أطفال فلسطين...أزهار تذبل خلف القضبان
في الوقت الذي ينام فيه أطفال العالم صُنّاع الحياة..أمل المستقبل في أحضان أمهاتهم يحلمون بغد جميل ومزهر، يُحرم الأطفال الفلسطينيون من أدنى مقومات الحياة، ويختطف الاحتلال منهم أبسط حقوقهم، زاجاً بهم خلف قضبان السجون في غرف مظلمة لا تدخلها أشعة الشمس.
إسرائيل -ومنذ أولى سنوات انتفاضة الأقصى المباركة- استهدفت أزهار فلسطين، وما زال منظر قتل الطفل "محمد الدرة" بدم بارد عالقاً في أذهان العالم بأكمله.
اعتقلت السلطات الصهيونية منذ بداية الانتفاضة ما يزيد عن (3000) طفل فلسطيني كوسيلة ضغط على المقاتلين الفلسطينيين، وبعد أن أخفقت في ثني المقاومة، تعمل حالياً على إبقاء المئات منهم داخل أسوار السجون كورقة ضغط سياسية في المفاوضات النهائية، تاركة عائلاتهم وأمهاتهم يذوقون الألم والمرارة.
صهيل الذكرى
خارج السجن حيث مسقط الرأس لهؤلاء الأزهار، وحيث الحنان والأشواق القادمة على نسيم طال وصوله، ذهبنا إلى بيوت بعض أهلهم لنسمع صهيل ذكرى، تخبرنا عن حياتهم، عن اعتقالهم، والتقينا مع الطفلة نور كايد (15) عاماً، شقيقة الأسير الطفل معتز كايد (16) عاماً، والذي اعتقلته القوات الإسرائيلية في حملة مداهمات لبلدة ديرستيا في الضفة الغربية دون إيضاح الأسباب.
سألناها عن شقيقها معتز، فوصفت لنا هجوم الجنود الإسرائيليين على منزلهم ليلاً، مشيرة إلى أن شقيقها كان نائماً في تلك الليلة في بيت جدها، وقالت: وحين لم يعثروا على شقيقي أنزلونا من البيت، وأخرجونا للشارع، ثم سألوني عن أخي معتز.
وتابعت: كانوا كالوحوش التي خرجت لأول مرة من مغاورها، وأضافت: قاموا بمداهمة بيت جدي القريب من بيتنا وسط إطلاق النار، وشعرت بالخوف الشديد على أخي عندما أطلقوا الرصاص، وبقيت أسأل أمي: لماذا اعتقلوه، فلم تجبني، فأحسست بالحزن الشديد لغياب أخي عنا.
وتستشعر نور بحزن قائلة: الفراق والحزن الشديد والغضب على هؤلاء الهولاكيين ترك عندي فراغاً لا يقاوم، أمي لا تستطيع تناول طعام "الإفطار" في رمضان بسبب اعتقال أخي، وأنا تراجعت علاماتي المدرسية ودائم التفكير فيه!!
منع..الزيارة
في مخيم العين، غرب مدينة نابلس، مشينا، وفي هذا المكان الذي بدت على جدرانه تفاصيل حياة طالت السماء شموخاً بصمودها، بين تلك الأزقة الضيقة على المارة، على الحياة، على اللقاء كانت زيارتنا إلى بيت الطفل الأسير يوسف فؤاد أبو خليفة، (17) عاماً، كُتب على باب منزله "سنظل صامدين" دخلنا البيت إلى غرفه القليلة الضيقة، تحدثت إلينا والدته التي أخذ الزمن من تضاريس وجهها، واحتله الألم ومرارة الفقدان، تكلمت بقدر لوعة البعد عن ابنها، قائلة: اعتقلوه من البيت لمجرد اعتراف من غيره بتهمة لا أساس لها من الصحة، منذ أكثر من عامين لم أره، لا أدري ماذا حل به؛ فسجون "تلموند وهدريم" لا يُسمح لنا بالتكلم معه فيها حتى عبر الهاتف، كما أن الزيارة من مدينة نابلس ممنوعة، وقد غيّرت عنوان هويتي إلى طولكرم حتى أستطيع زيارته.
ومن الجدير ذكره إلى أن أهالي مدينة نابلس سواء كانوا رجالاً أم نساء لا يُسمح لهم بزيارة أحد من أقاربهم في السجون الإسرائيلية، مهما كانت ظروف حياتهم، وكأن مدينة نابلس وأهلها أو حتى أهالي الأسرى يشكلون زلزالاً جديداً لا يمكن الاقتراب منه.
وتتابع أم يوسف: حكموه ثلاث سنوات، ولا توجد أي مساعدات إلا الصليب الأحمر، فاضطررت إلى الاستعانة بمحامي إسرائيلي، وتسلم ملف ابني يوسف، وهذا يكلفني مبلغاً كبيراً، بالإضافة إلى غرامة كبيرة.
دموع ممزوجة بالألم
وفي جولتنا الطويلة، وما زلنا نسبح في بحر آلام الأمهات اللواتي يندبن حظوظهن لفقدان فلذات الأكباد. التقينا والدة الأسير الطفل، فريد عبد المجيد، (14عاماً) من محافظة سلفيت، تم اعتقاله بتاريخ 30/7/2005 دون تحديد تهمة واضحة، تحدّثت إلينا الوالدة وهي تجلس على فراش الحلم الذي ضاع بين وجنات الزمن، دخلوا إلى البيت، كأنهم مجموعة ذئاب جائعة تبحث عن فريستها، لم يسيئوا معاملته فقط، بل وأساؤوا معاملة باقي أفراد الأسرة، ولم يسمحوا لنا حتى بوداعه.
وعبّرت والدة فريد عن خوفها الشديد عليه، قائلة: لا أنام الليل أفكّر به ليلاً نهاراً، مشيرة أن إخوته حين جلسوا على طعام "الفطور" في أول أيام رمضان، نزلت الدمعة من عيونهم، ولم يستطيعوا تناول الطعام، إلا بعد ساعات من رفع الأذان.
تهديد ..استفزاز
أما الأسيرة الزهرة يسرى محمود عبده (17) عاماً، والتي اعتقلت بتاريخ 13/9/2004 فتروي ظروف اعتقالها لمحامية إحدى مؤسسات حقوق الإنسان، والتي زارتها في المعتقل "أثناء توجهنا لمعسكر حوارة، تعرضت لاستفزاز أحد جنود الناقلة بوضع رأسه عليّ لينام فدفعته، وبعد إجراء الفحص الطبي لي وضعوني في غرفة غير صحية دون حمام ومليئة بالحشرات، ولا يتوفر فيها غير كرسي واحد، وتتابع "عبده" لقد منعوني من الذهاب للحمام وحرموني من الطعام لمدة يومين، واضطررت للنوم على الكرسي، وكانت معاملة المجندات المناوبات سيئة للغاية، فقد كن يشتمنني باستمرار ويقمن بتهديدي بالقتل، وفي اليوم الثالث نقلوني على متن دورية "البوسطة" وجابوا بي الشوارع من ساعات الصباح إلى ساعات المغرب، ثم نقلوني لسجن الرملة، وعند وصولنا لسجن الرملة قام عدد من المجندات بتفتيشي مع مجموعة من المعتقلات تفتيشا عارياً.
وعن ظروف الزنازين تصف يسرى عبده الوضع "بالسيئ للغاية" وتقول: "إن لون الجدران رمادي، وخشنة الملمس بحيث لا تسمح لأحد الاتكاء عليها، وتفيض بها المجاري، و القبر أهون منها، فلا يمكن للأسير أن يستند إليها، ولا يمكنه أن يأكل من شدة القذارة والرائحة الكريهة التي تسود المكان".
جاري التحقيق..!!
أما مخيم بلاطة شرق مدينة "نابلس" في الضفة الغربية فلم يختلف الوضع فيه كثيراً، فأجواء رمضان خطفها الاحتلال بجرائمه المستمرة منذ أكثر من خمس سنوات، الناس في المخيمات الفلسطينية يجمعهم الفقر ويوحّدهم حبّ الوطن، سرنا في هذا المخيم، وقد رأينا طفلاً يقارب عمره عشرة الأعوام، وفي كفه يحمل بندقية أطفال. كان هذا الطفل شقيق الأسير "محمد تيسير حشاش" ذي الأربعة عشر عاماً.
تم اعتقاله أثناء محاولته إلقاء عبوة ناسفة انفجرت به قبل إلقائها، فأُصيبت يداه الاثنتان، وأدت إلى شللهما جزئياً، وأُصيب بشظية برقبته، وشظية أخرى في صدره، ثم اعتقل بعد ملاحقة سيارة الإسعاف التي كانت في طريقها إلى المستشفى هكذا روت والدته.
وتتابع الوالدة -التي ظهرت علامات المرارة عليها بعد اعتقاله-: تم نقله إلى سجن "تلموند" وهو في حالة خطرة، ثم نُقل إلى مستشفى "تل هشمير" ثم إلى حوارة وعلى الرغم من أن الألم ما زال يعتصره لم تتوقف صواعق التحقيق.
وتضيف والدته قائلة: لم يبق لديّ عقل، كنت أبكي، أصوّت، وما زلت أتألم، الفراق ليس المصيبة الوحيدة، بل كيف سيبني هذا الطفل مستقبله ويداه شبه مشلولتين، وعمره أربعة عشر عاماً.
وزارة شؤون الأسرى
وأظهر تقرير حول الأسرى الأطفال مؤخراً، أعلنته وزارة شؤون الأسرى والمحررين بتاريخ 19/2/2005 - أن قوات الاحتلال الإسرائيلي لا تزال تعتقل (321) طفلاً فلسطينياً من كافة المحافظات في السجون ومراكز التحقيق والتوقيف الإسرائيلية من بينهم (11) طفلة، أكدت دائرة الطفولة والشباب في الوزارة في تقرير موسع أصدرته اليوم أن أكثر من (450) أسيراً كانوا أطفالاً لحظة اعتقالهم، وتجاوزوا سن الثامنة عشرة، ولا يزالون في الأسر حتى الآن.
وبلغ عدد الأطفال الأسرى من مدينة نابلس (120) معتقلاً، وأوضح التقرير أن الأطفال الفلسطينيين الأسرى في السجون والمعتقلات الصهيونية، يعانون من ظروف احتجاز قاسية، وغير إنسانية تفتقر إلى الحد الأدنى من المعايير الدولية لحقوق الأطفال، وحقوق الأسرى مشيراً إلى أنهم يعانون من نقص الطعام، ورداءته، وانعدام النظافة، وانتشار الحشرات، والاكتظاظ، والاحتجاز في غرف لا يتوفر فيها تهوية وإنارة مناسبتين، بالإضافة للإهمال الطبي، وانعدام الرعاية الصحية، ونقص الملابس، وعدم توفر وسائل اللعب والترفيه، والتسلية والانقطاع عن العالم الخارجي، والحرمان من زيارة الأهالي، وعدم توفر مرشدين وأخصائيين نفسيين، والاحتجاز مع البالغين إضافة إلى الاحتجاز مع أطفال جنائيين وإسرائيليين والإساءة اللفظية، والضرب، والعزل، والتحرش الجنسي، والعقوبات الجماعية، وتفشي الأمراض، كما أن الأطفال محرومون من حقهم في التعليم.
وروى الطفل الأسير ياسين ياسين الذي اعتقل في بداية أيلول من منزله في قرية عصيرة القبلية بمحافظة نابلس لمحامية وزارة الأسرى (موران خوري) كيف يحتجز هو وزملاؤه الخمسة في زنزانة صغيرة وقذرة ويوضح الطفل ياسين تفاصيل احتجازه لمدة (72) يوماً متواصلة، هو وخمسة أطفال آخرين في غرفة صغيرة، تفتقر إلى الإنارة، والتهوية، ولا يوجد بها نافذة، ويضيف الطفل الأسير، يمنعوننا من الصلاة داخل الزنزانة على الرغم من أنهم أدخلوا إلينا بعض المصاحف، يمنعون أهلنا من زيارتنا منذ بداية اعتقالنا، الصليب الأحمر الدولي هو الذي يسمح له بزيارتنا فقط.
وتقول المحامية خوري: إنه يتواجد في سجن الجلمة ستة أطفال دون سن الثامنة عشرة يعيشون في ظروف مأساوية للغاية؛ فالحشرات والرطوبة هي أهم ما يميز حياتهم هناك، والملابس الوسخة ذات الرائحة الكريهة هي أهم ما يميز هؤلاء الأطفال؛ فإدارة السجن ترفض السماح لهم بإدخال ملابس نظيفة، وأكّدت محامية وزارة شؤون الأسرى أن الغرفة المخصصة للمحامين لمقابلة الأسرى صغيرة جداً، ولها نافذة واحدة صغيرة وموجودة في أعلى جدران الغرفة، وهي باردة جداً، ولا يوجد بها أي تدفئة ولفتت المحامية إلى أن ممرات السجن قذرة للغاية ومهملة، وفي نهاية إحدى المباني يوجد مطبخ السجن الذي يقوم الطباخون الإسرائيليون بإعداد الطعام بطريقة غير صحية؛ فالطعام هناك عبارة عن معكرونة مسلوقة بدون لحمة وكميتها قليلة جداً، بالإضافة إلى قطعة صغيرة جداً من الخبز وتفاحة واحدة.
قانون مغيب..وأمل حاضر
أولى المجتمع الدولي منذ النصف الثاني للقرن الماضي اهتماماً خاصا بوضع أطر قانونية محددة تكفل للطفل الرعاية والحماية، وذلك من خلال الإعلانات والاتفاقيات الدولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، ومن ثم صدر العهدان الدوليان الخاصان بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 1966، بالإضافة إلى جملة من الإعلانات والاتفاقيات الخاصة بحماية فئة من الفئات التي تعاني تهميشاً في مجتمعاتها كالنساء والأطفال.
إلا أن إسرائيل ما زالت تضرب بعرض الحائط بكل الاتفاقات الدولية، وتصر على كسر إرادة الشعب الفلسطيني، متناسية أن السلاح لا يمكن أن يتجاوز حقائق التاريخ، والذي يؤكد أن ارداة الشعوب لا تُقهر، وتوازياً مع كتابة هذه الكلمات يستمر الأسرى الأطفال في السجون الإسرائيلية يبحثون عن بصيص أمل يهديهم إلى وهج الحرية ونورها.