أنا حـُذيفة العربيُّ ياهذي القفار ,الرجالُ يتداولون أمري في كلّ الديار
والنساءُ يرمقنـَني , علـّي أنحني , لكـِنّ الإباءَ وليسَ شيءَ سواه يمنعني الإنحاء .
صحيحٌ أنـّي رجلٌ و ربـّما يجدُر بي أن أكونَ زيراً , أو نزاراً , أو ربــّما ساقطاً , تلتقطني كل الساقطاتْ .
لكـِني لستُ كذلك , أعرِفُ ساقطاً حق المعرفةِ , ولكنه لم يعرفني أبداً , وذاتَ ليلةٍ , وجدتُه خارجاً فسألتــُه إلى أين ؟ فأخبرني : أنه ذاهبٌ ليلتقي فــُلانة , في الحقيقة كنتُ أهمًّ بـِها , لكني عزفتُ عنها حين رأيتُ لهفته للقائــِها .
وخرجَ في عجـَلٍ ليـَركـَب سيارةَ الأجرة قاصداً السوق .
عادَ بعد مدةٍ قصيرة حتى ظننتُه كانَ يكذِب ,رأيتـُه بينما كـُنتُ أنظر للشارعِ من نافذةِ حـجرتي , فنزلت لأستقصي منه الخبــَر . لقيتُه و هو يتهلل فرحاً وسعادة فسألتــُه عن أمره ؟
و كـُنتُ متلهـّفاً لمعرفةِ ما إن كانت فضـّلتهُ على سائرِ الرِّجال وهي خبيثة وماكـِرة ! .
فأجاب : لقــد لمستُ يدها ولمســَت يدي حين ناولتـُها باقةَ الزهورِ البيضاء ; وعلى وجهـِه ابتسامةً تشبـِه تلك التي أراها دائماً على وجهِ زميل لي مغفــَّل , لكـِنّ هذا المغفــّل كان دائماً يتحصلُ على على علاماتٍ كاملاتٍ في كل الدُروس ; بعكسِ هذا الأحمق .
فصرختُ في وجهـِهِ بعد أن اسودّت الدنيا في وجهي : يا أحمق , زهورٌ بيضاء ! .. ؟
وخـَرجـتُ من حيني غضبانَ أسـِفا , و أنا أهذي بثلاث كلمات : أحمق , زهور , بيضاء .
قــَصدتُ أرضاً مجاورةٍ خالية و أنا مازِلتُ أهذي بتـِلك الكـُليمات . فتمددّتُ على الرمْلِ أنظرُ إلى السماءِ تملأها النجوم , بدأتُ أعـُدّ تـِلكَ النجماتِ بطريقةٍ توحي بما بي من أســَف .
هكذا كــُنت أعـُد : أشيـِرُ إلى النجمة الأولى بإصبعي و أقول : أحـمـَق , و النجمة الثانية : زهور , والثالثة : بيضاء , والرابعة : أحمق , والخامسة : زهور , و السادسة : بيضاء , وهكذا حتى ظننتُ أني بلغتُ منتهى النجوم . لكـِني اكتشفتُ أني لم أصـِل لمـُنتهى النجمات و إنما الضجـَرُ و الحزَن كانا قد بلغا من رأسيَ المـُنتهى , فانطفأتُ مكاني , و لم توقضني إلا حرارةُ شمسِ الظهـِيرة و قد فحــّمتني حتى ظنّ البومُ أني الليلُ في وضحِ النهار .
عُدتُ للبيت أطلبُ الراحة حتى المساءْ ثم اغتسلتُ و خرجتُ كأنّي ما احترقتْ قـَطْ , وكأنّي البدرُ في العتمة , خرجتُ من بيتي أنشـُدُ خبـر تلك الزهراتِ البيضاوات التي أعطاها ذاك الأحمق لفــُلانة , فجـِئتُ القهوة السريــّة التي ترتادُها فلانةُ هذِه باستمرار .
عــِندَ البابِ سمعتُ ضحكتها القاتـِلة فنظرتُ من ثــُقبِ الباب فإذا بها قد توســّطت حـِضنَ أحدِهم و قد زيــّنت رأسها و مفرق صدرِها بتلك الزهرات وقد التصقَ فمها بفمــِه , فعــُدتُ سريعاً مشفــِقاً على فــُلانَ المغفــَّل , وحزمتُ أمتعتي من شقتي المجاورةِ لشقــّته آمـِلاً ألا أراه مرةً أخرى , وقبــْل خروجي مرّرْتُ لهُ رسالةً من تحت الباب :
أن إذا اْلتقيتَ بأُخرى , فاْهدِها في لقائكما الأوّل ( ثعابينَ سوداءْ ) .
ثمّ اْنصرَفت ..