لونك المفضل

المنتديات الثقافية - Powered by vBulletin
 

النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: بورتريه ..

  1. #1
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية علي عكور
    تاريخ التسجيل
    08 2009
    الدولة
    علي كَفّ عفريتْ
    العمر
    41
    المشاركات
    155

    بورتريه ..

    بورتريه

    وضعتُ الكاميرا على الحامل الثلاثيّ حتى لا تهتزّ , هيأتُ الإضاءة كالعادة , ابتعدتُ خطوتين و ألقيتُ نظرة فاحِصة , ثم اقتربتُ و انحنيت نصفَ انحناءةٍ . أغمضتُ عيني اليمنى و منْ خلالِ اليسرى صوّبتُ نظرَة امتدت من فتحة الكاميرا إلى وجههِ , كما يمتدُّ الموتُ اللامرئيّ منْ عينِ الصيادِ إلى هدفه .
    تِكْ .. ثم ظهرت الصورةُ بعد أن تمتْ معالجَتُها . تفحّصتها لدقيقة , تقلّصَتْ ملامِحُ وجهي , و أطلقتُ صرخَةً مُدوّيةً في داخلي : " أنتَ مصوّرٌ فاشل " .. " صديقي و أعرفه جيّدا .. هذه ليستْ عيناه , ثمّة شيء يختبئ في محجريهما لم يظهر في الصورة ؟ " و كنتيجة طبيعية لفشلي أعجبته صورتُه ..
    استحوذت عليّ فكرة أنّه لمن المعيبِ حقًّا أن تكونَ كاميرا مصوِّرٍ _ هاوٍ يريدُ الاحتراف _ أفضل منهُ !! و لأجلِ ذلك قرّرتُ أنْ أحطمها مثلما تُحطّمُ جماجِمُ الأعداء , لكنْ ليسَ قبلَ أنْ أمنَحَها قليلاً من الفرص . عمرها عامان و كثيرٌ من الصورِ الملوّنة و الكاذِبَة . اشتريتُها عندما تأكدتُ أنّ علاقتي بالرسمِ لن تكونَ أفضل بكثير من علاقةِ أخي الأوسط بالخطّ العربيّ ؛ حيثُ أنّ الحروفَ تظهَرُ كمُشرّدٍ منفوشِ الشعرِ ممزّقِ الثياب حينما يكتُبها !
    وجدتُ في التصويرِ رسمًا و لكن بطريقَةٍ أخرى , أو ربما أسهل .. لا أدري . كلاهما يوقف الزمن , يوقف الحياة و يأخذ منها إمضاءاتٍ مختلفَة تدينُها في وقتٍ لاحق .
    تِكْ مرّةً أخرى .. ثم ظهرت الصورة , و كالعادة صوتٌ داخليّ يرتطمُ بجدران رأسي : " أنتَ مصورٌ فاشل " و تتداخل حشائشُ الأفكار في بعضها : هذه الآلة بلهاء .. لا بل هم يتكلّفون .. ربّما الضوء يخيفهم و يكشفهم .. لا لا الزاوية لم تكنْ جيّدة ..
    " في البورتريه لا تكنْ مُجرّدَ مصوّرٍ عابر , كنْ أكثرَ من ذلك .. كن عالم نفس و اجتماع .. كنْ كاهنا و عرافا .. و التقط صورتك " هذه نصيحةٌ من مصوّر محترف لآخرَ هاوٍ .. أيضًا قال : " تحيّن اللحظة العفويّة للشخص الذي أمامك .. و التقط صورتك "
    اخترت الشارعَ مكانًا للظفرِ بلحظةٍ عفويّة , في أقصى الشارع ثمّة رجلٌ مسنّ , يجلسُ على كرسيٍّ خشبيٍّ أمامَ دكانِه القديم , يقلّبُ بأصابعِه المرتعشة حباتِ سُبحتِه البيضاء , مثلما يُقلّبُ أفكارَه المتزاحمة في رأسه , شَيبُه الأكثر بياضًا من الثلجِ يتناغمُ بجمالٍ صارخ مع شماغِهِ الداكنِ الحمرَة , و بعينين حائرتين ينظرُ إلى الأفق الأزرق . الحقّ أنني لم أكنْ أحلم بمنظرٍ كهذا تجتمعُ فيه ألوانٌ أثيرة عندي : زرقة السماء و بياض الشيب و احمرار الشماغ . كدتُ أصرخ منتشيا , كلّ الظروف مواتية لالتقاط صورة معبّرة . أيضًا عليّ أن أشكر السماء ؛ حيثُ أنها تبدو زرقاء هذا اليوم أكثر من المعتاد . أخرجتُ الحاملَ الثلاثي من حقيبتي بسرعة , ثبته و تأكدتُ من ثبات أرجله النحيلة على الرصيف , وضعتُ الكاميرا على رأسه و ثبتها جيدًا هي الأخرى , مازال الشيخُ ساكنًا , هادئًا مثل تاريخ قديم . ضبطتُ إعدادات الصورة , و جعلتُ ثلثي اللقطة على وجه الشيخ , و الثلث الباقي على صفحة السماء حسب قاعدة الأثلاث . انحنيت و أغمضت عينا و فتحت الأخرى , ثم ضغطتُ نصفَ ضغطة استعدادًا للالتقاط .. ببطء أدارَ رأسه ناحيتي , لقد شعر بوجودي , رفع طرف الشماغ المتدلي على صدغه و ابتسم , .. أكملت النصف الآخر من الضغطة .. تكْ .. ظهرت الصورة لكن دون عينين حائرتين , كالعادة صورة فاشلة ..!!
    كلما هممتُ بتصوير إنسان , قال لي : " دعني أتهيأ .. دعني أرتب ملامحي " ثم يبدو مختلفًا .. مبتسمًا أو جادًا أو أي شيء آخر , لكن ليسَ هو . في المقابل لم يحدثْ أن قالت لي وردة قبيلَ تصويرها : " دعني أميلُ قليلاً "
    قبلَ أن أعيد معدات التصوير إلى الحقيبَة , لمحتُ طفلاً يجلسُ على طرف حوض إسمنتي حوافه رخامية و بوسطه شجيرة ندية . لا يختلف عن الأطفال البائسين , ملابسه قديمة , و وجهه أكثرُ شحوبًا من قطعة قماش مهملة على حبل غسيل لسنوات , يضعُ إحدى يديه على خده الأسمر , و الأخرى يعبثُ بها في تراب الحوض , ينظر إلى أصابعه العابثة في التراب بانكسار يغلفه حزن شفيف , و يبدو في العاشرة من عمره أو أكبر بقليل .
    هذه فرصة أخرى . اقتربتُ منه مع المحافظة على مسافة لا تشعرهُ بوجودي , و في الوقت ذاته تسمحُ لي بالتقاط صورة بورتريه جيدة . اخترتُ زاويةً مناسبة , ثم كمن يغطي طفلا نائما و يخشى أن يزعجَه , وضعت الحامل الثلاثي على سطح الرصيف بهدوء . كالعادة ثبتُّ الكاميرا على رأسه ثم ضبطت قراءات الصورة . و صوبت نظري من خلال الفتحة الصغيرة نحو الشجرة الندية و الوجه الشاحب . نصف ضغطة على الزر الصغير لتتهيأ الكاميرا للالتقاط .. و قبل أن أكمل الضغطة رفع رأسه و رآني .
    تأملني قليلا , ثم عاد إلى عبثه في التراب بنظرة منكسرة يغلفها حزن شفيف , و كأنني لن ألتقط له صورة , لم يعرني اهتمامًا . كنت حقًّا خارج إطار عدسته التي يرى من خلالها الحياة ! فكرتُ : ماذا لو كان الآخرون مثله ؟ كنتُ ربحتُ عشرات الصور . أعدت إصبعي بفرح إلى الزر , و بنصف ضغطة هيأت الآلة لالتقاط الصورة , و قبل أن أكمل الضغطة جاءني من الخلف صوتٌ لرجل في منتصف عمره , امتد الصوت إلى الطفل : " ابتسمْ .. ابتسمْ "

  2. #2
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية عماد كرشمي
    تاريخ التسجيل
    06 2005
    الدولة
    مخابئ الريح
    المشاركات
    2,020

    رد: بورتريه ..

    يرتقون الصدع بوجوههم بخيوط شفافة ..
    يختبئون خلف أقنعة التجمل برغم القبح..

    علي عكور..
    تصوغ المفردات بسهل التعبير الممتنع المختلف..
    وصلت إلينا بانهمار أشبع لهفتنا للجمال

    رائع رائع
    كتــــاب

  3. #3
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية لوركا
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    08 2009
    الدولة
    Utopia
    المشاركات
    1,621

    رد: بورتريه ..




    علي :
    مرحباً بك ..
    التناول الفني للموضوع كان عالي ومتقن
    لكن التناول الموضوعي أصابني بالتشتت
    قرأتها مرتين وفي كل مره أخرج بفكرة وتأويل
    ثم إنه لعل ما انفك بات يستحق التثبيت




    التعديل الأخير تم بواسطة لوركا ; 30 -06- 2011 الساعة 03:22 AM

  4. #4
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية علي عكور
    تاريخ التسجيل
    08 2009
    الدولة
    علي كَفّ عفريتْ
    العمر
    41
    المشاركات
    155

    رد: بورتريه ..

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كتــــاب مشاهدة المشاركة
    يرتقون الصدع بوجوههم بخيوط شفافة ..
    يختبئون خلف أقنعة التجمل برغم القبح..

    علي عكور..
    تصوغ المفردات بسهل التعبير الممتنع المختلف..
    وصلت إلينا بانهمار أشبع لهفتنا للجمال

    رائع رائع
    أجمل ما في الوجود , كتاب ..
    تحية صباحية تليق بك أيها الكريم .

    شكرا لكلماتك الدافئة .

  5. #5
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية علي عكور
    تاريخ التسجيل
    08 2009
    الدولة
    علي كَفّ عفريتْ
    العمر
    41
    المشاركات
    155

    رد: بورتريه ..

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة لوركا مشاهدة المشاركة


    علي :
    مرحباً بك ..
    التناول الفني للموضوع كان عالي ومتقن
    لكن التناول الموضوعي أصابني بالتشتت
    قرأتها مرتين وفي كل مره أخرج بفكرة وتأويل
    ثم إنه لعل ما انفك بات يستحق التثبيت



    أهلا بنبض الحرف , لوركا
    كنت أخشى أن تكون الفكرة مباشرة جدا
    لكن تعليقك طمأنني قليلا .
    و قريبا أيضا من محور النقاش , أن يحمل النص
    فكرتين ليس مما يعيبُه موضوعيا , شرط أن تكون الفكرتان
    تسبحان في فلك فكرة عامة , هما بالنسبة لها كالجنينين المرتبطين بمشيمتها . و هذه وجهة نظر
    شخصية قابلة للأخذ و الرد . أيضًا مما يرحّبُ به في القصّ الحديث أن يكون النص الواحد
    قابلا لتعدد القراءات و التأويلات في مساحة لا يخرجُ منها إلى فضاء الإبهام و الإلغاز .
    و بالعودة إلى نصي , لستُ متأكدًا من تحقيقه شروط المعالجة الفنيّة و الموضوعية للفكرة التي أردت أن أعالجها , و على أية حال أرجو أن أكون قد وُفّقت و لو قليلا .

    ماتعٌ هو الحديث معك
    و تحية تليقُ بك و ترشّك برذاذِ الندى .

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •