قصة قصيرة .. هذيان الحب
--------------------------------------------------------------------------------
هذيان الحب
شارفت الشمس على المغيب، وبدأ البحر يبتلع القرص الأحمر المتوهج رويدا رويدا، ولم تسعفني يدي بان تمتد إلى جيبي لإخماد صوت الهاتف النقال الذي انطلق رنينه في هذه اللحظات و أنا أراقب بكل مشاعري و أحاسيسي انطفاء الشمس في البحر في ذاك اليوم، ولم يتبقى إلا ربعها الأخير، ولعل خيالي كان يهذى حينما تخيلت بأنهما حبيبين _ الشمس والبحر _ وصلا لمرتبة رفيعة في الحب بان يمتزج كلاهما بالأخر و يمنحه لونه ولمعانة، وكم كان منظرا رائع الجمال حينما غابت الشمس في طيات الموجات البعيدة التي سرعان ما تحول لونها إلى الأحمر الفاتح، و تأتى من بعيد وكأنها فرحة بهذا اللقاء.
شدني انتهاء هذه الدراما إن أتذكر علبة السجائر ومددت يدي داخل جيبي لأشعل سيجارة، وحينها تذكرت رنين هاتفي النقال قبل دقائق، فتفقد الرقم الذي اتصل فإذ به رقمها، وبحركة لا إرادية اعد الاتصال بها، فجائنى صوتها الدافئ البلسم " أنت فين وما بدردش ليه " فتعلثم لساني عن الرد واكتفيت بتنهيده لعلها تكون أكثر بلاغة من كل الكلام، وأكملت بعبارة كنت متعمداً إن يكون اسمها أول الكلمات: " نادين أنا جئت لأبعد مكان في المدينة حتى لا اسمع ولا أرى شيء وأخر ما كنت أتصور أن يلحقني صوتك في هذا اليوم إلى هنا "، شعرت إن كلماتي كانت اشد من زلزال فاجئها " وردت قائلة: " أنا مش فاهمة حاجة، وليه، وكيف، وأكملت قائلة: " وكيف يوم فرحى لا تكون موجود مع الشلة ولا فرحى لا يعنيك يعنى " ردد ولكن بداخلي " كيف لا يهمني وأنا كم حلمت أن اراكى بالثوب الأبيض وأكون بجانبك وكم كنت سأسعدك بقدر الحب الكبير الذي أحملة سراً اتعبن منذ زمن بعيد " وجاء صوتها: الوو الوو الوو الوو، فألقيت الهاتف على الأرض.
وتملكني إحساس بالبكاء فلماذا لم أصارحها بحبي.... لماذا حملت هذا الحب الأعرج من طرف واحد طوال هذه الفترة.... ألف سؤال وسؤال، ولا اعلم لماذا صورتها في أول لقاء لا تفارق مخيلتي.... حينها كنت في السنة الأولى في الجامعة ورأيتها عند باب التسجيل تستكمل بعض أوراقها، ولا اعلم لماذا منذ اللحظة الأولى تصورت إنها تختلف عن كل النساء، وكم تمنيت لو أحظى بكلمة معها، وما أن أنهت معاملتها وأدارت وجهها والتقت عينانا للحظة وسارت في طريقها، حينها قد نسيت لماذا جئت إلى هذا المكان فانطلقت لاتبع خطواتها لعلى أستطيع إن اعرف في أي كلية هي، وفى زحمة الطلاب فقد أثارها، فسرت كالمجنون ابحث عنها في كل مكان في الجامعة، ولكن عبثا لم اعثر عليها، كم كنت يومها حزينا فانا اليوم أحسست بشعور لطالما سمعت عنه دون إن أعيشة، فكم سمعت عن أهات الحب وعذابه كم سمعت أم كلثوم وهى تغنى وطربت لها، ولكن بالتأكيد سيختلف إحساسي بالأغاني بعد اليوم، يومها رجعت للبيت منهكا تعبا وقررت أن اذهب غدا للجامعة مبكرا، وان أقضى كل وقتي بالبحث عن هذه الفتاة، وفى اليوم التالي وصلت الجامعة مبكرا، وكانت المرة الأولى التي أرى الجامعة بها بهذا الوقت المبكر حيث لم يكن متواجدا إلا بضع عشرات من الطلاب، وبدأت عقارب الساعة تسير رويدا ويسير معها هذياني وتفكيري الذي لم يتوقف منذ أمس فتارة أقول محدثاً نفسي لعلها فتاة جاءت لتسجل لزميلة لها وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي تدخل بها الجامعة.... لا ولماذا لم تأت الطالبة بالتسجيل بنفسها..... لا لا أنها تدرس هنا والوصول إليها مسألة وقت فقط...... كيف سأصل لها.... هل اذهب للتسجيل واسأله عنها..... وماذا سأقول له وما أدراني ما اسمها... كفى لم أعد قادرا على التفكير المنظم.... ومر الوقت وتبخر معه أمل العثور عليها، ولم اعلم إن كان اليوم لدى محاضرات أم لا، فلم يعد عقلي قادرا على إزاحة نظرتها الأخيرة وأحسست إن تفكيري إصابة الشلل، وفى المساء شعرت بأني اختنق فقررت إن أشارك زميلي ايمن بالتفكير معي، فاستمع إلى قصتي وعلق عليها بضحكة كبيرة وكان لا يتمالك نفسه من الضحك ولم استطع أن افهم ما يقول من شدة ضحكة، وبعد إن لقط أنفاسه قال وقعت أخيرا وقعت يا درش ومع من مع مجهول، وأكمل بنفس أسلوبه الساخر: قضيتك ستسجل في النهاية ضد مجهول يا أبنى قضيتك خسرانه، لم أتضايق من تعليقات ايمن بقدر ما أصبحت أفكر بقضية المجهول، حقا فأنني أحببت مجهولا وتعلقت بمجهول... حتى لو وجدها فهل تنتهي القضية فقد تعاملني بشكل عادى وأصبح أنا الطرف الأضعف الذي يملك كل هذه المشاعر دونما لقاء واحد، ولم ابني مشاعري إلا على نظرة عابرة لا تعنى شيء............
خرجت من عند ايمن بقرار أن يجب أن أفيق من حلمي يجب أن أعود كما كنت قبل إن أراها مهما كلف الأمر... فلن ابحث عنها.. ولن أفكر بها... وفى اليوم التالي قررت إن أتغيب عن الجامعة لعدة أيام...........
وبعد مرور أربعة أيام ذهبت إلى الجامعة ناسيا أو متناسيا ما حدث ولم اعلم أن القدر كان يخفى لي مفاجأة أخرى ولكن من النوع الثقيل... فأصبح هذا اليوم مطبوع في ذاكرتي و أتذكرة بدقائقه و ثوانيه بكل تفاصيله...... فكانت محاضرتي الأولى الساعة العاشرة ووصلت القاعة قبل بدا المحاضرة وكان فيها بعض الطلاب و جلست و عيني إلى الباب انتظر ايمن أو احد الأصدقاء، وفجأة إذ بها هي تدخل القاعة وتجلس في مقعد يبعد عنى قليلا... نعم هي... لم يكن حلما ولم أكن أهذى، تمسمرت في مكاني وأحسست بالحرارة تجتاح جسمي، ولم اشعر إلا بيد ايمن يوكزني ويقترب منى قائلا احد عباراته الساخرة: إيه يا سعيد أنت مركز كدا قوى قبل الدكتور ما يبدأ المحاضرة " وحينها فقط رأيت إن القاعة امتلأت بالطلاب ووجود الدكتور يكتب بعض الكلمات على اللوحة... ونظرت أمامي لأتأكد أنها لا زالت موجودة أم انه كان جزء من هذياني؛ فكانت تجلس بشكلها الملائكي ولبسها الأنيق، وتركت نفسي تتأمل بها طول فترة المحاضرة، وبعد انتهاء المحاضرة، ولعلها كانت أسرع محاضرة رغم أن مدتها ساعتين، ولا أتذكر أنني سمعت صوت المحاضر أو علمت ما يقول، و عيناى كانتا تراقب كل حركة لهذا المجهول الذي أبى إلا إن يلاحقني، نعم بعد انتهاء المحاضرة جاءت الضربة الأكثر ألما، قال لي ايمن أنا محتاجك جدا سعيد لأنني حسألك سؤال من تخصصك، كنت سأقاطعة لأقول له أنى وجدها وهى طالبة معنا، ولكن لم يعطيني الفرصة وأكمل _ ويا ليتني قاطعته _ شفت زمليتنا الجديدة نادين أنا حبيتها واشك أنها تبادلني نفس الشعور وعايز رأيك فيها، فقلت له مين نادين قال: هي طالبة جديدة وأنت غايب يا سعيد من فترة علشان كدا مش عارفها هي اللي كانت جالسة هناك... وأشار إلى مكان المجهول............
اختلطت كل مفردات اللغة في رأسي وبالكاد سمعت ايمن يقول وهو مغادر القاعة إحنا جالسين عند المكتبة ضروري تأتى أعرفك عليها..........
نادين.. نادين.. بحق اسم يستحق كل هذا الهذيان... قمت من مكاني وبصعوبة وجد نفسي خارج سور الجامعة، وما أن ركبت السيارة حتى جاءني صوت فيروز " مشتاقة ما اقدر أشوفك ولا بقدر أحكيك بندهك خلف الطرقات وخلف الشبابيك "، ولا اعلم كيف وصلت البيت وأسلمت نفسي للفراش لعل النوم يكون أجمل هروب من الواقع، ولكن عبثا كيف يأتي النوم وقد امتلأت عيناي منها اليوم، كيف يأتي النوم وقد عرفت اسمها اليوم..... كيف يأتى النوم وهى أصبحت محرمة على بحرمة الصداقة التي قضيتها مع ايمن و بحرمة رفقة الأيام الصعبة التي قضيناها أنا وايمن معا..........
وأطلقت العنان لهذياني فانا ألان في غرفتي ورأسي على الوسادة فلنتناقش أنا وأنا _ نعم قمة الهذيان _ قلت أليس أنا أحق بها من ايمن، ولكن لماذا لم تكن جرئ وتقول لأيمن نادين هي من قلت لك عنها... ولكن ليس المهم هذا فهي كما فهمت من ايمن تبادله الحب... وأنا.. أكيد أنا بالنسبة لها مثل ألاف الطلبة التي رأتهم يوم التسجيل _ إذا كانت رأتني أصلا _ إذاً ما العمل يا سعيد أريد مخرج... أنا لا أريدها ولكن لا أريد أن أراها كل صباح فهذا يقتلني كل يوم..............
وفى اليوم التالي خرجت في الصباح متظاهرا أنني ذاهب للجامعة فانا أصبحت لا أستطيع الهروب من سؤال أهلي عن التغيب عن الجامعة.... وذهبت يومها للبحر وجلست جلستي المفضلة أراقب الأفق البعيد للبحر و لونه الأزرق الجميل... وجاءني صوت ايمن عبر الهاتف النقال ليسألني لماذا لم أتى للجامعة ولماذا انصرفت بدري أمس، فاعتذرت له على أنى شعرت بتعب، و بالكاد سمع ردى وأكمل قائلاً: أنى أعيش اسعد لحظات حياتي يا سعيد إن نادين في غاية الرقة أنى بجد اشعر بأني عايز اكلم كل الناس عن حبنا سائق التاكسي وبائع الخضار وكل واحد يلاقيني، سعيد أنا بجد محتاج أكلمك عنها أنت حبيبي وكاتم أسراري، و بعدين ضروري تعطيني شوية دروس.... سعيد ما بتردش ليه... قلت: سأحضر عندك في المساء ونتحدث.. بااى.. بااى...
لم أستطيع حبس دموع ساخنة انزلقت على خدي كالنهر الجارف... وقلت مكملا هذياني.. لعلها فرصة أن اسمع اليوم من يحدثني عن نادين... وبالتأكيد سأكون تواقاً لأعرف أي شيء عن هذا المخلوق الذي سلبني كل شيء......
وفي المساء كنت عند ايمن نجلس في نفس المكان التي جلسنا فيه قبل خمسة أيام... ولكن اليوم الأدوار تبدلت وكأن الأرض دارت دورة كاملة حول الشمس....
حدثني ايمن الكثير عن نادين وكلما كان يذكر صفة لها أحس وكأني اعرفها قبل إن يقولها... أحسست أنى اعرف نادين أكثر مما يعرفها ايمن رغم أنى لم أتحدث معها كلمة واحدة...
و في اليوم التالي كان لابد أن أواجه هذا التغير بكل ما املك من قوة وان أعود واصنع لنفسي مخرجاً... وقررت أن يبقى حبي لنادين سراً عميقا لا يخرج للسطح مهما كلفني الأمر....
وعد للجامعة قويا عازما على الخروج من التيار بكل قوة.........
وبعد انتهاء المحاضرة الأولى جمعني أول لقاء مع نادين وايمن على المقعد الأزرق في الجهة الشرقية للمكتبة..... وكنت اسمع صوت خفقان قلبي وأحاول السيطرة علي كل مشاعري.. ولا اعلم كيف قفزت في رأسي فجأة معلومة قرأتها في كتاب " فن الخطابة " بان اللحظة الأولى لمواجهة الجمهور حاسمة وبعد مرورها تسير الأمور بشكل طبيعي........
كانت نادين تجلس بجانب ايمن.. وقال ايمن لها: أعّرفك على سعيد زعيم الشلة _ بأسلوبه الفكاهى _ ولا يمكن أن تتم رحلة للقسم بدون موافقته وتخطيطه لها وختم حديثة بضحكة...
قالت نادين: أهلا أخ سعيد بجد أنت معنا في القسم.... تمالكت نفسي وقلت وأنا ابتسم: يقولون أنى مسجل في قسم الجغرافيا المستوى الأول... قالت: اسأل بجد أنا لم أشاهدك في المحاضرات.... قلت:كنت مريض منذ خمسة أيام وعد اليوم.... قالت : سلامتك يا سعيد .... وشعرت للمرة الأولى أن أسمى جميل وهى تنطق به.......
وبعد دقائق معدودة استأذنت بحجة زيارة المكتبة وغادرت جلستهما...........
حتى أنها لم تعرف إن كنت معهم في القسم أم لا... أي حب هذا الذي كنت _ أو ما زلت مرغما _ أحمله بين ضلوعي.
وطوال أربع سنوات هي عمر دراستنا حافظت أن أبقى بعيدا قدر الأمكان...
وأكثر من مرة جائنى ايمن لأتدخل عند نادين لفض خلاف حدث بينهما و اعيدهما لبعض..
ولا أنكر أن نادين كانت تقدر كلامي وعند كل خلاف مع ايمن كنت أنا الوحيد الذي يستطيع أن يقنعها بكلمات قلائل.........
والهذيان كان كثيرا خلال تلك الفترة الصعبة في حياتي.... وكنت أول المباركين لأيمن وهمس لخطبتهما والاتفاق على الزواج بعد التخرج مباشرة....
وهل املك يا نادين أن أشاهدك في حفل زفافك.. كان هذا السؤال يؤلمني ويقتلني... وقررت أن أتهرب من هذا اليوم بأي طريقة كانت........
وأقنعت ايمن في صباح هذا اليوم بأن لدى ظروف صعبة ولن أستطيع الحضور.......وكاد اليوم أن يمر لو أن صوتك لم يأتي في هذا اليوم... لينزلق لساني معك لأول مرة بأني هارب منك..........
تمت
[/font][/size][/color][/align]