الفصل الخامس
أسرع (عبدالله) يحث الخطى نحو (سوق البنغالين) الذي يقع على تقاطع شارع البطحاء مع شارع (الخزان) وكله عزم وتصميم ليكشف عن التجاوزات الحاصلة في هذا الحيّ، والتي راح ضحيتها هاتفه المحمول، ابتسم بسخرية وهو ينظر إلى الشمس التي تقبل الكون قبلات الوداع الأخيرة، متذكرًا زوجته التي فيما يبدوا مازالت أمام المرآة تستعد للذهاب لمنزل أهلها، وحمدالله أنها ستذهب مع أخيها الذي يسكن بجوارهم ..

- عطورات .. دهن عود أصلي.. بسعر رخيص جدًا.
انتزعه هذه العبارات من أفكاره، والتفت ليجد أحد العمالة بحقيبة سوداء يعرض عليه أن يجعله يشم أحد العطور التي يحملها في يده، وبكل ما يحمله (عبدالله) من توتر خصوصًا بعد الإشاعة التي سمعها بشأن المواد المخدرة التي يروجها مثل هؤلاء تحت مسمى العطورات والأطياب، لم يتمالك إلا أن يشير إليه ويقول:
- أغرب عن وجهي .. وإلا أبلغت عنك الشرطة.

هز العامل كتفيه وهو يتعجب من هذا التهديد، فمن يجرؤ أن يلجأ إلى الشرطة خصوصًا في هذا المكان، وقرب مملكة (دون)، واقترب من أذن (عبدالله) وهمس فيها:
- الشرطة لن تنفعك في هذا المكان، وفي هذا الحي بالذات ... فراقب مفرداتك جيدًا، وأعرف مع من تتعامل.

ابتلع (عبدالله) ريقه الجاف خوفًا، وتجاهل نبضات قلبه التي بدأت تزداد، ولم يعر ارتجافة خطواته التي تعبر الطريق نحو مصيره المجهول، إلى البنغال .. ومملكتهم.

انحرف جانبًا نحو زقاق ضيّق وبدا يتوغل فيه، وسرعان ما أحس بتغير الناس من حولها، وكأنما دخوله في هذا الزقاق عبر به حاجز المكان، وانتقل إلى دكا مباشرةً، فسرعان ما انقرضت (اللغة العربية) من لوحات المحلات، واستبدلت بالأحرف البنغالية، وبعض الإنجليزية، لم يكن يفهم ما هو مكتوب عليها بطبيعة الحال، لذا أرعى انتباهه لما يعرض خلف زجاج المحلات، وما هو معروض على الأرض حيث افترش بعضهم أقمشة وكراتين قذرة، صفوا عليها كل ما رخص ثمنه، وخف حملها.

ومن وراء لطمته التي آثر أن يخفي بها قسمات وجهه، فضلاً عن حجب الرائحة النتنة المنبعثة في كل مكان، ومن كل شيء، أخذ يبحث عن أي شيء له دلالة عن أجهزة إلكترونية، أو حتى غيرها، في خضم الأجساد البشرية، توقف أمام أحد الذين يعرضون بضاعتهم أرضًا وسأله:
- أيوجد محل لبيع الهواتف المحمولة هنا؟
- لا أعرف العربية، .. هل تريد أن تشتري مني؟
وأشار بحماسة إلى بضاعته، التي تنوعت ما بين مأكولات غريبة اللون والشكل والرائحة، لا تجروء على لمسها فضلاً عن تناولها.

انصرف (عبدالله) عنه وهو يغوص مرة أخرى وسط الزخم البشري، الذي كان يحدد مساره، فلا يدري أن يذهب، وهو يحاول أن يجد ضالته وسط هذا البحر البشري المتلاطم، وبالرغم من أنه كان في وسط مدينة الرياض إلا أنه كان يشعر بغربة، فكل الأعين تنظر إليه باستنكار، وكأنما دنس بثوبه وشماغه طهر هذا المكان القذر، لم يتحمل النظرات اللاسعة، فانحرف إلى أحد ألأزقة الضيّقة، كان الزحام أخف من سابقه، ولكن نظرات الأعين كانت أشد وأبقى، توقف أمام ثلاثة وسألهم عن مكان بيع الهواتف المحمولة، لم يكد يتبيّن منهم أي شيء، فالألسن الثقيلة، والضحكات النارية، والرائحة المنبعثة من الأفواه، كانت تعلن بوضوح عن الحالة التي كانوا عليها، تجاهل (عبدالله) حالتهم، وانطلق في طريقه، لكن أحدهم لم يتركه، فبدأ في ملاحقته بخطوات مترنحة، وهو يناديه بلسانه الملتوي، أسرع (عبدالله) الخطى ليدخل في زقاق آخر، ليفاجأ بمحل صغير لصيانة الأجهزة الإلكترونية، صفت على واجهته عدد قليل من الهواتف المحملة، ودون تردد توقف أمام المحل الصغير.
.
.
.
وللحديث بقية