حينَ نحبُّ، تتفتَّحُ مسامات أجسادنا، لتمتلئ حنيناً وشوقاً، وتتهيَّأ لاستقبال الأجمل من المشاعر، والأسمى من المعاني، وتتـناغـم نبضــات الـقـــلب مع ما تهفو إليه الروح، وتتواردُ كل الخواطر الجميلة، لتتزاحم على بوابة الذاكرة، أيُّها سيكون له شرف السبق، فيقع في خانة الرائع أولاً، ونظل نحيا في شغف الانتظار، ونعيش على شكل ولون وطعم الآتي الأروع!!

فحين نحب آباءنا وأمهاتنا، تحتشدُ في مخارج دمائنا النبضات وتتزاحم على رؤوس ألسنتنا الكلمات، وتتناهى أمام خطواتنا المسافات، لنبدع لهؤلاء من قلوبنا حبًّا لا يماثله حب، ونجرد لهم من جوارحنا وفاء ليس له حدود.. ونقف في انتظار رؤية الفرحة تتلألأ في عيونهم، والرضـى يتـراقـص فـي تعـابيـر وجوههم، ولا نستطيع أن نُخفي ما ننتظره منهم من إعجاب بأدائنا، وتفاخرٍ بجميل صنيعنا أمام الآخرين!!

وحين نحب أزواجنا وزوجاتنا، نختصر الحياة كلها في نظرة حانية، والسعادة جميعها في ابتسامة طبيعية غير مصطنعة، لنقترب أكثر من قلوبهم، وقلوبهن، غير آبهين بما تخبئه لنا غيرة وحسد الآخرين.. فهدفنا إضاءة سبل الحياة أمامنا، وتحلية محطاتها كلها.. ونقف ننتظر ردَّ الابتسامة بمثلها ـ على الأقل ـ ونظل نطالب الحياة أن تفتح لنا ذراعيها، لنلقي بأجسادنا في دفء أبدي جميل!!

وحين نحبُّ أبناءنا، وبناتنا، نخلع عليهم من أكبادنا حُللاً من العطف والحنان، ونغمرهم بمحيط خوفنا وحرصنا عليهم، ونريهم مدى استعدادنا للتضحية من أجلهم، ولا نتركهم لحظة واحدة بعيدين عنا، حتى وإن سوَّلت لهم أنفسهم مغادرة جغرافيتنا مؤقتاً، فيجدوننا دائماً أمامهم.. وخلفهم.. وعلى جانبيهم.. بل يجدوننا نحلق فوقهم، كلما شخصت أبصارهم إلى الأعلى البعيد.. ونقف منتظرين رد جميلهم، وثمار غراسنا فيهم، ونستدرُّ عطفهم وحبهم، كلما خفنا عليهم بعداً، ومنهم نفوراً، ونذكرهم دائماً بسهرنا من أجلهم، وخوفنا عليهم، وانتظارنا الأبدي لرجوعهم إلى أحضاننا، إن ابتعدت بهم خطاهم، ولو قليلاً!!

أما عندما نحبُّ أوطاننا، فإننا نحبها بشكل مختلف، ونتوحد معها بحب عجيب، لا نستطيع إلا أن نحياه فيها، وأن نعيشه من أجلها، ولا نشبع تقبيلاً لثراها، وتسريحاً لعيوننا في مغانيها.. وحده الوطن قادر على استيعاب حبنا عن آخره، وتحمل شدة حنيننا له، واحتراق مُهجنا عشقاً بين ربوعه، وتحليق أرواحنا ابتهاجاً في سمائه.

وحده الوطن يستأثر بحبنا الأبدي، فلا تصرفنا عنه المسافات، ولا تجرفنا عنه الأحداث، ولا تمل مشاعرنا وقلوبنا من الذوبان فيه.

وحده الوطن الذي نحبه هكذا.. وبكل الأشكال الأخرى.. ولا ننتظر منه شيئاً!! على الوطن أن يقبل حبنا هذا فقط، وأن يفسح لنا المجال كي نعمره شعوراً، ونغمره حباً، وأن نحس بحبه لنا، ونشعر باستعداده لقبول القلوب، والدماء، والأحاسيس، أطفالاً بريئة تلعب ـ دون خوف ـ على صدره ليل نهار!!