سرحت بخيالي فوجدتني أتجول في أنحاء البلاد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً متأملاً ذلك الكم الهائل من المركبات بمختلف أنواعها وفئاتها من سيارات وحافلات ودراجات بخارية وخلافه، ولفت نظري ذلك الغزو الكاسح لأجهزة المكيفات في كل شركة ومنزل ومتجر حتى خيل لي أن عدد أجهزة التكييف مساو لعدد السكان بل يفوق!. وساقاتني قدماي إلى أحد أسواق بيع الأجهزة الكهربائية وتجولت بين جنباتها أطلع على الموديلات الجديدة وتعجبت كثيراً من كم الأجهزة الكهربائية المستحدثة التي أغرقت البلاد والعباد، فقد صار لكل مهمة منزلية بسيطة جهاز كهربائي خاص بها!. واستقيظت صباحاً وتوجهت إلى عملي وراعني مجدداً مشهد أجهزة الحاسب الآلي الموجودة في كل شبر في مقر العمل، ومشهد شاشات الحاسب الآلي المضاءة دون وجود الموظف على مكتبه، واقتربت من أحد الزملاء وهمست في أذنه أسأله عن وظيفة أجهزة الحاسب الآلي الكثيرة القابعة بجوار مكتبه منذ سنوات، ففوجئت أنه لا يعلم وظيفتها على وجه الدقة نظراً لعدم إلمامه العميق بعلوم الحاسب الآلي، وأخذت أتلاقط مع زميلي أطراف الحديث حول مدى انزعاجه من وجود أجهزة الحاسب الآلي الكثيرة الموجودة في غرفة عمله الضيقة، وفهمت منه انه يشعر بانبعاث حراري شديد صادر من هذه الأجهزة مقارنةً بغرف العمل التي تحتوي على عدد أقل من أجهزة الحاسب الآلي، وطرح على بعض التساؤلات حول ماهية هذه الحرارة المنبعثة؟ وهل لها من أضرار وآثار جانبية على الصحة والبيئة؟ وهل من طريقة للحد منها؟ ، فتبسمت في وجه زميلي ووعدته بالإجابة عن كل تساؤلاته في القريب العاجل، وسارعت إلى البحث في شبكة الإنترنت وإلى البحث في دراسات وبحوث المحافظة على البيئة ووجدت أن كل الأسئلة البسيطة التي تزاحم عقل زميلي بطريقة فطرية ما هي إلى ظاهرة الانبعات الحراري التي يعاني منها العالم أجمع، وظاهرة الانبعاث الحراري (وتعرف أيضاً بالاحتباس الحراري) لمن لا يعرفها هي ظاهرة ارتفاع درجة الحرارة في بيئة ما نتيجة تغير في انتقال الطاقة الحرارية من البيئة وإليها، أو بمعنى آخر أبسط وهو ارتفاع درجة حرارة الأرض عن معدلها. وقد كنت أظن أن تفسير ظاهرة الاحتباس الحراري يرجع إلى تغيرات طبيعية ومناخية يمر بها كوكب الأرض مثل الفترات الجليدية التي عصفت بقارة أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، ولكن الدراسات الحديثة أثبتت أن التغيرات الطبيعية ليست هي العامل الوحيد المؤثر بل تدخل العوامل الغير الطبيعية أيضاً في دائرة الاتهام ومن بينها الحرارة والغازات المنبعثة من أدخنة المصانع ومحطات تكرير البترول وعوادم السيارات ومروراً بالحرارة التي تطردها أجهزة التكييف المنتشرة في كل البقاع، بالإضافة للحرارة المشعة من أجهزة التلفاز والحاسب الآلي والمصابيح الكهربية وكافة الأجهزة الكهربية المنزلية وأجهزة الجوال التي انتشرت بين أيدي المواطنين انتشار النار في الهشيم.
وتابعت بشغف البحث حول هذا الموضوع وتأثيراته على كل من صحة الإنسان وعلى البيئة، ووجدت أن الإحساس بظاهرة الاحتباس الحراري لم يعد محصوراُ فقط داخل معامل الأبحاث العلمية وهيئات الأرصاد الجوية، بل بدأ الشعور بتأثيرها يتنامى ويتعاظم وتزداد رقعته بين عامة الناس، حيث ارتفعت درجة حرارة الأرض بمعدل نصف درجة مئوية، وأخذ الجليد في القطبين وفوق قمم الجبال الأسترالية في الذوبان بشكل ملحوظ، ولاحظ علماء المناخ أن مواسم الشتاء ازدادت خلال الثلاثة عقود الأخيرة دفئاً عما كانت عليه من قبل وقصرت فتراته. فالربيع يأتي مبكراً عن مواعيده، وهذا يدق ناقوس الخطر بعنف لاحتمالية حدوث تلف بيئي فوق كوكبنا لا تحمد عقباه، ومن أبسط آثار هذا التلف ارتفاع مستوى سطح البحر بما يهدد المباني والطرق وخطوط الكهرباء وغيرها من البنى الأساسية في المدن الساحلية. ولا يتسع المجال هنا للتوسع والاستطراد أكثر من ذلك في ذكر الآثار والنتائج المترتبة على ظاهرة الاحتباس الحراري فهي تحتاج لعدة مقالات.
ثم انتقلت في بحثي على شبكة الإنترنت عن الوسائل المتاحة للحد من ظاهرة الانبعاث والاحتباس الحراري التي تهدد كوكبنا، وبطبيعة عملي المرتبط بتقنية المعلومات فقد كان كلي أمل في أن أجد لتقنية المعلومات دوراُ فاعلاً تجاه هذه الظاهرة، ومثلما هو الحال دائماً لم تخيب تقنية المعلومات ظني فنحن نعيش الآن ثورة الاتصالات والمعلومات، وقد وجدت ضالتي فيما يسمى "تقنية المعلومات الخضراء" (Green IT)، وهي مجموعة المنتجات والممارسات التي تخفض الانعكاسات البيئية مثل تقليص الانبعاثات الحرارية وتقليل النفايات. وكعادة تقنية المعلومات في الاستجابة السريعة، طرحت في الأسواق عدد من المبادرات والتقنيات والتي تبنتها الشركات المصنعة للعتاد والأجهزة والتي تهدف لتقليل عدد الأجهزة اللازمة لتسيير الأعمال وبالتالي خفض الانبعاثات الحرارية.
ومن ضمن هذه التقنيات تقنية الافتراضية (Virtualization) وهي تشغيل أكثر من نظام تشغيل في نفس الوقت على نفس الجهاز وعلى نفس الموارد، وهذه التقنية تمكن الشركات من دمج الأنظمة والتطبيقات على جهاز واحد بدلاً من توزيعها على اكثر من جهاز مما يترتب عليه تقليل الانبعاثات الحرارية الناتجة من تعدد الأجهزة.
كما ظهرت في الأسواق تقنية الخادمات الطرفية (Terminal servers)، وهي تقنية تتيح الاستخدام والتعامل مع التطبيقات المتقدمة المثبتة على الخادمات القوية من خلال أجهزة حاسب آلي بسيطة، عادةً ما يطلق عليها الحاسبات الطرفية (Terminal clients) والتي تستهلك ثُمن كمية الطاقة التي تستهلكها أجهزة الحاسب الآلي العادية، بينما تتم كل عمليات التشغيل على الخادمات الطرفية، مما يؤدي إلى تقليل الانبعاث الحراري الكلي الناتج من المنظومة ككل.
ولا ننسى أيضاً تقنيات الاتصال عن بعد (Telecommunication) والتي تطورت بشدة في السنوات الأخيرة كاستجابة لمباردة تقنية المعلومات الخضراء، فخدمات الاتصال عن بعد وفرت وقلصت كثيراً من الانبعاثات الكربونية الناتجة من عوادم الطائرات والقطارات والسيارات وكافة وسائل المواصلات.
كما أن شاشات الحاسب الآلي الجديدة (LCD monitors) تعتبر واحدة من أهم الانجازات في مجال البيئة وصحة الإنسان والتي قللت كثيراً من حجم استهلاك الطاقة بالإضافة لتقليلها لحجم الحرارة المنبعثة منها.
ومما لاشك فيه أن أنظمة التشغيل صارت داعمة للتقنية الخضراء من خلال خصائص إدارة الطاقة (Power Management) مثل فصل الكهرباء عن الشاشة ودخول الحاسب الآلي في حالة خمول أثناء عدم استخدامه مما يؤدي إلى تقليل كمية الطاقة المستهلكة وبالتالي تقليل كمية الحرارة المنبعثة من الجهاز، كما أن أنظمة التشغيل صارت تعطي لمدير الشبكة صلاحية التحكم في خصائص إدارة الطاقة لكل الأجهزة المتصلة في الشبكة مما يعني وفراً في الطاقة وحفاظاً أكثر على البيئة.
كما أن أقراص التخزين (Storage) قد تتطورت سريعاً خلال السنوات الأخيرة وصارت تحتاج كمية أقل من الطاقة لزوم التشغيل.
ولا ننسى أن العالم يسير الآن نحو الحوسبة السحابية (Cloud computing) وهي نقل المعالجة ومساحة التخزين الخاصة بالحاسوب إلى ما يسمى السحابة وهي خادم يتم الوصول اليه عن طريق الانترنت. حيث تتحول برامج تكنولوجيا المعلومات من منتجات إلى خدمات، على سبيل المثال، عندما تحتاج شركتي لبرنامج قواعد البيانات، فلن أضطر إلى شراء البرنامج وشراء الخادم الذي سوف يستضيف البرنامج، بل سأقوم بشراء خدمة قواعد البيانات من السحابة، مما يعني وفراً في العتاد وبالتالي وفراً في الطاقة وتقليلاً من الانبعاث الحراري.
وبعد أن قرأت واطلعت عن الموضوع من كل الجوانب استطعت أن اجاوب على تساؤلات زميلي وأحسسته بمدى عمق الموضوع وأهمية القضية، وأستوعبنا أن الحفاظ على البيئة ليست مسؤولية الحكومات والمنظمات بل هي دور ملقى على عاتق كل إنسان وإن دق هذا الدور.
أ.د جبريل حسن العريشي
استاذ المعلومات
عضو مجلس الشورى
|
 |
رد مع اقتباس
