هناك أربعة فنانين بلغوا مرحلة النضج فيما بين 1880 و 1900م ويعد رواد الفن الحديث في القرن العشرين هؤلاء الفنانون هم سورا وسيزان وفان جوخ وجوجان وجميعهم قد بداءوا حياتهم الفنية بالانطباعية أو تأثروا بها على الأقل في مرحلة من مراحلهم واستفادوا بتجديداتها فيما يتعلق بتحرير اللون من أساليب استخدامة التقليدية إلا أنهم تجازوا نطاق هذه المدرسة واتجهوا بها اتجاهات جديدة خرجت بها عن قاعدتها الأساسية عند مونية وهي التعبير التلقائي عن المعطيات البصرية المباشرة ويمكن القول على وجه الأجمال إن سورا وسيزان بالرغم من اختلافهما الجوهري قد اتجها بالانطباعية نحو صورة جديدة من صور الكلاسيكية على حين سار فان جوخ وجوجان بالرغم من اختلافهما كذلك إلى نوع جديد من أنواع الرومانتيكية


فان جوخ
Van Gogh

لم تقل حياة فنسنت فان جوخ 1853-1890 جهدا وكفاحا عن حياة سيزان ولكنه كان جهادا من نوع آخر ذلك أن الوحي عند سيزان كان مصدره الإحساس البصري ، أما الشعر كما يقول فيأتي من نفسه على حين أن الوحي عند فان جوخ مصدر الطاقة النفسية وقد تجلت هذه النزعة التعبيرية حتى في بداية حياته الفنية أو ما يسمى مرحلته الهولندية .. وبعد ذلك رحل فان جوخ إلى باريس فطفق يدرس النظريات والأساليب الفنية الحديثة ويجربها في لوحاته كما اهتم بدارسة الفني الياباني وتأثر به ولكنه كان يبحث طوال الوقت عن أسلوب خاص يعبر به عن ذات نفسه ولم ينضج أسلوبه إلا في السنتين الأخيرتين من حياته القصيرة وكان أسلوبه في المرحلة السابقة يعتمد على الوصف المعبر متأثرا في ذلك بمييه أما في أسلوبه الأخير فإنه يعتمد إلى التعبير عن نفسه هو بواسطة الألوان مباشرة ، غير متخذ من الطبيعة سوى مجرد ذريعة لهذا التعبير وقد شرح ذلك في رسالة لأخيه حيث يقول : إني من بدلا من محاولة نقل ما أراه نقلا أمينا استعمل الألوان اعتسافا ( أي بدون تقيد بالطبية ) من أجل التعبير عن نفسي تعبيرا أقوى " وفي سبيل هذا التعبير يلجأ فان جوخ إلى لمسات الفرشاة المعتمدة الألوان التي تعلمها أصلا من الانطباعيين إلا أن لمسته كانت أعرض وأشد كثافة وانطلاقا فهو على خلاف سورا ، وحساباته اللونية الدقيقة كان يزحف بفرشاته زحفا ويستخدم ألوانه الحارة النابضة في صورة لهب متصاعد أو صورة موجات تمور وتتدفق فتعبر أبلغ تعبير عما كان يجيش في نفسه من عواطف عارمة ومشاعر متقدة ،، ويعد فان جوخ رائد الحركات الوحشية والتعبيرية في القرن العشرين فقد استلهمه التعبيريون الألمان بعد الحرب العالمية الأولى كما استلهمه بعض التعبيريين التجريديين بعد الحرب العالمية الثانية ...

بول سيزان
P.Cezanne

ويلقب بول سيزان بأنه إمام الفن الحديث وقد أراد هذا الفنان أن يجعل من الانطباعية على حد تعبيره - شيئا متينا راسخا مثل آيات المتاحف _ فهو قد أحس مثل بضرورة العودة إلى نوع من الكلاسيكية ولكن سيزان لم يخرج مثل سورا على قاعدة الإحساس بالطبيعة ولم يعكف مثله عل البحث في قوانين الجمال والانسجام وإنما خرج فقط على قاعدة التعبير التلقائي عن الاحساسات البصرية العابرة وأراد أن يجعل من الإحساس المباشر بالطبيعة على نحو ما أدركه الانطباعيين أساسا لبناء فني يضارع في جلاله ورسوخه روائع الفن الكلاسيكية ولكن البناء في الفن الكلاسيكي كما عند بوسان مثلا هندسي وهو اشهر مصوري المناظر الطبيعية الفرنسيين في القرن السابع عشر يقوم على نظام هندسي يفرضه الفنان فرضا على أشكاله الطبيعة فالهندسة والطبيعة في هذا الفن شيئا مختلفان وهذا ما لم يقبله ومن هنا كان دوره الخطير في تاريخ الفن فهو يطلق العنان لإحساسه بالطبيعة ويسعى جهده للتعبير عن وقعه المباشر في نفسه .ولكنه يتعمق هذا الإحساس غير قانع بالانطباع العابر حتى يتخذ قواما ونسقا وإيقاعا وبهذه المادة الحية النابضة يبني لوحته خطوة خطوة وهذا ما كان يعنيه بقوله إنه يريد خلق فن بوسان من جديد وفقا للطبيعة .
ثم إن الهندسة عند الكلاسيكيين لكونها هندسة ذهنية تعتمد أساسا على تنسيق الخطوط كما عند الانطباعيين نبضات لونية تتنوع درجاتها كثافة وحرارة وحدة ولذلك يتخذ اللون في لوحاته كما في لوحاتهم صورة لمسات صغيرة إلا ا، الانطباعيين كانوا يقنعون بمجر تجاور هذه اللمسات أما سيزان فيتخذ من النبضات اللونية أداة تجسيم وأداة بناء وهذا أما يسميه تنغيم الألوان الذي يتحل عنده مكان في الفن الكلاسيكي ومن أقواله المأثورة في هذا الصدد - عندما يبلغ اللون حد الامتلاء يبلغ الشكل حد الاكتمال - وقد جاهد سيزان جهادا طويلا عسيرا في سبيل الوصول إلى النوع الجديد مكن الكلاسيكية دون التضحية بحيوية الإحساس المباشر ونبض الألوان فأمضى حياته وهو ينحت فنه كمثال ينحت الصخر وأحيانا كان يستند به اليأس فيمزق لوحاته إربا أو يقذف بها من النافذة أو يتركها في الحقل بعد عنائه طيلة النهار فقد كان يدرك ما يريد فلم يقنع بشي دون الغاية التي وضعها نصب عينيه فكان جبلا شاهقا منيعا وسط قمم الفن الحديث .




جورج سورا
George Seurat

وقد اجتمعت في جورج سورا ( 1809-1891 ) نزعتان متناقضتان نزعة تحليلية موغلة ونزعة تركيبية صارمة كما اجتمعت لدية وجهان آخران على طرفي نقيض هما الشاعرية المرهفة والعقلانية المفرطة إلى حد العمل على وضع قواعد شبة علمية لكل خط ولكل لمسة لون فقد أراد من ناحية السير بالنزعة التحليلية عند الانطباعيين إلى آخر الشوط فلم يقنع بتحليلهم ألوان إلى ألوان طيف الشمس وأنما مضى فحلل هذه الالوان السبعة إلى الالوان الرئيسية الثلاثة وإذا كان مذهب الانطباعيين قد حملهم على استعمال اللون في صورة لمسات صغيرة فإن منهج سورا قد أدى به إلى وضع الالوان سدح اللوحة في صورة - نقط متجاورة - ومن هنا سمى هذا الاسلوب بالتنقيطية - Pointillisme - واعتمد في تنسيق هذه النقط على درسة مستفيضة لآخر النظريات في علم البصريات وكيمياء الالوان . .. غير أن سورا من الناحية الاخرى اهتم اهتماما بالغا على خلاف الانطباعيين بتركيب عناصر فأنتهى به الامر إلى الكشف من جديد عن قواعد الفن الكلاسيكي فيما يتعلق بالتناسب والهارمونيا والقطع الذهبي ونحو ذلك ... على انه لم يلجأ على خلاف فناني عصر النهضة إلى علم المنظور الثلاثي الأبعاد وانما استوحى الفن الياباني في ابداع نوع المنظور المسطح يقوم بالأخص على الخطوط الإيقاعية الانسيابية لا على الخطوط المستقيمة التي تلقيى عند نقطة واحدة على خط الأفق ثم زاد على ذلك فسعى إلى وضع قواعد شبة علمية في استخدام الألوان بالخطوط الصاعدة للتعبير عن الحالات النفسية المختلفة ومن هذه القواعد مثلا أن البهجة تستشار بالخطوط الصاعدة مقترنة بالألوان الفاتحة والدافئة والهدوء والسكينة بالخطوط الأفقية مقترنة بالتوازن بين درجات الألوان الدافئة والباردة والكآبة بالخطوط الهابطة مقترنة بالألوان القاتمة والباردة ..ولكن في سورا لو انحصر في التنقيطية وفي حساباته اللونية ومختلف قواعده شبة العلمية لما كان له شأن يذكر فإنما تكمن قيمة سورا في انه أولا خرج على التلقائية الانطباعية وأعاده إلى سابق قوامه الهندسي دون أن يعود من ذلك إلى الظلال القائمة الكدرة بل مع مزيد من صفاء الألوان وتمكن قيمته ثانيا- في خروجه على النزعة الناتورالية التي سادت بخاصة منذ مدرسة باربيزون إذ جعل الإحساس الجمالي وليس الإحساس بالطبيعة أساس الفن فكان له بذلك وبهندسته دور هام في نشأة الحركة التكعيبية على قيمة سورا الكبرى هي في أنه أدرك بالرغم من اهتمامه البالغ بالنظريات والقواعد أن كل ذلك قد ينشيء نظما موزنا ولكنه لا ينشئ شعرا فأعتمد في خلق لوحاته على الهامه واحساسه المرهف ولم يرجع إلى هذه القاعدة إلا كما يرجع الشاعر إلى القواميس أحيانا قصد التصويب أو خشيته الزلل .

بول جوجان
Paul Gauguin

لم يتأثر فنان في هذه الفترة بالفن الياباني مثلما تأثر به فان جوخ - 1848-1903م على انه يتأثر بهذا الفن وحده وانما تأثر كذلك بمختلف فنون الشرق القديمة كالفن الكامبودي والفارسي والمصري ، وفنون العصر الوسيط كما تأثر بفنون الشعوب البدائية في الجز النائية التي قضى فيها آخر أعوامه والواقع أن جوجان قد مثل بحياته وفنه تلك الروح التي ظهرت بصورة رومانتيكية في مطلع القرن التاسع عشر ثم أخذت تتحول إلى انقلاب ثوري في أواخر هذا القرن ونعني بها روح التمرد على نطاق القيم والتقاليد والفنون التي قامت عليها الحضارة الغربية منذ عصر النهضة وأنه لتكفي هذه الصفة في جوجان لعده من رواد القرن العشرين ... وقد بدأ جوجان حياته متأثرا بالأسلوب ومال إلى أسلوب آخر أشظف قواما وأضرم ألوانا ثم لم يلبث أن تبلور هذا الأسلوب واتضحت معالمه فهو يقوم على بسط الألوان الصريحة في مساحات عريضة مسطحة والفصل بين الأشكال بخطوط سميكة قوية موجزة وقد أراد بهذا الأسلوب أن يجعل العمل الفني معادلا تشكيليا لما سماه بالفكرة وأطلق على مذهبه هذا اسم - الرمزية - غير أن الفكرة والرمزية تعنيان هنا شيئا آخر غير معناهما المألوف فالفكرة عنده أقرب إلى الرؤيا التي تنبع من النفس وتختمر في الذهن ويجسدها الخيال والرمزية عنده تعني قدرة ذلك المعادل التشكيلي على الإيحاء بهذه الرؤيا وهكذا خرج جوجان على ميدان محاكاة الطبيعة كما خرج على ميدان مبدأ التجسيم فهو في لوحاته لا يقلد الواقع وانما يحرف خطوط هذا الواقع تحريفا صريحا ويغير ألوانه عمدا ليجعل منها صورة توحي بالفكرة لا صورة تصف والعالم الذي يطالعنا في لوحاته بالوانه العريضة المتوهجة وخطوطه القوية يوحي بنوع من الوحشية وأحيانا بعنصر درامي على انه عالم حافل كذلك بأسرار غريبة هي دون ريب من آثار سحر غامض قديم .



تحياتي الجحفانية