

    حصار.. وفتح

    وأرسل سعد إلى الدهاقين (رؤساء المدن والأقاليم) يدعوهم إلى الإسلام على أن يكون لهم ما هم عليه من الإمارة والحكم، أو الجزية ولهم الذمة والمنعة، فدخل كثير منهم الإسلام لما وجدوه من سماحة المسلمين وعدلهم -مع ما هم عليه من بأس وقوة- ولكن بهرسير امتنعت عنه، وظن أهلها أن حصونها تحول دون فتح المسلمين لها، فحاصرها سعد بجنوده طوال شهرين يرمونها بالمجانيق، ويدكونها بالدبابات التي صنعوها من الجلود والأخشاب؛ وكان الجنود يحتمون بها وهم يعاودون مهاجمة أسوار المدينة المرة بعد الأخرى، ويقاتلونهم بكل عدة.

    ولكن المدينة كانت محصّنة فنصب سعد حولها عشرين منجنيقًا في أماكن متفرقة ليشغلهم ويصرفهم عن ملاحظة تقدم فرسانه نحو المدينة لاقتحامها.

    وأحس الفرس بمحاولة المسلمين اقتحام المدينة؛ فخرج إليهم عدد كبير من الجنود الفرس ليقاتلوهم ويمنعوهم من دخول المدينة، وضرب المسلمون أروع الأمثلة في البطولة والفداء، وقوة التحمّل والحرص على الشهادة، وكان القائد "زُهْرة بن الجويّة" واحدا من أولئك الأبطال الشجعان الذين سطّروا بدمائهم ملحمة الانتصار، وكان عليه درع مفصومة، فأرادوا أن يصلحوها له قبل أن يخرج للقتال حتى لا يصيبه سهم من خلالها، ولكنه أبى، وقال: "إني لكريم على الله، إن ترك سهمُ فارس الجندَ كلَّه ثم أتاني من هذا الفصم حتى يثبت فيّ!".

    وانطلق يقاتل في جرأة وشجاعة، حتى أصيب بسهم في ذلك الفصم، فتحامل على نفسه حتى استطاع أن يصل إلى قائد الفرس "شهْربَرَاز"، فضربه بسيفه فقتله.. وما إن رأى جنود الفرس قائدهم يسقط على الأرض مدرجًا في دمائه حتى تملكهم الهلع والذعر، وتفرق جمعهم، وتتشتت فرسانهم، وانطلقوا يفرون على غير هدى إلى الجبال.

    وظل المسلمون يحاصرون بهرسير بعد أن فر الجنود والتحقوا بالفيافي والجبال، واشتد حصار المسلمين على المدينة؛ حتى اضطر أهلها إلى أكل الكلاب والقطط، فأرسل ملكهم إلى المسلمين يعرض الصلح على أن يكون للمسلمين ما فتحوه إلى دجلة، ولكن المسلمين رفضوا وظلوا يحاصرون المدينة، ويضربونها بالمجانيق، واستمر الحال على ذلك فترة من الوقت.

    وبدت المدينة هادئة يخيم عليها الصمت والسكون، وكأنه لا أثر للحياة فيها، فحمل المسلمون عليها ليلاً، وتسلقوا أسوارها وفتحوها، ولكن أحدًا لم يعترضهم من الجنود، ولم يجدوا فيها إلا عددًا من السكان ساقوهم أسرى.. ودخل المسلمون بهرسير فاتحين بعد أن حاصروها زمنًا طويلاً.

    الصلاة بإيوان كسرى

    كان الظلام قد أرخى سدوله على المدينة، وكان ضوء القمر يرسم أشباح المنازل القابعة في أحضان سور المدينة العالي الحصين، وانتشر فرسان المسلمين ليحكموا سيطرتهم على المدينة، وفجأة لاح لهم قصر كسرى الشامخ بلونه الأبيض وبنائه السامق العجيب؛ فراحوا يكبرون.. وهم يتذكرون وعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرش كسرى، وانطلق تكبيرهم يشق سكون الليل ويتردد في الفضاء.

    ودخل سعد مع جنوده القصر الأبيض، وصلى في إيوان كسرى شكرًا لله على النصر.. فقد كان انتصار المسلمين وفتحهم لمدينة بهرسير الحصينة هو بداية الطريق إلى فتح "المدائن" عاصمة الفرس المنيعة القوية.‏‏



    لا يخفى على التاريخ ولا عليكم

    ان من قام بفتح بلاد فارس(العراق وايران حاليا) وكان احدى الاسباب فى دخول اهلها الى

    دين الاسلام هو ابو بكر وعمر رضى الله عنهما فيتضح للعاقل المتدبر ان هذه الهجمة التى تشن

    على ابو بكر وعمر رضى الله عنهما انما اتت من قبل الذين يعادون الدين الاسلامى ويريدون

    هدمه فعمر بن الخطاب هو من قهر المجوس بفتحه بلاد فارس ودخول اهلها فى دين الله

    افواجا فهو بذلك له الفضل على مسلمى العراق وايران فهل اذا كان من المنافقين كما تدعون

    والعياذ بالله هل كان لينشر الاسلام ويكون السبب فى دخول الناس الى دين الله افواجا فهذا

    يتنافى مع صفة المنافقين لمن يرى ويتدبر فهل تروا معى ان هذه الهجمة التى على ابو بكر

    وعمر رضى الله عنهما ليست الا من المجوس الذين انتظروا حتى تمكنوا فسبوا ولعنوا فاتبعهم

    جهال القوم بدون علم ودون ان يلاحظوا ان ابو بكر وعمر هم احدى الاسباب فى دخولهم الاسلام

    ام انهم كانوا يفضلوا الكفر على ان يكون ابو بكر وعمر رضى الله عنهم هم سبب دخواهم فى

    الاسلام فهل من عاقل ومتدبر ليتدبر هذا البيان الجلى الذى لا يراه الا العاقلون !!!

  7. #27
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية جبران حكمي
    عضو موقوف
    تاريخ التسجيل
    11 2007
    الدولة
    الاحساء
    المشاركات
    1,364

    رد: قصص عظيمة ومعارك جسيمة

    من انبياء بنى اسرائيل قصة حزقيل

    قال محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه: إن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه بعد يوشع خلف في بني إسرائيل حزقيل بن بوذي، وهو ابن العجوز، وهو الذي دعا القوم الذين ذكرهم الله في كتابه فيما بلغنا
    قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.

    قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه : إن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه بعد يوشع خلف في بني إسرائيل حزقيل بن بوذى وهو ابن العجوز وهو الذي دعا للقوم الذين ذكرهم الله في كتابه فيما بلغنا.

    {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ}



    قال ابن إسحاق: فروا من الوباء فنزلوا بصعيد من الأرض فقال لهم الله موتوا فماتوا جميعاً فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، فمضت عليهم دهور طويلة فمر بهم حزقيل عليه السلام فوقف عليهم متفكراً

    فقيل له: أتحب أن يبعثهم الله وأنت تنظر؟

    فقال: نعم. فأمر أن يدعو تلك العظام أن تكتسي لحماً وأن يتصل العصب بعضه ببعض فإذا هم عن أمر الله له بذلك، فقام القوم أجمعون وكبروا تكبيرة رجل واحد.



    عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}.
    قالوا: كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط، وقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها، فنزلوا ناحية منها، فهلك من بقي في القرية، وسلم الآخرون فلم يمت منهم كثير، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين،

    فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا بقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم. فوقع فيهم مرة اخرى، فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفاً، حتى نزلوا ذلك المكان، وهو واد أفيح،

    فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا فماتوا حتى إذا هلكوا وبقيت أجسادهم

    ومرّ بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم، ويلوي شدقيه وأصابعه،

    فأوحى الله إليه: تريد أن أريك كيف أحييهم؟

    قال: نعم. وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم،

    فقيل له: ناد. فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً فاكتست لحماً ودماً وثيابها التي ماتت فيها.

    ثم قيل له: ناد.

    فنادى: أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي فقاموا.



    قال أسباط: فزعم منصور عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا "سبحانك الله وبحمدك لا إله إلا أنت"

    فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوباً إلا عاد رسماً، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.



    وعن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه ثمانية آلاف،

    وعن أبي صالح تسعة آلاف، وعن ابن عباس أيضاً كانوا أربعين ألفاً.

    وعن سعيد بن عبد العزيز كانوا من أهل أذرعات.



    وقال ابن جريج عن عطاء: هذا مثل. يعني أنه سيق مثلاً مبيناً أنه لن يغني حذر من قدر!



    عن عبد الله بن عباس، أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء وقع بالشام. فذكر الحديث. يعني في مشاورته المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه

    فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً ببعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علماً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه"

    فحمد الله عمر ثم انصرف.

    وقال الإمام أحمد: أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه. قال: فرجع عمر من الشام.


    قال محمد بن إسحاق ولم يذكر لنا مدة لبث حزقيل في بني إسرائيل ثم إن الله قبضه إليه، فلما قبض نسي بنو إسرائيل عهد الله إليهم وعظُمت فيهم الأحداث وعبدوا الأوثان وكان من جملة ما يعبدونه من الأصنام صنم يقال له بعل، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.

    و قد ذكرنا قصته عليه السلام


    القصة:

    قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه إن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه بعد يوشع، خلف في بني إسرائيل حزقيل بن بوذى وهو ابن العجوز وهو الذي دعا للقوم الذين ذكرهم الله في كتابه فيما بلغنا:
    (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ))
    قال ابن إسحاق فروا من الوباء فنزلوا بصعيد من الأرض، فقال لهم الله: موتوا. فماتوا جميعا فحظروا عليهم حظيرة دون السباع فمضت عليهم دهور طويلة، فمر بهم حزقيل عليه السلام
    فوقف عليهم متفكرا فقيل له: أتحب أن يبعثهم الله وأنت تنظر؟ فقال: نعم. فأمر أن يدعو تلك العظام أن تكتسي لحما وأن يتصل العصب بعضه ببعض. فناداهم عن أمر الله له بذلك فقام القوم أجمعون وكبروا تكبيرة رجل واحد.
    وقال أسباط عن السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة في قوله:
    (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ))
    قالوا: كانت قرية يقال لها: "داوردان"، قبل "واسط" وقع بها الطاعون فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون فلم يمت منهم كثير فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا بقينا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم.
    فوقع في قابل فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفا حتى نزلوا ذلك المكان وهو واد أفيح، فناداهم ملك من أسفل الوادى وآخر من أعلاه: أن موتوا. فماتوا حتى إذا هلكوا وبقيت أجسادهم مر بهم نبى يقال له: حزقيل. فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوى شدقيه وأصابعه،
    فأوحى الله إليه: تريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال: نعم. وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم فقيل له: ناد. فنادى: يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي. فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى كانت أجسادا من عظام ثم أوحى الله إليه؛ أن ناد: يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسى لحما. فاكتست لحما ودما وثيابها التي ماتت فيها. ثم قيل له: ناد. فنادى: أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومى. فقاموا.
    قال أسباط: فزعم منصور عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت. فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا إلا عاد كفنا دسما حتى ماتوا لآجالهم التى كتبت لهم.
    وعن ابن عباس؛ أنهم كانوا أربعة آلاف. وعنه: ثمانية آلاف. وعن أبي صالح: تسعه آلاف. وعن ابن عباس أيضا: كانوا أربعين ألفا. وعن سعيد بن عبد العزيز: كانوا من أهل "أذرعات". وقال ابن جريج عن عطاء: هذا مثل. يعنى أنه سيق مثلا مبينا أنه لن يغني حذر من قدر. وقول الجمهور أقوى؛ أن هذا وقع.
    وقد روى الإمام أحمد وصاحبا "الصحيح" من طريق الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء وقع بالشام، فذكر الحديث. يعني في مشاورته المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا ببعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علما؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض؛ فلا تقدموا عليه فحمد الله عمر ثم انصرف.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج ويزيد المعني قالا: حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه قال: فرجع عمر من الشام . وأخرجاه من حديث مالك عن الزهري بنحوه.
    قال محمد بن إسحاق: ولم يذكر لنا مدة لبث حزقيل في بني إسرائيل، ثم إن الله قبضه إليه، فلما قبض نسي بنو إسرائيل عهد الله إليهم، وعظمت فيهم الأحداث وعبدوا الأوثان، وكان في جملة ما يعبدونه من الأصنام صنم يقال له: بعل. فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران. قلت: وقد قدمنا قصة إلياس تبعا لقصة الخضر؛ لأنهما يقرنان في الذكر غالبا، ولأجل أنها بعد قصة موسى في سورة "الصافات" فتعجلنا قصته لذلك. والله أعلم. قال محمد بن إسحاق فيما ذكر له عن وهب بن منبه قال: ثم تنبأ فيهم بعد إلياس وصيه اليسع بن أخطوب، عليه السلام

  8. #28
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية جبران حكمي
    عضو موقوف
    تاريخ التسجيل
    11 2007
    الدولة
    الاحساء
    المشاركات
    1,364

    رد: قصص عظيمة ومعارك جسيمة

    إدريس عليه السلام


    قال الله تعالى بشأنه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 56-57].
    كان صديقا نبيا ومن الصابرين، أول نبي بعث في الأرض بعد آدم، وهو أبو جد نوح، أنزلت عليه ثلاثون صحيفة، ودعا إلى وحدانية الله وآمن به ألف إنسان، وهو أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبسها، وأول من نظر في علم النجوم وسيرها.


    سيرته:

    إدريس عليه السلام هو أحد الرسل الكرام الذين أخبر الله تعالى عنهم في كتابة العزيز، وذكره في بضعة مواطن من سور القرآن، وهو ممن يجب الإيمان بهم تفصيلاً أي يجب اعتقاد نبوته ورسالته على سبيل القطع والجزم لأن القرآن قد ذكره باسمه وحدث عن شخصه فوصفه بالنبوة والصديقية.

    نسبه:

    هو إدريس بن يارد بن مهلائيل وينتهي نسبه إلى شيث بن آدم عليه السلام واسمه عند العبرانيين (خنوخ) وفي الترجمة العربية (أخنوخ) وهو من أجداد نوح عليه السلام. وهو أول بني آدم أعطي النبوة بعد (آدم) و (شيث) عليهما السلام، وذكر ابن إسحاق أنه أول من خط بالقلم، وقد أدرك من حياة آدم عليه السلام 308 سنوات لأن آدم عمر طويلاً زهاء 1000 ألف سنة.

    حياته:

    وقد أختلف العلماء في مولده ونشأته، فقال بعضهم إن إدريس ولد ببابل، وقال آخرون إنه ولد بمصر والصحيح الأول، وقد أخذ في أول عمره بعلم شيث بن آدم، ولما كبر آتاه الله النبوة فنهي المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة (آدم) و (شيث) فأطاعه نفر قليل، وخالفه جمع خفير، فنوى الرحلة عنهم وأمر من أطاعه منهم بذلك فثقل عليهم الرحيل عن أوطانهم فقالوا له، وأين نجد إذا رحلنا مثل (بابل) فقال إذا هاجرنا رزقنا الله غيره، فخرج وخرجوا حتى وصلوا إلى أرض مصر فرأوا النيل فوقف على النيل وسبح الله، وأقام إدريس ومن معه بمصر يدعو الناس إلى الله وإلى مكارم الأخلاق. وكانت له مواعظ وآداب فقد دعا إلى دين الله، وإلى عبادة الخالق جل وعلا، وتخليص النفوس من العذاب في الآخرة، بالعمل الصالح في الدنيا وحض على الزهد في هذه الدنيا الفانية الزائلة، وأمرهم بالصلاة والصيام والزكاة وغلظ عليهم في الطهارة من الجنابة، وحرم المسكر من كل شي من المشروبات وشدد فيه أعظم تشديد وقيل إنه كان في زمانه 72 لساناً يتكلم الناس بها وقد علمه الله تعالى منطقهم جميعاً ليعلم كل فرقة منهم بلسانهم. وهو أول من علم السياسة المدنية، ورسم لقومه قواعد تمدين المدن، فبنت كل فرقة من الأمم مدناً في أرضها وأنشئت في زمانه 188 مدينة وقد اشتهر بالحكمة فمن حكمة قوله (خير الدنيا حسرة، وشرها ندم) وقوله (السعيد من نظر إلى نفسه وشفاعته عند ربه أعماله الصالحة) وقوله (الصبر مع الإيمان يورث الظفر).
    وفاته:

    وقد أُخْتُلِفَ في موته.. فعن ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف قال: سأل ابن عباس كعباً وأنا حاضر فقال له: ما قول الله تعالى لإدريس {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}؟ فقال كعب: أما إدريس فإن الله أوحى إليه: أني أرفع لك كل يوم مثل جميع عمل بني آدم - لعله من أهل زمانه - فأحب أن يزداد عملاً، فأتاه خليل له من الملائكة، فقال "له": إن الله أوحى إلي كذا وكذا فكلم ملك الموت حتى ازداد عملاً، فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدراً، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس، فقال: وأين إدريس؟ قال هو ذا على ظهري، فقال ملك الموت: يا للعجب! بعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟! فقبض روحه هناك. فذلك قول الله عز وجل {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}. ورواه ابن أبي حاتم عند تفسيرها. وعنده فقال لذلك الملك سل لي ملك الموت كم بقي من عمري؟ فسأله وهو معه: كم بقي من عمره؟ فقال: لا أدري حتى أنظر، فنظر فقال إنك لتسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك إلى تحت جناحه إلى إدريس فإذا هو قد قبض وهو لا يشعر. وهذا من الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة.

    وقول ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال: إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى. إن أراد أنه لم يمت إلى الآن ففي هذا نظر، وإن أراد أنه رفع حياً إلى السماء ثم قبض هناك. فلا ينافي ما تقدم عن كعب الأحبار. والله أعلم.

    وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} : رفع إلى السماء السادسة فمات بها، وهكذا قال الضحاك. والحديث المتفق عليه من أنه في السماء الرابعة أصح، وهو قول مجاهد وغير واحد. وقال الحسن البصري: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال: إلى الجنة، وقال قائلون رفع في حياة أبيه يرد بن مهلاييل والله أعلم. وقد زعم بعضهم أن إدريس لم يكن قبل نوح بل في زمان بني إسرائيل.

    قال البخاري: ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس أن إلياس هو إدريس، واستأنسوا في ذلك بما جاء في حديث الزهري عن أنس في الإسراء: أنه لما مرّ به عليه السلام قال له مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ولم يقل كما قال آدم و إبراهيم: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، قالوا: فلو كان في عمود نسبه لقال له كما قالا له.

    وهذا لا يدل ولابد، قد لا يكون الراوي حفظه جيداً، أو لعله قاله على سبيل الهضم والتواضع، ولم ينتصب له في مقام الأبوة كما انتصب لآدم أبي البشر، وإبراهيم الذي هو خليل الرحمن، وأكبر أولي العزم بعد محمد صلوات الله عليهم أجمعين.


    والله اعلم

  9. #29
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية جبران حكمي
    عضو موقوف
    تاريخ التسجيل
    11 2007
    الدولة
    الاحساء
    المشاركات
    1,364

    رد: قصص عظيمة ومعارك جسيمة

    الأبرص والأقرع والأعمى



    اقتضت حكمة الله جل وعلا أن تكون حياة الإنسان في هذه الدار مزيجاً من السعادة والشقاء ، والفرح والترح ، والغنى والفقر والصحة والسقم ، وهذه هي طبيعة الحياة الدنيا سريعة التقلب ، كثيرة التحول كما قال الأول :


    وهو جزء من الابتلاء والامتحان الذي من أجله خلق الإنسان : {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً } (الانسان 2) .
    وربنا جل وعلا سبحانه يبتلي عباده بالضراء كما يبتليهم بالسراء ، وله على العباد عبودية في الحالتين ، فيما يحبون وفيما يكرهون .

    فأما المؤمن فلا يجزع عند المصيبة ، ولا ييأس عند الضائقة ، ولا يبطر عند النعمة بل يعترف لله بالفضل والإنعام ، ويعمل جاهدا على شكرها وأداء حقها .

    وأما الفاجر والكافر فيَفْرَق عند البلاء ، ويضيق من الضراء ، فإذا أعطاه الله ما تمناه ، وأسبغ عليه نعمه كفرها وجحدها ، ولم يعترف لله بها ، فضلا عن أن يعرف حقها ، ويؤدي شكرها .

    وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم- عن هذين الصنفين من الناس ، الكافرين بالنعمة ، والشاكرين لها ، في القصة التي أخرجها البخاري و مسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى ، فأراد الله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكا ، فأتى الأبرص ، فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، ويذهب عني الذي قد قَذِرَني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه قَذَرُه ، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل ، قال : فأعطي ناقة عُشَراء ، فقال : بارك الله لك فيها ، قال : فأتى الأقرع فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال شعر حسن ، ويذهب عني هذا الذي قد قَذِرَني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه ، وأعطي شعرا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : البقر ، فأعطي بقرة حاملا ، فقال : بارك الله لك فيها ،قال : فأتى الأعمى ، فقال : أي شيء أحب إليك ، قال : أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس ، قال : فمسحه فرد الله إليه بصره ، قال : فأي المال أحب إليك ، قال : الغنم ، فأعطي شاة والدا ، فأنتج هذان وولد هذا ، قال : فكان لهذا واد من الإبل ، ولهذا واد من البقر ، ولهذا واد من الغنم ، قال : ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيرا أتَبَلَّغُ عليه في سفري ، فقال : الحقوق كثيرة : فقال له : كأني أعرفك ، ألم تكن أبرص يَقْذَرُك الناس ؟! فقيرا فأعطاك الله ؟! فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر ، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت ، قال : وأتى الأقرع في صورته ، فقال له مثل ما قال لهذا ، ورد عليه مثل ما رد على هذا ، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت ، قال : وأتى الأعمى في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك ، شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري ، فخذ ما شئت ودع ما شئت ، فوالله لا أَجْهَدُكَ اليوم شيئا أخذته لله ، فقال : أمسك مالك ، فإنما ابتليتم ، فقد رُضِيَ عنك ، وسُخِطَ على صاحبيك ).

    إنها قصة ثلاثة نفر من بني إسرائيل ، أصيب كل واحد منهم ببلاء في جسده ،فأراد الله عز وجل أن يختبرهم ، ليظهر الشاكر من الكافر ، فأرسل لهم مَلَكـًا ، فجاء إلى الأبرص فسأله عن ما يتمناه ، فتمنى أن يزول عنه برصه ، وأن يُعطى لونا حسنا وجلدا حسنا ، فمسحه فزال عنه البرص ، وسأله عن أحب المال إليه ، فاختار الإبل ، فأعطي ناقة حاملاً، ودعا له الملك بالبركة ، ثم جاء إلى الأقرع ، فتمنى أن يزول عنه قرعه ، فمسحه فزال عنه، وأعطي شعرا حسنا ، وسأله عن أحب المال إليه فاختار البقر ، فأعطي بقرة حاملاً ، ودعا الملك له بالبركة ، ثم جاء الأعمى ، فسأله كما سأل صاحبيه ، فتمنى أن يُرَدَّ عليه بصره ، فأعطي ما تمنى ، وكان أحب الأموال إليه الغنم ، فأعطي شاة حاملاً .

    ثم مضت الأعوام ، وبارك الله لكل واحد منهم في ماله ، فإذا به يملك واديـًا من الصنف الذي أخذه ، فالأول يملك واديـًا من الإبل ، والثاني يملك واديـًا من البقر ، والثالث يملك واديـًا من الغنم ، وهنا جاء موعد الامتحان الذي يفشل فيه الكثير وهو امتحان السراء والنعمة ، فعاد إليهم الملك ، وجاء كلَّ واحد منهم في صورته التي كان عليها ليذكر نعمة الله عليه ، فجاء الأول على هيئة مسافر فقير أبرص ، انقطعت به السبل وأسباب الرزق ، وسأله بالذي أعطاه الجلد الحسن واللون الحسن ، والمال الوفير ، أن يعطيه بعيرًا يواصل به سيره في سفره ، فأنكر الرجل النعمة ، وبخل بالمال ، واعتذر بأن الحقوق كثيرة ، فذكَّره الملك بما كان عليه قبل أن يصير إلى هذه الحال ، فجحد وأنكر ، وادعى أنه من بيت ثراء وغنى ، وأنه ورث هذا المال كابرا عن كابر ، فدعا عليه المَلَك إن كان كاذبـًا أن يصير إلى الحال التي كان عليها ، ثم جاء الأقرع في صورته ، وقال له مثل ما قال للأول ، وكانت حاله كصاحبه في الجحود والإنكار ، أما الأعمى فقد كان من أهل الإيمان والتقوى ، ونجح في الامتحان ، وأقر بنعمة الله عليه ، من الإبصار بعد العمى ، و الغنى بعد الفقر ، ولم يعط السائل ما سأله فقط ، بل ترك له الخيار أن يأخذ ما يشاء ، ويترك ما يشاء ، وأخبره بأنه لن يشق عليه برد شيء يأخذه أو يطلبه من المال ، وهنا أخبره الملك بحقيقة الأمر وتحقق المقصود وهو ابتلاء للثلاثة ، وأن الله رضي عنه وسخط على صاحبيه .

    إن هذه القصة تبين بجلاء أن الابتلاء سنة جارية وقدر نافذ ، يبتلي الله عباده بالسراء والضراء والخير والشر ، فتنة واختباراً كما قال سبحانه : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } (الأنبياء 35 ) ، ليتميز المؤمن من غيره ، والصادق من الكاذب :{ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } (العنكبوت 1-2 ) فبالفتنة تتميَّز معادن الناس ، فينقسمون إلى مؤمنين صابرين ، وإلى مدَّعين أو منافقين ، وعلى قدر دين العبد وإيمانه يكون البلاء ، وفي المسند عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاء ؟ قال : ( الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل من الناس ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة ) .

    كما تشير القصة إلى معنىً عظيم ، وهو أن الابتلاء بالسراء والرخاء قد يكون أصعب من الابتلاء بالشدة والضراء ، وأن اليقظة للنفس في الابتلاء بالخير ، أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر .

    وذلك لأن الكثيرين قد يستطيعون تحمُّل الشدَّة والصبر عليها، ولكنهم لا يستطيعون الصبر أمام هواتف المادَّة ومغرياتها .

    كثير هم أولئك الذين يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف ، ولكن قليل هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة .كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل ، ولكن قليل هم الذين يصبرون على الغنى والثراء ، وما يغريان به من متاع ، وما يثيرانه من شهوات وأطماع ، كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء ، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الرغائب والمناصب .

    وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول : "ابتُلينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالضراء فصبرنا ، ثم ابتلينا بالسَّرَاء بعده فلم نصبر " .

    ولعل السر في ذلك أن الشدَّة تستنفر قوى الإنسان وطاقاته ، وتثير فيه الشعور بالتحدِّي والمواجهة ، وتشعره بالفقر إلى الله تعالى ، وضرورة التضرُّع واللجوء إليه فيهبه الله الصبر ، أما السراء ، فإن الأعصاب تسترخي معها ، وتفقد القدرة على اليقظة والمقاومة ، فهي توافق هوى النفس ، وتخاطب الغرائز الفطريَّة فيها ، من حب الشهوات والإخلاد إلى الأرض ، فيسترسل الإنسان معها شيئًا فشيئًا ، دون أن يشعر أو يدرك أنه واقع في فتنة ، ومن أجل ذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح ، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء - كما فعل الأبرص والأقرع- ، وذلك شأن البشر ، إلا من عصم الله ، فكانوا ممن قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) رواه مسلم ، فاليقظة للنفس في حال السراء أولى من اليقظة لها في حال الضراء ، والصلة بالله في الحالين هي وحدها الضمان .

    كما تؤكد القصة على أن خير ما تحفظ به النعم شكر الله جل وعلا الذي وهبها وتفضل بها ، وشكره مبنيٌ على ثلاثة أركان لا يتحقق بدونها : أولها الاعتراف بها باطناً ، وثانيها التحدث بها ظاهراً ، وثالثها تصريفها في مراضيه ومحابه ، فبهذه الأمور الثلاثة تحفظ النعم من الزوال ، وتصان من الضياع .

  10. #30
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ابوسـمرة
    تاريخ التسجيل
    03 2008
    المشاركات
    28

    رد: قصص عظيمة ومعارك جسيمة

    وفقكـ الله

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •