[لقد حكى لي عن رحلاته, وعن حياتهِ التي قضاها متنقلاً بين القرى والفيافي. أنا لا أجزم بجنونه لكنَّ أمراً ما جعلني أشكّ في سلامة عقله, حيثُ كنَّا منهمكينَ بالعملِ بمزرعةِ الشيخ, كانَ يكلّمُ نفسهُ كثيراً وعندما نسألهُ كان يقول أنهُ يتحدّث معَ اللهِ بشأنِ أمورٍ تخصّه, ضحكنا عليه, وشاعَ في تلكَ الفترةِ أنهُ يكلّمُ الجِنّ, ومما قيل عنه أيضاً: مشعوذ, وأنهُ لا يستطيع دخول المسجد بسبب الشياطين التي ترافقه, عندما سألتهُ عن ذلك, قال أنه يتعامل مع الله مباشرةً.. ليسَ ملزماً أن يقفَ مأموماً خلفَ شيخٍ لا يرى أبعدَ من كرشه.]
بعد عدّةِ محاولاتٍ مع جدّي كي يتحدّث عن "الهبل" وعن تلك الأيام.. قال:
{بدأ الجوعُ ينخرُ عمقَ البيوت, ولأنَّ المحصولَ في العامِ الذي سبق ذلك أقلّ مما اعتدنا عليه, ولأنّنا لم نتعرف على الجوعِ جيّداً في السابق.. لم نتعلَّم التوفير..
لم يرحل البؤسُ عن قريتنا حتّى نفدت أكثر من نصف الدواب, وكلّ الأطفال الذين وُلدوا في ذلك الوقت. وقبل أن يغيب "الهبل" رجمهُ الشيخ بحجرٍ شجَّ رأسه..}
اعتذرَ جدي عن إكمال القصّة مدّعياً النعاس, والصحيح أنهُ لم يعد يتذكّر الأحداث جيداً.. فقد تجاوز فيما قاله الكثير مما حصل.
قمتُ بدعوة الشيخ عيسى بن عبد الله إلى العَشَاء, وخلال حديثي معه عن القرية سألته عن "الهبل" فأجاب:
(قالَ لي والدي -رحمهُ الله- أنّ "الهبل" أتى هارباً من قريةٍ قصيّة.. بعدَ أن حُكم عليه بالموت, أقامَ في "عريشٍ" مهجورٍ بقريتنا ولم يغادرها, وبعد أيَّام خرجَ بهيئةٍ رّثة بحثاً عن العمل, ولأنَّ والدي -رحمهُ الله-كانَ ذا قلبٍ مؤمنٍ عطوف.. استخدمهُ كمزارع.. لكنَّ بقاءهُ في المزرعةِ لم يَطَل,بعدَ أن تقاعسَ عن العمل وظهرت تصرفاتهُ المريبة.كانَ يحادثُ نفسهُ وعندما يُسأل يجيب بأنهُ يتكلم مع الله –أستغفرُ الله- يتجرّأ على خالقهِ بما لا يليق. بقي في القرية, أطلقوا عليه لقب "الهَبل" بعدَ أن تبيّنَ للجميعِ جنونه.. غادرَ القرية بعد سنةٍ ونصف من مجيئه. يقولُ والدي-رحمهُ الله- أنّهُ غادرَ بعدَ أن تجرّأ مقتحماًمجلسَه في مساءِ أحدِ الأيام وأخذ يلتقطُ الجمرَ الملتهب بيدهِ ويرمي بهِ إلى السماء.. وهو يتحدّى الله قائلاً: "أقسمُ عليكَ يا الله أن تُنزل المطر, و إلاّ..لأحرقنَّ سماءك".
أستغفرُ الله..أعوذُ بالله من غضبِ الله...)
آخِرُكلامِ العجوز سامر:
[بعد أن حلَّ البلاءُ في القرية وقضت أكثر من نصفِ أنعامِنا بسببِ الجوعِ والمرض, اختفى الهبل عن الأنظارِ لفترة, كنا نظنّ أنَّه سئمَ القحطَ وواراهُ الجوعُ في طرقِ الترحال.. لم نعد نراهُ في القرية. أمّا حالتنا فقد انتقلت إلى الأسوأ, مات بعض مُسنِّي القرية, لدرجةِ أنّنا كنا نصلي على ثلاثةٍ كلّ أسبوع,وأما عِليةُ أهلِ القرية فقد كانوا يجتمعون في دار الشيخ, لهم متكأٌ في باحةِ منزلهِ, يشعلونَ النار ويحتسونَ القهوةَ, يتجاذبونَ الحديث, عن القرى المجاورة, وحنينهم للحياة القديمة.. وعن أكياسِ الحبوب والطعامِ التي تصلهم ويتقاسمونها فيمابينهم..
بعد أن ضاقَ بنا الحال, ولم نعد نرى ولا نسمعُ سوى خطوات الموتِ تتنقّل من منزلٍ إلى آخر.. عاد "الهبل" فجأةً.. وجمع الناس في الوادي ليصلّي بنا صلاة الاستسقاء, لكن الشيخ قطع علينا ذلك, وقال أنَّ الصلاة لا تجوزُ خلفَ المجانين وإذا أديّناها فنحنُ إذاً لآثمون.. فتفرّق الجمع.
.
.
مساءَ ذلك اليوم هطلَ المطرُ.. ومُذَّاك غاب "الهَـبَل".]