فصل
ومما هو حاصل في الساحة النزاع في طرق علاج بعض الأغلاط أو في معاملة بعض المخالفين
ولابد أن يعلم أن كل مسألةٍ راجعةٍ إلى المصالح والمفاسد لاختلاف الأحوال والأزمان والأماكن والأشخاص لابد أن يحكم فيها وفق ما تقتضيه هذه المتغيرات من مصالح ومفاسد في حدود قواعد الشريعة ومقاصدها
قال شيخ الإسلام (فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يتفقا جميعا) (المسائل الماردينية /63-64) نقلا عن كتاب النصيحة للفاضل الشيخ إبراهيم الرحيلي/32)
وأما أن يلزم فيها قاعدة مطردة ويلغي النظر في اختلاف هذه المتغيرات فهذا غير سديد
قال الفاضل العلامة المحقق صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ( أن نسعى في أطر معينة لا نتعداها وألا نحدث الآخر لأنه كذا وكذا هذا يفقدنا البناء الداخلي والمحافظة على رأس المال لأن الفرقة وقعت وإذا وقعت فلابد من الاختلاط الذي معه إصلاح إصلاح هذا الشعب الذي حصل كيف يكون الإصلاح بالمناقشة بالمحاورة بطرح جميع القضايا ليس ثم قضية الآن يمكن أن يقال لا تناقش نعم هناك بعض الدعوات عندها قضايا لم تطرح إلى الآن ولكن الخاصة يعلمونها لابد من طرح جميع القضايا إذا كان ديدننا الحق أما أن تفجأ الناس بين حين وآخر بآراء أو أن تكون آراؤنا حبيسة لأطر معينة لاشك أن هذا ليس من وسائل البناء ) (شريط الغثاء والبناء /الشريط الأول )
ومن هذه المسائل مسألة الهجر فقد جعلها البعض قاعدة مطردة من غير نظر إلى المصالح والمفاسد وهذا سبب كثيراً من الفوضى والغثائية حتى أنه بني على عدم الهجر التضليل والتبديع أو التحذير والتشنيع
وإليك تحقيق شيخ الإسلام حيث قال ( وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله فإذا كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أقواماً ويهجر آخرين كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم ولما كان أولئك كانوا سادة مطاعون في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح. وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم وإذا عرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله فالطاعة لابد أن تكون خالصة لله و أن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صواباً فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمور به كان خارجاً عن هذا وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ضانة أنها تفعله طاعة لله ) الفتاوى ( 28/ 206 ).
فلا غرابة إذا أن تختلف وجهات النظر في تحديد مقتضى المصلحة في هذه المسألة وغيرها من أشباهها فهل يبنى التبديع على كل خلاف من هذا القبيل؟
قال الفاضل العلامة المحدث عبد المحسن العباد ( وقريب من بدعة امتحان الناس بالأشخاص ما حصل في هذا الزمان من افتتان فئة قليلة من أهل السنة بتجريح بعض إخوانهم من أهل السنة وتبديعهم وما ترتب على ذلك من هجر وتقاطع بينهم وقطع لطريق الإفادة منهم وذلك التجريح والتبديع منه مايكون مبنياً على ظن ما ليس ببدعة بدعة ومن أمثلة ذلك أن الشيخين الجليلين عبدالعزيز بن باز وابن عثيمين رحمهما الله قد أفتيا جماعة بدخولها في أمر رأيا المصلحة في ذلك الدخول وممن لم يعجبهم ذلك المفتى به تلك الفئة القليلة فعابت تلك الجماعة بذلك ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل انتقل العيب إلى من يتعاون معها بإلقاء المحاضرات ووصفه بأنه مميع لمنهج السلف مع أن هذين الشيخين الجليلين كانا يلقيان المحاضرات على تلك الجماعة عن طريق الهاتف ومن ذلك أيضاً حصول التحذير من حضور دروس شخص لأنه لا يتكلم في فلان الفلاني أو الجماعة الفلانية ) كتب ورسائل ( 6/ 320 ).
فصل
وفي خضم هذه الفتن انتشرت ظاهرة التصنيف بالباطل والظن المرجوح وقد عالج هذه الظاهرة الفاضل العلامة المحقق بكر أبو زيد في كتابه القيم تصنيف الناس بين الظن واليقين فقد رد هذا المنهج الذي هو دخيل على أهل السنة في حين أن كان خفياً حتى ظن بأنه يقصد السلفيين الذين ردوا على أهل التحزب وأما الآن فقد ظهر جلياً ما خشيه ففي الوقت الذي قوى فيه جهد الدعاة إلى الحق بنشر التوحيد والسنة ورد الشرك والبدعة (بدا لقاء مايحملونه من الهدى والخير والبيان اختراق ظاهرة التجريح لأعراضهم بالوقيعة فيهم وفري الجراحين في أعراضهم وفي دعوتهم ولما وضعه سعاة الفتنة من وقائع الافتراء وإلصاق التهم وألوان الأذى ورمي الفتيل هنا وهناك مما لا يخفى في كل مكان وصلته أصواتهم البغيضة ) (تصنيف الناس/ 5- ط دار العاصمة)
وها أنا ذا أنقل شيئاً من كلامه وفيه بيان لمراده من تأليف كتابه ( إن كشف الأهواء والبدع المضلة ونقد المقالات المخالفة للكتاب والسنة وتعرية الدعاة إليها وهجرهم وتحذير الناس منهم وإقصاءهم والبراءة من فعلاتهم سنة ماضية في تاريخ المسلمين في إطار أهل السنة معتمدين شرطي النقد العلم وسلامة القصد العلم بثبوت البينة الشرعية والأدلة اليقينية على المدعى به في مواجهة أهل الهوى والبدعة ودعاة الضلالة والفتنة وإلا كان الناقد ممن يقفو ما ليس به علم وهذا عين البهت والإثم، ويرون بالاتفاق أن هذا الواجب من تمام النصح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم وهذا شرط القصد لوجه الله تعالى وإلا كان الناقد بمنزلة من يقاتل حمية ورياء وهو من مدارك الشرك في القصد، وهذا من الوضوح بمكان مكين لمن نظر في نصوص الوحيين الشريفين وسير الأئمة الهداة في العلم والدين ولا يلتبس هذا الأصل الإسلامي بما تراه مع بلج الصبح وفي غسق الليل من ظهور ضمير أسود وافد من كل فج استعبد نفوساً بضراوة أراه تصنيف الناس وظاهرة عجيب نفوذها هي رمز الجراحين أو مرض التشكيك وعدم الثقة حمله فئام غلاظ من الناس يعبدون الله على حرف فألقوا بجلباب الحياء وشغلوا به أغراراً التبس عليهم الأمر فضلوا فلبس الجميع أثواب الجرح والتعديل وتدثروا بشهوة التجريح ونسج الأحاديث والتعلق بخيوط الأوهام فبهذه الوسائل ركبوا ثبج التصنيف للآخرين للتشهير والتنفير والصد عن سواء السبيل ومن هذا المنطلق الواهي غمسوا ألسنتهم في ركام من الأوهام والآثام ثم بسطوها بإصدار الأحكام عليهم والتشكيك فيهم وخدشهم وإلصاق التهم بهم وطمس محاسنهم والتشهير بهم وتوزيعهم أشتاتاً وعزين في عقائدهم وسلوكهم ودواخل أعمالهم وخلجات قلوبهم وتفسير مقاصدهم ونياتهم ) (تصنيف الناس/8)
وقال( وبعد الإشارة إلى آثار المنشقين وغوائل تصنيفهم فإنك لو سألت الجراح عن مستنده وبينته على هذا التصنيف الذي يصك به العباد صك الجندل لأفلت يديه يقلب كفيه متلعثماً اليوم بما برع به لسانه بالأمس ولوجدت نهاية ما لديه من بينات هي وساوس غامضة وانفعالات متوترة وحسد قاطع وتوظيف لسوء الظن والظن أكذب الحديث وبناءً على الزعم وبئس مطية الرجل زعموا فالمنشق يشيد الأحكام على هذه الأوهام المنهارة والظنون المرجوحة ومتى كانت أساساً تبنى عليه الأحكام ؟؟) (تصنيف الناس/ 30)
وقال ( ومن طرائقهم ترتيب سوء الظن وحمل التصرفات قولاً وفعلاً على محامل السوء والشكوك ومنه التناوش من مكان بعيد لحمل الكلام على محامل السوء بعد بذل الهم القاطع للترصد والتربص والفرح العظيم بأنه وجد على فلان كذا وعلى فلان كذا ) (تصنيف الناس/32)
وقال شيخ الإسلام ( ومن أعظم التقصير نسبة الغلط إلى المتكلم مع إمكان تصحيح كلامه وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس ثم يعتبر احد الموضعين المتعارضين بالغلط دون الآخر ) الفتاوى ( 31/ 114 )
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
كتبه/ أبوعلي محمد بن علي الحملي
23/5/1431